" ما أروع هذا البناء ! ما أعظم أجدادنا ! "
هكذا قال الفتى لنفسه و هو ينظر إلى قلعة صلاح الدين بالقاهرة من الخارج. كان الليل قد انتصف , فقد اعتاد الفتى أن يسير حول القلعة يوميا في هذا الوقت من الليل , مستغلا قرب منزله من القلعة.صمت الفتى قليلا ,
ثم قال بصوت خفيض : " لقد كان أجدادنا عظماء للغاية و لكن ... "
" و ماذا عنك أنت ؟!"
أتاه الصوت من خلفه كالرعد , قفز الفتى من شدة الخوف و سقط على الأرض لكنه قام سريعا و نظر خلفه نحو مصدر الصوت . فتعجب مما رأي. وجد أمامه رجلا طويل القامة قوي البنيان يرتدي الملابس العسكرية التي ربما تعود للعصور الإسلامية الوسطى , واقفا فوق ربوة عالية . ظل الفتى يحدّق في الرجل دون أن ينطق بكلمة.
و عندما وجده الرجل صامتا أعاد عليه السؤال مرة أخرى لكن الفتى لم يرد , بل قال متلعثما : " عذ .. عذرا .. سيدي .. من تكون؟ " ,
فرد الرجل بقوة و شموخ : " أنا صاحب هذه القلعة , أنا جدك صلاح الدين يوسف بن أيوب " ,
فارتعد الفتى عندما سمع الإسم , و شعر كأن الوجود قد اختفى من حوله و لم يبق سواه هو و صلاح الدين , و القلعة في خلفية المشهد.
و تحدث صلاح الدين قائلا : " لقد قام أجدادك بتحرير جميع الأراضي العربية المحتلة و بنوا عليها حضارة عظيمة , يأتي إليها الناس من كل حدب و صوب ليشاهدوها . لكنكم أضعتم هذه الحضارة بتفرقكم و أنتم الآن تتسوّلون . قل لي يا فتى , كم عمرك و ما هدفك في الحياة ؟ " ,
فرد الفتى : " أنا في الثانية والعشرين من عمري , و هدفي .... " و سكت
فقال صلاح الدين : " في العشرين من عمرك ولا تجد لك هدفا ! لقد وفّقني الله إلى حكم مصر و أنا في الحادية و الثلاثين من عمري . فكّر ثانية , استحضر أهدافك القديمة "
أغلق الفتى عينيه بشدة كأنما يعتصر ذاكرته محاولا استرجاع أهدافه القديمة و بدأ يتذكر , فقال : " كنت صبيا عندما قامت الإنتفاضة الفلسطينية الثانية و كنت أتخيل نفسي مثلك – يا جدي – محررا القدس , و عندما قامت ثورة الخامس و العشرين من يناير كنت أرغب في النهوض ببلادي , ربما كانت أماني و ليست أهداف "
فسأله صلاح الدين : " متى كانت أخر مرة قرأت فيها القرآن الكريم ؟ "
فطأطأ الفتى رأسه قائلا بصوت خفيض : " لا أتذكر . ربما في رمضان الماضي "
فقال الناصر : " و كيف تريد تحرير القدس و أنت لا تفقه كتاب الله ! حدثني : ماذا فعلت لخدمة دينك ؟ "
فقال الفتى بحماسة مفاجئة كأنه وجد شيئا يفتخر به : " أنا أصلي الصلوات الخمس , و أصوم رمضان منذ كنت في السابعة من عمري "
فتعجّب الناصر و قال له : " سألتك عن خدمتك لدينك , لا خدمتك لنفسك . انك تصلي و تصوم لنفسك. لكن ماذا فعلت لنصرة دين الله ؟ , و الآن أجبني : ماذا تعرف عن هذه القلعة سوى أنها كانت مقرا للحكم ؟ "
فطأطأ الفتى رأسه قائلا : " لا أعرف , أنا آتي لأشاهدها فقط "
فرد الناصر : " يا فتى , عمر هذه القلعة يقارب الثلاثين عاما بعد الثمانمائة , و لا تعرف ما دار فيها طوال هذه القرون ! كيف تريد أن تنهض ببلاد أنت لا تعرف تاريخها !"
هنا نزل الناصر صلاح الدين من فوق الربوة و اتجه ناحية الفتى الذي تملكه الخوف عندما وجد القائد يسير نحوه بخطوات ثابتة و وجه صارم. ظن أنه سيعاقبه على جهله بدينه و تاريخه . و عندما وقف القائد أمام الفتى مباشرة , ابتسم القائد ابتسامة دافئة لم تذهب بصرامته , و وضع كفه الأيمن على كتف الفتى الأيسر .
و قال القائد بأبوة : " يا فتى , لا أريد إهانتك بأسئلتي أو إظهار جهلك , فالله يعلم كم أحب جميع أحفادي و كم ضحيت لأجلهم . لكن يعزّ علي ما أراكم فيه من ضعف و هوان . يا فتى :
* قبل أن تفكر في تعمير الأقصى , عمّر المسجد القريب من بيتك أولا
* قبل أن تفكر في تحرير بلدك من الجهل , حرر عقلك منه أولا
* قبل أن تفكر في تغيير العالم , غيّر نفسك للأفضل أولا
يا بني :
*اصلح ما بينك و بين الله , يصلح ما بينك و بين الناس
* اقم صلاتك و صل رحمك و ساعد الناس قدر استطاعتك
* عندما يرزقك الله بخير فلا تبخل به على الناس , و اذا ابتلاك فاصبر
* انشغل بإصلاح عيوبك , و لا تنشغل بعيوب غيرك
* حدد لنفسك هدفا واضحا و ضع خطة عمل لتحقيقه , لا تكن عشوائيا
* و لا تضيعوا الوقت في التحسر على زماننا , فنحن لن نعود أبدا
* ابدأ من الآن و ليس غدا , و احذر كلمتي (سوف) و (لو) فإنهما مضيعة للعمر
عسى الله أن يجمعني بك و بجميع أحفادي في مكان خير من هذا . سلام الله عليك يا بني و رحمته و بركاته"
و اختفى القائد فجأة مثلما ظهر فجأة , و عادت الحياة إلى طبيعتها مرة أخرى حول الفتى , و أخذ يفكر في كلام القائد ...
-
عمرو يسريمهندس مصري يهتم بقراءة التاريخ وسِيَر القدماء. أرى أن تغيير الحاضر، والانطلاق نحو المستقبل يبدأ من فهم الماضي.
التعليقات
ذكرتني بمقولة شهيرة "قبل أن تفكر في مشكل ثقب الأوزون، رتب غرفة بيتك :) "