كان الجو حاراً في تلك الليلة، وقد انقطعت الكهرباء أيضاً، فاضطر أحمد للخروج من بيته وتوجه إلى بيت صديقه حسين، وقف عند الباب وطرقه وانتظر، فخرجت له أمه واخبرته ان ابنها قد سافر، وهنا توقف أحمد مستغرباً وإلى أين يسافر حسين دون أن يبلغني ولماذا هاتفه النقال مغلق؟! فعاد من جديد ليطرق الباب، وهو يسأل أم صديقه “أين ذهب حسين؟ لماذا لم يقل لي؟”.

كيف وظف كل من مازن وسليم تخصصاتهم في الدفاع عن الوطن؟

أخبرت أم حسين صديقه بأن حسين التحق ضمن صفوف الملتحقين للدفاع عن الأرض والعرض والمقدسات، وخرج على عجالة بعدما سمع بفتوى الجهاد الكفائي، وهنا انطلق إلى رؤية صديقيه مازن وسليم، فوجدهما أيضاً قد التحقا إلى جبهات الدفاع، فرجع إلى البيت وحزم أمره أنه سيلحق بهما، وبالفعل ذهب باليوم التالي إلى مركز التطوع وأراد أن يلتحق بأصدقائه، لكنهم لميقبلوا بذلك لأنهم بحاجة إلى اختصاصه في الميدان ضمن وحدات الطبابة، لأنه كان طبيباً، فقبل أن يلتحق هناك.

كان حسين مهندساً كهربائياً، وأثناء التحاقه ذهب من ضمن تشكيلات هندسة المتفجرات وتفكيك العبوات، وكان قد أبدع في أبطال مفعول الكثير من تلك المتفجرات والعبوات منقذاً أرواح الجنود والمقاتلين، أما مازن فقد وجد نفسه ضمن وحدات الإعلام الحربي لأنه كان من خريجي الفنون الجميلة، وكانت هوايته التصوير، فأصبح مراسلاً حربياً ينقل أخبار المعارك ويعيد للناس معنوياتهم التي انهارت بسبب الإعلام المعاكس، في الوقت الذي لم يخبر سليم عن تخصصه وفضل أن يكون جندياً يقاتل في أرض المعركة، ضمن الخطوط الأمامية.

كيف أُصيب سليم وماهي مجريات إصابته؟

مرت الشهور الأولى وقد تعاقبت فترات نزولهم مجازين إلى أهليهم، لهذا لم يلتقِ الأصدقاء في تلك الفترة ولكنهم كانوا يتواصلون عن طريق الهاتف النقال ووسائل التواصل الاجتماعي، واثناء مشاركتهم للأخبار وتطورات الأوضاع، أخبرهم سليم بأنه سيشارك ضمن العمليات العسكرية القادمة لتحرير إحدى المناطق الاستراتيجية من داعش، فقاطعه أحمد بأنه سيكون متواجداً في تلك المنطقة ضمن فرق الطبابة الميدانية، وطلب منه بعد انتهاء العمليات الحضور إلى الطبابة ليلتقي به.

في ذلك اليوم الذي انطلقت فيه العمليات العسكرية تعرضت الموجة الأولى من المهاجمين إلى هجوم كبير بالسيارات المصفحة والمفخخة أيضاً والتي لا تعالج بالقذائف الاعتيادية، وأيضاً بهجوم آخر باستخدام الانتحاريين من تنظيم داعش الإرهابي، أثناء ذلك الهجوم سقط الكثير من المقاتلين بين شهيد وجريح ونقلوا إلى مركز الطبابة الميدانية، وكان الجميع من ضمنهم أحمد يعالجون الجرحى ويرسلون الحالات الحرجة إلى المستشفيات، وقف أحمد ينظر إلى شابٍ قد أصيب في رقبته، ولكن شكله ورغم ما يغطيه من تراب ودخان ودم كان مألوفاً، تقرب منه فوجده قد فارق الحياة، وهو يضع يده على رقبته ليوقف النزيف، وكان الأوان قد فات على علاجه، فلما مسح عنه التراب والدم علم بأنه صديقه سليم، لقد وفى بوعده وحضر لرؤيته، ولكنه لم ينطق بأي كلمة، ذلك الجرح العميق منعه من أن يصدر أي صوت.

استشهد سليم فماذا عن بقية أصدقائه؟

مرت الشهور وكانت صورة الشهيد قد علقت على مداخل المنطقة وهم يستذكرون ما كان عليه من طيب وحسن خلق، ويفتخرون بانه كان ممن وفى لأهله ولوطنه، وبعد مرور أعوام على هذه الحرب ضد الإرهاب، تكللت كل التضحيات بالنصر المؤزر، وعاد أحمد ومازن إلى أعمالهم وقد نزعوا ملابسهم العسكرية بعد أدائهم لواجبهم ببطولة، وبقي حسين لم يرجع لأنهم بحاجة إلى خبراته في تفكيك العبوات الناسفة.

كان يسير حسين في منطقة مهجورة وكانت البيوت مشكوك بأنها مفخخة، وكان برفقته فريق من الهندسة الميدانية وبعض المقاتلين، فسمعوا صوت طفل رضيع يبكي، توجه أحد المقاتلين بفطرته السليمة نحو صوت الطفل، فوجده على عتبة الباب ومتروك هناك بالعراء، فذهب مباشرةً اليه، ولما انتبه حسين له لحقه ليمنعه، كان يحاول أن يخبره بأن يأخذ الحيطة والحذر، إلا أن هذا المقاتل رفض الفكرة، ولم يتصور ان هناك من يفخخ طفلاً رضيعاً، وان هذا الطفل تركوه اهله لسببٍ اخر، واثناء النقاش علا صوت الطفل بالبكاء، فحمله المقاتل، واذا بالبيت ينفجر بهم، لم يخرج أي منهم في تلك الحادثة، وهكذا وصل خبر استشهاد ثاني صديق لأحمد.

مازن تابع طريقه الإعلامي، وكان ينقل الحقائق للناس دون خوف من الأحزاب أو عصابات الحكومة، وقد شارك في كثير من المناسبات التي خرج فيها الشعب للتظاهر ضد فساد رجالات الحكومة وللمطالبة بحقوقهم المسلوبة، وأثناء تغطيته لبعض تلك الملفات ورغم تهديده لترك الموضوع إلا إنه كان ينوي أن ينشر ما عرفه للملأ إلا أن أيادي الغدر نالت منه وأردته شهيداً.

بقي أحمد وحيداً بلا أصدقاء، أولئك الفتية الذين ترعرع معهم رحلوا وتركوه مع ذكريات وصور، لم يمر عليه يوم إلا وهو يشعر بفقدانهم أكثر فأكثر، وما أحزنه بالإضافة إلى فقدانهم هو نكران البعض لجميلهم، وكأنما لم يضحوا بالغالي والنفيس لإبقاء الشوارع والمدن آمنة مطمئنة.

مع انتشار فيروس كورونا تحولت عسكرة الدفاع إلى الطاقم الطبي

التحق أحمد من جديد الى معركة جديدة، فزمن المعارك والدفاع لم تنتهي بعد، ولكن هذه المرة الإرهابي والمعتدي عبارة عن فايروس، أخذ يهدد العالم بالموت والمرض، وبسببه بدأت دول بالانهيار أمامه، تطوع أحمد ليكون في خط الصد الأول، هناك كان يرتدي درعاً واقياً من هجمات الفيروس، عبارة عن قفازات واقنعة ونظارات وبدلات خاصة، ولكنه رغم ذلك فقد تعرض لطعنه من هذا الفايروس، وهو يحاول جاهداً الدفاع حتى آخر لحظة في معركته التي قد تكون الأخيرة بالنسبة له.

شباب العراق، وغيرته، وطيبته، ودماءه الشريفة، هي من حفظ العراق من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، كانت لهم صولتهم المشرفة، وكلمتهم المدوية، فإن سمعت زقزقة العصافير فاعلم أنها تغني أنشودة الشهداء السعداء، وأن أنبتت الأرض فهذا يعني أنهم على قيد الحياة، وإذا مررت بالفرات فاسأله هل مازال يشعر بالعطش؟ أم اكتفى بشربه لدماء المغدورين؟

الرحمة والخلود لشهدائنا، الذين قدموا مناحرهم في سبيل الحرية والكرامة والرفعة، في سوح الوغى أو في ميادين التظاهر ضد الظلم، أو بسبب عمل إرهابي سفك دمائهم دون ذنب، والشفاء العاجل لجرحانا، وندعو لأبطال الحرب الجديدة من كوادر الصحة بالانتصار والسلامة لهم ولجميع البشرية.

والحمد لله رب العالمين