جولة في الحافلة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

جولة في الحافلة

  نشر في 01 نونبر 2014 .

                                                                                          د. سمير كتّاني

وقفت وسط الحافلة مسنودا من جميع الجهات، فقد كانت الكتل البشرية تحيط بي وتسد منافذ أنفاسي. فمن جهة اليمين برزت نحوي كرش كبيرة بحجم طست بلاستيكيّ كبير، تربّع فوقها وجه سمين مدوّر، اتّخذت عليه مكانها عينان مستديرتان صغيرتان، وفوقهما جبين عريض لا يميزه عن أم الرأس أي مميز، ذلك أنه كالرّأس عار تماما من الشعر.

أما من ناحية اليسار فقد اتخذت لها مكانا هيئة شاب هزيل، نبت بعض الشعر على وجهه خطأ، وكان الشاب نحيل الجسم، هش البنية، وبدا كمن لم ير الخبز منذ دهر، لكن قامته كانت بطول عمود كهربائيّ شاخص للعيان، وكان أشبه بدعامة خشبيّة أسندت عرَضًا في مكان عامّ.

لكنّ المهمّ في هذا الموقف "الرّائع" أنّه كانت تفوح في الأجواء رائحة نفاذة تتسرب إلى أنفي من أحد الرّجلين أو من كليهما، حتى تمنيت لو أنني أختنق وأموت لأرتاح من هذا التنفس الذي يكاد يفضي بي إلى الغيبوبة، أو لو أن بحوزتي عبوة "مطهر جو" لكي أرش منها على جسدي الرجلين، وعندها، لن أنسى أن أغمر كل فضاء المكان برائحتها.

وطال الزمان، ولعنت الدقيقة التي اعتلت فيها قدماي درجات الحافلة، وأخذت نفسي تراودتني على النزول في أقرب محطة تتوقف فيها الحافلة لشحن المزيد من الكتل البشرية، فأتخلّص من هذه الورطة الّتي وقعت فيها. إلا أن الاقتراب من أحد بابي الحافلة كان أشبه باجتياز حقل كبير من الألغام، وكان أصعب بكثير من تحمل أذى الرائحة الصادرة عن الدعامتين المحيطتين بي، فقد كان الممر إلى كل من بابي الباص الأماميّ والخلفيّ حاشدا بالناس!

وأشغلت نفسي بنوع الرائحة التي تعبق الحافلة بها، ودققت حاسة الشم _وكان الله قد أنعم علي بحاسة شم قوية وخارقة.._فوقعت على اكتشاف جد خطير، وهو أن الرائحة التي يعبق بها المكان هي مزيج من رائحتين مختلفتين في الواقع…..فمن جهة اليمين كانت الرائحة تشبه تلك الرائحة التي تسود حظائر الأغنام في الريف، حيث تتكدس كومات التبن فوق بعضها وقد سادتها الرّطوبة.

أما الرائحة التي تصوك من جهة اليسار فكانت رائحة فم بلا ريب، إذ أشبهت كثيرا مزيجا من رائحة البيض المسلوق ورائحة عصير التفاح. يبدو أنّ صاحبنا هذا قد تناول لتوّه بيضًا مسلوقًا وثنّى عليه بعصير...

ووقعت في حيص بيص…فلم أدر أي الرائحتين أرحم! وأيهما أستطيع احتمالها أكثر فلا أضطر إلى الإقياء! ولكن الباص وصل سريعا إلى محطة يبدو أنها كانت رئيسية، فقد نزل فيها أكثر من عشرة أجساد بشرية، فأسرعت إلى المقعد الشاغر المجاور لامرأة عجوز قبل أن يسبقني إليه أي من "الدعامتين"، وفزت به جذلا، وكان كل من الرجلين ذوي الرائحتين النفاذتين قد اتخذ له مقعدا هو الآخر.

شعرت بنوع من الرّاحة الآن، فمن جهة، تخلّصت من الثّقيلين اللّين كانا يحيطان بي، ومن جهة أخرى، أرحت قدميّ اللّتين نال منهما التّعب. وفي كلّ الاحوال حسبت أنّ الأزمة مرّت بسلام.

لكن لم يمض وقت طويل حتى قامت المرأة العجوز من المقعد المجاور لي ونزلت في المحطة القريبة التي وصل الباص إليها للتو. ودخل من الباب الأمامي للحافلة رجل متهدل الثياب أشعث الشعر، يرتدي بنطالا أصفر فاقعا، وجارزة بيضاء من الصوف الإنجليزي ذي المربعات، نقش في مواضع منها بالأخضر، كستها بقع قذرة من بقايا طعام أو غيره. وكان يبدو – بسبب منظره الغريب- كأنّه ناشر من القبور، أو قائم عند النّفخ في الصّور!

وتقدم نحوي،-وكنت قد جلست في المقعد الخارجي بعيدا عن النافذة لئلا تسوّل له نفسه الجلوس فيه_وبصوت يشبه صوت منشار الخشب الذي يعمل بالبنزين قال محدقا فيّ: "لو سمحت!" فتنحيت جانبا مخليا له مكانا للجلوس بجانبي وأنا ألعن في سري…

وكم تمنيت أن أدق عنقه! ذلك أن له هو الآخر رائحة كريهة تشبه رائحة الخراف، إلا أنها أكثر نفاذا وحدة….ويبدو أنّ صاحبنا هذا يعمل راعيًا للأغنام، أو أنّه عاد لتوّه من حديقة الحيوان حيث كان يمضي وقتًا في ركن ملاطفة حيوانات المزرعة.. لا أدري، فالمهمّ أنّه لمس بيديه خروفًا أو لعلّه حمله فتشبّعت جارزته الصّوفيّة برائحته.. عرفت ذلك لأنّ بعض الوبر قد علق بثيابه!

ولم أطق صبرا! فنهضت من مكاني معتذرا، وأسرعت نحو السائق راجيا إياه أن ينزلني في أي مكان يراه مناسبا إذا لم تكن هناك محطة قريبة! وعندما قال: "نعم، لا بأس!" فاضت من فمه رائحة لو سلطت على سكان الأرض لماتوا جميعا لساعتهم…..فقد كان هذا الأخرق أيضًا أبخر.

وعندما نزلت من الحافلة أخيرًا، شعرت بأنّ كابوسًا قد زال عنّي، فأخذت شهيقًا عميقًا شحنني بالانتعاش والرّاحة، ورحت أكمل طريقي راجلاً مستمتعًا بكلّ شبر أقطعه...



  • 1

   نشر في 01 نونبر 2014 .

التعليقات

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا