القدر كلمة مبهمة، لا أذكر أني قدر سمعتها في إحدى المجالس إلا وتلاها بضع ملاحمات لا تنتهي إلا ببحة صوت إحدى المتنازعين عن مفهوم تلك الكلمة وما ترمز إليه.
وكعادة الشعب المصري الأصيل، إذا طعن أحدهم في إحدى آرائه أو علق عليها، كأنما -لا سمح الله- أهنته في شخصه أو ذكرت عرضه-لا قدر الله-
تكمن أكبر الهواجس والمخاوف حول القدر في اتخاذه كحجة قوية يتنازع ويتعلل بها على أحداث الحياة، متناسين أن لكل فعل رد فعل، وما من نتيجة إلا ولها مسبب ، عجبا من هؤلاء! أتناسوا أن الله قد أمرنا بالأخذ بالأسباب ونهانا عن التواكل، فما لهم يتواكلون إذا أصابتهم مصيبة ويقولون هي من عند الله، وإن جاءهم نصر وفرح تفاخروا بأنفسهم، حقا هم قوم جاهلون.
وأما عن أولئك الذين يتخذونه سبيلا للإلحاد متعللين بأن الله قد قدر كل شيء فأين تلك الإرادة الحرة التي تميزنا نحن -بني البشر- عن دوننا من المخلوقات.
أذكر أني قد قرأت أن الله قد أتى "بالإنسان" قبل تصويره على هيئة بشرية وقبل بدء الخليقة سائلا إياه معطيا له كامل الإرادة إن أراد أن يبعث على الهيئة البشرية له في تلك الدنيا الفانية ثم يحاسب ويجازى على عمله ليكن مآله إلى جنة الخلد أو نار السعير.
قال عز وجل :(إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا).
وكان من فضله سبحانه وتعالى على عباده أن أوجد لهم التوبة لعلمه بأن الزلل من عباده حادث لا محالة ، حتى أن سيدنا آدم لم يسلم من ذلك الزلل وهو أبو البشر، وقد قدرت المدة التي قضاها منذ تكليفه بالأمانة حتى عصيانه لله عز وجل كفترة تمتد من العصر إلى الليل.
الحقيقة المؤكدة بأننا ليس لدينا تلك الإرادة الحرة المطلقة، ليس لشيء إلا لأنها محكومة ببعض الغيبيات السماوية، أقربها إلينا ما قد نقل عن الصحابة والسلف الصالح أن الدعاء قد يغير القدر في بعض الأحيان، لا نعلم كيف ولا متى أو أين ولماذا قد يحدث هذا، ولهذا فهو غيب لكننا نؤمن بأنه ممكن الحدوث.
والمفهوم الصحيح للقدر ليس كما يزعم البعض بأن الله قد اختار لك أن تسلك هذا الطريق -وإلا لن يكون هناك جنة أو نار- فتسلكه، بل أنه عز وجل علم بحكمته أنك سوف توضع في ذاك الموقف وستختار هذا الطريق، فقدره سبحانه وتعالى وسجله في اللوح المحفوظ.
ومن أبسط الأمثلة التي يمكن أن تضرب هو المعلم الذي جلس سنة كاملة مع تلاميذه ثم طلب منه أن يتوقع ترتيب هؤلاء، ألن يكون قادرا على ذلك؟! فما بالك بخالق الكون، ورافع السماء بلا عمد ترونها، الذي وسع علمه كل شيء!