الحرية...هي شبح خجول لفتاة جميلة يهرب جازعا كلما اقتربت منه مسرعا، يختبأ خلف أشجار مسنة و أخرى شابة، في غابة موجودة منذ الأزل. لكن مهما اشتدت درجة حياء الشبح فلن تصل إلى مقدار خجلي من نفسي، أنا التي تجرأت على الكتابة...من بين كل الأمور التي يجب على مخلوق ينازع لكي ينقذ جلده أن يفعلها (و ربما تكون تلك الأمور أكثر إفادة له من منظور براغماتي)، قررت أن الكتابة (و تحديدا الكتابة عن "الحرية"...من دون كل الأشياء!) أفضل استثمار لنقود "الوقت" التي أعطيت لي. لطالما بدت لي الكتابة قصرا منيعا، يدخله ناس لا يعرفون سوى اليسر، الرغد، النبل،...الحرية.
لكن هذا ليس بالضرورة صحيحا، فأجمل و أفسح القصور تستطيع لعب دور السجون أيضا.
ربما لست رجلا أنيقا في الخمسينيات ذو دم أزرق و غليون من القرن التاسع عشر، يقضي أيام تقاعده كلها في الكتابة و القراءة في منزله المختلي قرب الشاطئ، لأنه يمتلك تلك الرفاهية؛ -بينما أنا أركض (في خضم صراعي للبقاء) باحتياج غريزي نحو الكتابة كطفل باك كلما سنحت الفرصة- ، لكن هذا لا يجعلني أقل نبلا، و لا أقل حرية؛ ربما لا أكتب بالقدر الذي أريده أو بالجدية التي أطمح إليها، و ربما تفتقد كتاباتي للقليل من إيتيكيت الصرامة الفكرية، لكنني أجلس على المكتب في كل مرة، أواجه نفسي، أواجه العالم، أسفك دمي على الورق و أحطم الأغلال، و أهدف إلى غرس بذرة تعطي ثمار الحب، بذرة تتعرف عليها و تستقبلها و لو روح واحدة.
أليس النبلاء و الشرفاء خلفاء الله في تجسيد الفضيلة؟ فمن جعل الفضيلة إذا حكرا على "النبلاء" و "الشرفاء"؟
نحن لا نكتب و نقرأ لأننا نبلاء و أحرار و شرفاء (أو بصيغة أخرى "أفضل من الآخرين")، بل إننا نبلاء و أحرار لأننا نقرأ و نكتب (نبحث عن حقيقتنا و نجسدها ليس فقط بالكتابة بل بأي وسيلة تناسبنا)، لأن النبل و الحرية و الرقي ليسوا في القشور المبهرة و الأنساب الرنانة. النبل هو إيثار و شجاعة و أخلاق و شرف الفرسان، المحاربين، و القادة الحقيقيين؛ الرقي هو سمو الفكر و الوجدان؛ و الحرية هي ترويض غريزة البقاء و هزيمة الخوف من الموت، لأنه يقتل الإحساس بالسلام و الرغد و الرفاهية و الجمال و الحقيقة، يطمس المثل النبيلة و يدفن كل شيء حقيقي فيك و في العالم.
كيف نهزم الخوف من الموت إذا؟ لا يوجد شيء أشجع و أكثر تعبيرا عن الحرية الراديكالية من تقبل وهم الموت، فإذا نظرنا مليا سنرى أنه لا يوجد شيء اسمه الموت، هو فقط لباس من ألبسة كثيرة ترتديها الحياة، و لا يوجد شيء خارج الحياة.
الحياة...ذلك الشبح الحرّ داخل كل واحد فينا، الشبح الذي نظل نطارده في الغابة، يظهر و يعانقنا عندما نخلع بذلة اللحم المتسخة هته، لتظهر حقيقتنا البهية، حقيقتنا النبيلة و الشريفة و الشجاعة، ملوحة في الأفق.
الشبح، بعكس ما يتداوله العموم، ليس رمزا للموت بل رمزا للحياة الأبدية، و أنت تختار أي نوع من الأشباح تريد أن تكون، إما أن تموت شامخا مدافعا عن قدسية كيانك، ناظرا للسماء المرصعة بنجوم أحلامك، أو تعيش مطئطئا رأسك تجر جثتك الفارغة إلى أن تتعثر في قبرك و يردم عليك تراب النسيان.
-
صفاء الجروديأعتبر نفسي فنانة قدمت لها الحياة كلوحة بيضاء لكن متسخة قليلا. رحلتي الشخصية تتجلى في محاولة تنظيف اللوحة و رسم مستقبلي بألوان الشغف الزاهية.
التعليقات
رائعة ... الحديث عن الحرية شجاعة وقرار أن نختارها ونعيشها .