السّيميولوجيا .. لم أكن أدري حين سمعت بهذا الاسم لأوّل مرّة في حياتي أنّه سيكون قدري ولعنتي التي ستلاحقني حتّى الرّمق الأخير من حياتي الأكاديميّة ، إذ بعد أن تورّطت في قراءة روايات دان براون المغموسة في عالم الرّموز والتأويلات والعلامات، تعرّفت على السيميولوجيا في السّنة الأولى جامعي ودرست عنها في السّنة الثانيّة ودرستها في الثّالثة، ثمّ تفصّلت في دراستها خلال السّنة الأولى ماستر وكانت موضوع مذكّرة تخرّجي في السّنة النّهائيّة ، ثمّ وجدتّني متورّطة فيها مرّة أخرى خلال سنوات الصحافة الثلاث، ولولا لطف اللّه لكانت موضوع مذكّرة التخرّج في الصّحافة أيضا !
حينما تُبتلى بالسّميولوجيا كتخصص أو كاهتمام على هذا النّحو من الإمعان فهذا يعني أنّك ستغرق في حمى التأويلات اللا متناهية، ستتقاذفك الإيحاءات الجموحة يُمنة ويسرة، وستعيش مع جحيم احتمالات الدّلالة في بؤس أبديّ، فإذا تلقّفك نصّ وجدتّ نفسك تلقائيا تفتّش عمّا وراء الكلمات، ترفع الأسطر لتطلّ على ما ترسّب بينها وما اختبأ فوقها وتحتها غير عابئ بملل المعنى الأوّل، تمضي بريب بين العبارات وتتفقّدها حرفا حرفا بحثا عن دلالة شاردة شذّت عن سياقها فباحت عن غير قصد بما خفي ، تندسّ بإلحاح بين الحرف وكاتبه حيث يدوّخك الحرف بوجوهه الألف، وستعرف الوجوه الألف رغما عنك ، فأنت بالسيميولوجيا لم تعد سوى مجرّد مفتاح يلج إلى مقصد الكاتب ويخرج منه بلا استئذان محمّلا بذنب التّأويل وخطيئة الفهم وأكوام كبيرة من الأسرار المهرّبة.
مع السّميولوجيا ستثقل كاهل المعاني فتحملها مالا تحتمل ، وبها ستثقلك الإيحاءات بتقافزها المستفزّ، وفيها ستحترق بجحيم الفهم العميق حين تحتار بين رمضاء ونار: أتكتم فتهلك أم تواجه براية المعنى المختبئ فيقمعونك براية المعنى الظاهر؟!
مأساتي الأكبر مع السّيميولوجيا أنّي وجدتّني أنتقل من رؤى ونماذج يلمسليف و وكريستيفا، بيرتو ، بارث، فلوش، إيكو وأودان وغيرهم، ومن سيميولوجيا النصّ والصّورة ، والسيمياء التداولية والسينمائيّة ، إلى نظريّات " الكلام لجارتي والمعنى على كنتي" و "يضرب الراشي يطلع الصحيح" أين أختنق بذكاء التلميح وخُبث التعريض الذي لا يرحم..!
سئمتها..فما عاد يغريني منها بلاغة الأيقونة ولا منطقية المؤشّر ولا حتّى جبروت الرّمز بسحره وغموضه، وماعدت أطيق حشر روحي في مثلث بيرس ولا بسطها على مخطّط ياكوبسون ، ماعاد يهمّني استنطاق الألوان ببوحها المرتبك المتردّد ولا مغازلة الصّور من على مقصلة التّعيين والتّضمين.. سأنسلخ عنها وأكتفي منها بسريالية البوح وجماليّة السريالية.. أمّا عذابات التأويل فلتذهب إلى الجحيم ..!
-
فاطمة بولعناناليوم حرف وغدا حتف
التعليقات
موضوع شائق , بالتوفيق .