رأيت رجل عجوز قد غلبَ الشيب شعره الاسود يمشي علي مضض . رمي بيداه المشبوكةُ خلف ظهره ، و إنحني قليلاً الي الامام ، أطرافهُ شبه مرتعشة ، تراهُ قد ملَّ الدنيا ولم يعد يبالي بأي شئ يحدث حوله . . علي وجهه اخاديد محفورة اثر الحروب التي شارك فيها ، شارك في انتصارات وانتكاسات كثيرة ورأي الموت مرأي العين ، رأي اكثر من الموت .. وقفت اتأمله في عجب .. جلست بجواره .. دار بيننا حوار عن احوال الشباب في السبعيانات واحوالهم الآن مابين التغيب العقلي والتخلف الذهني الذي لم يتغير الا اقل قليلا الي الأسوء .. استمعت اليه في صمت .. ولما حان لي أن ارد علية كان العُجااب ..
قلت له انا لا ارمي اللوم علي الشباب وانما علي البيئه الاجتماعية المحيطة التي تخلت عن دورها الرئسي وراحت تبحث عن المادة ولقمة العيش فتربي النشأ علي ذلك .. أجيال تورث لقمة مسمومة لأجيال .. كان ابي يقول لي "عيادات دكاترة الباطنة سوف تظل مكتظة بمرضي فيروس سي ما دام الحال كما هو ، والمرضي سوف يتجرعون نفس الدواء الذي وصفوه سابقا ولم يعطي نتيجة ، ثم يموتون كأسلافهم ، ولا تغيير في مجتمع لا يهتم بالعلماء ويلقيهم بالسجون "
اكفهر وجه العجوز وانكمش داخل نفسه عندما عَلِم ان ابي توفي بسبب هذا الفيروس ..ثم زفر زفرة ضيق وخنق ..
قال لي انه يحمل هذا الفيروس و انه يذهب لأفضل دكتور كبد في مصر ..
لم يقل انه لا يزال متشبث بالحياة اكثر من الممات , وانه لا يريد مغادرة الماضي , برغم كِبر سِنه وثقل حركته لا يريد ان يموت هكذا , لا يريد ان يموت من الأساس , اعتاد الدنيا واعتاد سمومها , لم ينطق بكل هذا ولكنه ارتسم علي صفحة وجهه و ارتسمت دمعتي علي وجهي ..
التعليقات
رائعة هذه الجملة التي لخصت مئات الكتب و التحاليل و النقاشات، الإنسان إبن بيئته و هذا ما حصلنا عليه في زماننا الحالي.
بوركت سيدي.