للمبدعين جينات فريدة..

هيام فؤاد ضمرة..

قلما تتاح لي الفرصة لامتلاك الوقت الكافي لصيد اللحظة السانحة للتسلل عبر ثنايا الجوجل وتصفح مدارات آفاقه، إنما في حال خدمني الوقت وولجت آفاق تحصيناته، حتى تجدني في أوج نشاطي أروح أرتشف من كؤوس محتواه ما يشد ذائقتي ويشبع نهمي، فأجدني أغوص مقلبا طياته، وطاوياً حالاته على ما تعبأ قدر كأسي، وأقفز عما لا يثير اهتمامي ويحرك لباليب ذهني في بوتقة فكرية تأسر خاطري

البعض يأتي الحياة وهو يحمل في سلسلة جيناته كيميائية فريدة مختلفة عن الآخرين، جينات العبقرية والذكاء اللماح والقدرة على تفجير الابداعات، لكن طاقات ابداعه قد تكون متوارية خلف طبيعة محددة في الشخصية قد لا تكون ايجابية كما نتصور، وقد تغرق بالسلبية إلى حد ما، وقد يطول أمد حالتها إلى ما يشاء الله من الزمن، إلى أن تظهر حالة العبقرية بكامل قوتها في لحظة تحول سريع، فما يميز انسان عن الآخر هو العقل وقدراته العامة وابداعاته واستناراته وقدرته على تغليب الجانب الايجابي على جانب أقل ايجابية أو سلبية كان عليها، فيحصل أن يقوم العقل بإعطاء أوامره بتحفيز طاقاته الابداعية وتمنحه صفات جديدة كانت كامنة ، فيشتد لديه التحفيز لاستمرارية الدفع الذاتي، وتشتغل داخل خلايا دماغه قوة تنير أمامه درب طويل وجديد من الانتاج الابداعي، في زاوية هي في صميم حقل اختصاصه وعلمه واهتمامه حتى الوصول إلى قمة الهدف الذي وضعه لنفسه وحدد لذلك أقصر الطرق إليه، ومن جدّ وجد، ومن سار على الدرب وصل.

فالعقل مصنع التفكير، والتفكير المبدع والحكيم هو أعلى مراتب الإدراك في العقل البشري، فالعقل المتميز هو ذلك الذي تتحدد ميزاته بامتلاك الوعي والإدراك، الابداع الخلاق، الفكر المستنير، العلم والثقافة.. إذن فالتفكير والتركيز وسعة العقول ولينها نعمة العقلاء المفكرين، الذين تتكيف عقولهم على بث الفكر الخلاق المحلق بما يمنح النور والانبلاج وفق رؤيا ابداعية غير مسبوقة، الذي يعم ليفيد؛ ويفيد ليعم.. وعلى هذا جعل الله العقل في الشريعة والدين مناط التكليف، فالواعي المدرك السليم العقل معني بتكليف بناء الأرض وما عليها، والفاقد للعقل يسقط عنه التكليف ويرفع عنه القلم، ويكون في حسبة الأطفال الناصعة صفحتهم.

والحقيقة أنّ للعقل البشري حدود وطاقات لا يستطيع أنْ يتخطاها ويتجاوزها وحده دون تدخل خارجي، لذلك هو دائماً بحاجة لعملية انعاش ذهنية وإذكاءات فكرية لمنحه قدراً أوسع منَ الوعي في جوانب حياته، وما هو مطلوب منه التفكير فيه لاتخاذ حيطته، ولازدياد وعيه وتوسيع حدود مداركه وآفاق طاقاته العليا، ويجد أهل التخصص من العلماء أنّ التعريف التقليدي للموهبة الابداعية والتفوق الفكري والعقلي هو بالغالب تعريف يحدد المقدرة الإجرائية المبنية على قدرة الشخص نفسه على استخدام محك الذكاء المرتفع في العقل البشري واستخدامه جيداً على الوجه الصحيح، وعلى هذا توصل تيرمان إلى وضع مقاييس لاختبار الذكاء عند المبدعين والموهوبين مع وضع حدود فارقة بين ما يعنيه مصطلح الموهوب والمتفوق، لأنهما مختلفان جدا في المعنى، وعلى هذا حدد نسبة الذكاء بالرقم 140 كحد فاصل حسب مقياسه بين الموهبة والتفوق، فالمتفوق يتسم بنمو لغوي واضح يفوق المعدل الطبيعي منذ الصغر، ولديهم مثابرة واضحة أيضاً في العمليات العقلية الصعبة، وقدرة على الربط والتشكيل والتفسير والتعليل، وتنوع ظاهر في الميول والهوايات والاعمال المتقنة بدقة وجمالية، والموهبة قدرة عقلية تفوق الحد الطبيعي وترتفع بمستواها للحد الأعلى.

وإنّ الموهبة تولد التفوق والتفرد وهذا بحد ذاته مورد بشري يمكن ترويجه واستثماره اعلامياً أو اقتصادياً، وعلى هذا فالعقل البشري ممكن أن يكون أداة تطوير حقيقي، والتسبب في حل مشكلات معقدة أو تحقيق في زيادة انتاج أو أرباح، وتطوير منتج أو اختراع جديد، ولأنّ الابداع أحد جوانب الذكاء فقد اجتهد العلماء في دراسة الذكاء وعقول أصحاب المواهب للاستفادة منهم كموارد بشرية في أدوات التقدم الحضاري.

فالابداع في النهاية هو الاتيان بالجديد المبهر، أو بالجمال المتفرد المسحر، وقلب التقليدي إلى غير تقليدي، ورؤية الأشياء المألوفة بطريقة غير مألوفة، وتنظيم الأفكار وبعثها بطريقة منتظمة ومبهرة وموصلة، هي طاقة عقلية غير عادية ومنضبطة بصورة تثير الدهشة، وتحول العقل إلى شعاعات منيرة كمصدر فاعل في العملية التنويرية، وامتلاك خاصية الفطنة والعقل اللماح، والقدرة على التفكير العميق وادخال الفكرة في حقل نشط من الاشعاعات، فالعقل مركز التميز والابداع والتفكير

فما الذي يميز عقول المبدعين والموهوبين؟

يقول أرسطو أنّ قدرة الشخص في أنْ يماثل بين منطقتين منفصلتين من الوجود ويحدد الرابط بينهما فهذا الشخص حتماً موهوب ومبدع ، وإنْ كان يملك مخيلة قوية وعزم جبار لليبحث عن وسيلة لتحقيق المتخيل فهو حتماً صاحب ذكاء عالي وموهبة عالية، فالبحث عن غير الموجود لايجاده هو بحد ذاته موهبة، فطريق الاختراع مرصوف بحكايا الموهوبين الأذكياء، فالموهوب الذكي ابداعه يرسله إلى عوالم لا يطرقها سواه، مما يمكنه من اكتشاف غير المكتشف.. فالمبدع يملك عيون وآذان ولوامس لا يملكها سواه لشدة حساسيتها، فهو يرى بغير عيون ويسمع بغير آذان ويتلمس بغير أنامل، ففي داخله نسخة أخرى من الحواس منسوخه على دماغه، يملك قوة استشعار بلا قرون استشعار، فعقله سريع العمل واسع الرؤيا، يملك طاقة اندفاع هائلة، وأفق بلا سقف، فالمبدع ينظر للأشياء أو للمشاكل والأزمات بصورة مختلفة تأخذه بالغالب إلى الحلول، فهو يدرك غير المُدرك، وأروع ما فيه أنه يفكر بالمتناقضات بصورة عبقرية مختلفة عن الآخرين، ويربط التحليلات بأمور غير عادية، حتى في حديثه فهو لا يطرق الكلمات والتعبيرات التي يطرقها سواه، في مشمل القول أنه مختلف بتميز

هل الابداع صنعة بشرية؟

ممكن أن يكون صنعة بشرية إذا ما تواجدت بعض أساسيات الشخصية الابداعية بنفس الشخص، كسعة الأفق والفضول الايجابي والسعة الثقافية وتنوعها، فقط عود نفسك على توجيه الأسئلة لنفسك حول الأشياء والمرئيات فينتعش بك العقل لايجاد الأجوبة والبحث عن المتداري لفهم الأمر على حقيقته، فإذا ما تواحد العزم والاندفاع الذاتي لايجاد غير المتواجد اشتغل العقل بأعلى طاقته وأبدع صاحبه، فكل شيء مرتبط أيضاً بالارادة الذاتية وحسن اتخاذ القرار.

فالتمتع بنشاط فكري ظاهر يطور الهوايات الابداعية، ويركز على الأساسيات المفيدة ويحدد مكمن الحلول، وغالبا ما يملك قوة التحكم بالمشاعر والغرائز، ويسيطر على ردود أفعاله وانضباطه وبالتالي يتحكم بواقعه ويوازن بين الأشياء.. وبالنهاية فالعقل المفكر الواعي والعقل المتوازن بطريقة مبتكرة غير عادية هو نفسه العقل الذي يصدر الذكاء ويحقق الموهبة والابداع.