الموت لا يوجع الموتى
الموت يوجع الأحياء
محمود درويش
أخشى و أخشى و أخشى أن يوجعك الموت هذه المرة .. أخشى أن يرهقك الفقد ، أخشى أن يتعبك الحزن ، و أخشى أن ينهكك الوجع
أرى في عينيك دمعا لا يفتر ، ملامحك البريئة تعتليها تجاعيد الصراخ لأول مرة ، و بحة صوتك المختنقة تحيل على الألم .. كما لم أعهدكِ أنت اليوم تناصعين لطعنات الفقد ، تخنعين و تستسلمين لشبح الموت .. أعلم كم هو مرهق فقد الإخوة يا جدتي ، أعي ذاك الإحساس جيدا ، و أعلم أنكِ أضعف و أرق من ضخامة الوجع . لكنكِ لا تعلمين أنني حفيدتك التي لا تقوى على حزنك ِ أبدا ..
' مشات الأولى و دابا نتينا ، لمن خليتوني ' أتذكر كلماتك تماما بعد مكالمة الإحالة على وداع عزيز .. ولجتِ غرفتي على غير عادة و لسانكِ ينعي الخالة ، استيقظت بدهشة على أثر كلماتك المختلطة بشهقة بكاء ، كانت رجفتك تدل على ما حاولت تفادي سماعه ، دققت النظر فيكِ فلم ألحظ غير شلال دمع و زلزال حزن ، دققت النظر أكثر فإذا بك تحضنين الأرض مستسلمة للأسى ..
دمعك أشعل فيّ براكين الألم .. أنتِ زهرتي و ياسمينتي العجوز ، أنتِ الأمل و الرضا المتناثر ، أنتِ المعاتبة بحب و خوف ، أنتِ من يعزف الحب لك سمفونية التيم .. فكيف لي أن أتحملّ وجعك ..
حضنتكِ أنا المحتاجة لكِ ، و أطلقت العنان لوجعي ينساب على حجابكِ الأبيض المعطر بنفحات نبضات الحزن . شهقاتك الصامتة كانت تقطع شرياني و تحيله على الألم ، غزارة دمعك بللتني حدّ الغرق فيكِ ، و يدكِ الباردة طوقتني حتى بكيتكِ ..
كنت مع صفوف المعزين اراقب شفتيك المتدليتين و دمعك الهاطل كطعنات سكين.. كنت احترق مع كل شهقة يطلقها الوجع المتراكم داخلك ، أموت مع كل مسار دمعة ، أتوجع كلما لفظتِ ' ختي مشات ' .. بكيتكِ اكثر مما بكيتها ، خشيت من يوم قد يختطفكِ فيه ذاك الذي اغتال ' خالْتِي ' ، و خفت من شمس تنعيك ..
مرّ شريط مشاكستي لكِ بسرعة ، تذكرت كل لحظات عصياني و عدم اكتراثي ، تذكرت كل مظاهر لا مبالاتي بكِ و بتلك الجميلة اللتي لفظني رحمها يوما ، خفت عليكما كثيرا و بكيتُ حدّ الاكتفاء من الوجع ..
' نهيلة خالتي كتبكي ' كانت تظن ابتسام أنني لم ألحظ دمعكِ بعد و أنا الغارقة فيه ..
-
نونمدونة