مدام بوفاري لجوستاف فلوبير. - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

مدام بوفاري لجوستاف فلوبير.

بقلم:حسين جبار

  نشر في 11 غشت 2017 .


اذا أردت تصنيف الرواية بعيدا عن التصنيفات الفنية-التي يكون لها مختصوها و هم النقاد- فأقول أنها من الروايات التي ما إن تنتهي من قراءتها حتى تكون مملوءا بمشاعر الكره لأحد الشخصيات فيها و بمشاعر العطف و الرثاء لشخصية أخرى.

و لكن هذا هو الجزء السهل، فليس أسهل من أن تحب أو تكره شخصا و لكن الصعب هو أن تفهمه. لان الحب و الكره مشاعر تتقد في لحظة من موقف ما، مثل كرة الصوف اذا اقتربت منها شعلة نار. أما فهم الشخص فيحتاج إلى النفاذ إلى أعماقه، و محاولة وضع نفسك في موضعه لتحكم عليه، مع الإقرار دوما بنسبية هذا الحكم.

"إيما" و هي التي ستصبح لا حقا مدام بوفاري، هي تلك المراهقة الريفية التي تزخر بالاحلام و الأمنيات الفتية المغرقة في الخيال، و التي تتخيل المستقبل مسرحا لعرض السعادة و المباهج. هذه الفتاة المفعمة بالحيوية تقع قدماها في اول رجل تأسره مفاتنها و جمالها فترتمي زوجا في بيت الطبيب "شارل بوفاري" الذي ما إن رآها لاول مرة و هو يداوي ساق والدها حتى ملكت مشاعره بعفويتها الساحرة.

اما "شارل" فهو التلميذ الهادئ الذي تلفه الطيبة و الانصياع و الذي اصبح طبيبا بعد جهد جهيد منه و من ابويه اللذان يمليان عليه كل شيء حتى الزواج! فما إن أكمل دراسته حتى وجدت له أمه أرملة تكبره بعشرين عاما ليجد نفسه تحت رحمتها و لكن سرعان ما أزاحها الموت عن كاهله فينعم بالحرية و الاستقلال.

لم تجد مدام بوفاري في الزواج تلك المتعة التي كانت تتخيلها و لا تلك المشاعر المتقدة التي كانت تصبو اليها و لا الغراميات الدافئة التي قرأت عنها فوجدت نفسها تحت رحمة الايام المتشابهة التي كل ما مر منها يوم زادها توقدا و جموحا لمغامرة ترتفع بها الى سنام المتعة و الشهوة.

تأخذها رغباتها الى مغامرة مع كاتب شاب يدعى "ليون" ينزل معهما في نفس الفندق الذي اتخذاه مسكنا لهما و لكن الظروف تحول بينها و بين مرادها حيث انتقل الشاب الى مدينة اخرى ليعمل فيها فانقطعت اخباره عنها.

الهب ذلك الحضور الغائب مكامن رغباتها و زادها حدة و جنونا كانا يقعان على رأس زوجها الذي يبادر الى توفير كل سبيل لراحتها ظنا منه انه لا يعطيها حقها من الراحة! تأخذها رغباتها المشبوبة لمغامرة اخرى مع رجل غني و اسمه "رودولف"، متمرس في صيد النساء، و في ايقاعهن بحباله، فترتمي كما ترتمي السمكة في احضان الشباك متلهفة لها! و تبني مع هذا العشيق الابراج العالية من الامنيات التي سرعان ما تتهدم برسالة منه يخبرها فيها بخطأ ما يفعلانه!

ثم تأخذها الصدف لتلتقي مرة اخرى بذلك الكاتب الشاب فتدب النار في جمر الحب العتيق و التي تجد الحطب متوفرا فتنشب و تتطاير حتى يصبحا كأنهما زوجين!

و في خلال كل هذه الاحداث تكون قد اغرقت زوجها في سيل من الديون و السندات التي لا تملك و لا تعرف كيف تسدها بعد أن وقعت بين فكي تاجر مخادع يسول لها كل هذا.

و لكن مشاعر الحب سرعان ما تبرد فتجد الصد و البرود من عشيقها الكاتب فيتصدع قلبها و هي تستذكر ايام صباها حيث تغرق بالافكار الدافئة و الاحلام الهانئة. و بعد ان فقدت ماء قلبها و ضيعت مال زوجها الذي كان غافلا حتى هذه اللحظة عما يجري لم تجد غير ذلك السبيل الذي يرتمي فيه الخطاة: الموت.

حتى هذه اللحظة من الأحداث لم يكن الزوج المغفل يعرف شيئا عن مغامرات زوجته المجنونة، و أعترف بأني تمنيت لو أنه يظل هكذا! و لكنه يعثر على هذه الرسائل و هو يفتح الدرج السري في المكتب حيث تتبعثر تحت قدميه، فيأخذ بقراءتها و يكتشف أنها من "ليون" الذي كان بمثابة صديق العائلة. فيدب فيه ذعر رهيب و يأخذ يقلب كل ركن و في الجدران و هو يجهش بالبكاء، فيعثر على صندوق يفتحه بركلة من قدمه فتقفز أمام ناظريه صورة "رودولف" و خطاباته الغرامية.

ينطوي شارل بوفاري على نفسه داخل بيته، و لكن هذا لا يمنع الفضوليون من استراق النظر اليه، فيرونه اما جالسا شارد الذهن، او ماشيا يجهش بالبكاء، زري الملابس، لم يحلق لحيته.

يلتقي شارل في احد الايام برودولف، فيتأمل بملامحه، و يتمنى لو أنه كان هو هذا الرجل! و في لحظة يمتزج فيها منتهى الألم بمنتهى السخرية، يقول شارل لرودولف "لست أحقد عليك!...لا، لست أحقد عليك!...إنها غلطة القدر!".

و اترككم مع هذا المشهد الأخير:

"و في السلعة السابعة، أقبلت "بيرت"[ابنته] الصغيرة-لم تكن قد رأته قط طيلة ما بعد الظهر- تبحث عنه للعشاء، فإذا رأسه مسند إلى الحائط خلفه، و العينان مغمضتان، و الفم مفتوح، و في يده خصلة طويلة من شعر أسود، و هتفت: "هيا يا أبت، تعال!" و إذ ظنته راغبا في مداعبتها، دفعته في رفق، فهوى إلى الأرض. كان قد مات!


  • 1

   نشر في 11 غشت 2017 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا