درّاجة الروت إكس - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

درّاجة الروت إكس

  نشر في 01 نونبر 2016 .

إلى العزيزة لبنى التي أوحت لي بفكرة هذا النص

في صباحات الشتاء الباردة، أشغّل المحرّك فتدبّ الحرارة في الهيكل المعدني للسيّارة رويدا رويدا. تتمطّى القطة النائمة في صندوق المحرّك وقد غمرها الدّفء وتنتعش فتأخذ في المواء فرحا. لكن، لمّا تبلغ حرارة المعدن حدّا لا يطاق تقفز القطّة مذعورة وهي ترمقني بنظرة تمزج بين الامتنان والعتاب. أحيانا تقفز لوحدها وأحيانا أخرى يقفز معها ذلك القط النمري الأصهب. ويكون ذلك علامة على جاهزية المحرّك لأنّ إبرة الحرارة على لوحة القيادة معطّبة. اعتدت أن أنتظر ابتعاد القطّة حتّى أغادر المرآب. لكنّني يومها لم أنتبه لتخلّف القط النمري الأصهب بين العجلات، ولمّا انطلقت السيارة سمعت صرخته التي تحوّلت من مواء إلى عواء حاد وقصير جعل صورة أمعائه المطروحة على الإسفلت تسيطر على خيالي. تسمّرت مكاني عاجزا على ضغط دوّاسة السرعة. كتمت صوت المحرّك وغادرت السيّارة دون أن أقوى على التطلّع إلى ما تحتها، وامتطيت تاكسي.

طوال المسافة على "الرّوت إيكس" كان الإحساس بأنّني قتلت كائنا حيا يخنقني، والخوف من الوصول متأخرا إلى حصّة الامتحان يوتّرني. وزاد من تشنّجي حدّة صوت الشيخ المرتّل المنبعث من مذياع التاكسي وتصنّعه للخشوع على خلفية تضرّعات صاخبة من الواضح أنّها مركّبة، حتّى خلت نفسي واقفا في طابور يوم الحساب أنتظر العقاب. رجوت سائق التاكسي بأقصى ما لديّ من لطف أن يغيّر المحطّة أو يشغّل شريطا لفيروز أو عبد الباسط عبد الصمد، لكنّه رمقني بنظرة زاجرة وقال "ليس هناك أفضل من كلام الله صباحا، وفي كلّ الأوقات." رددت كما لو كنت أبرّر موقفي أو أدفع تهمة "عبد الباسط عبد الصمد، عبد الباسط عبد الصمد".

قلتها مرّتين وانشغلت عن السائق الفضّ بالبحث عن تلك الدرّاجة التي تعوّدت تجاوزها كلّ صباح وعلى متنها ذلك الكادح الملفوف في معطف بطربوش وزوجته ملتصقة به تطوّق حزامه ماسكة بقفة الفطور. كانت تحدّثه في صراخ ظاهر لإيصال صوتها الذي كانت الدرّاجة تتركه خلفها بحكم تقدّمها، فلا يصل منه شيء إلى سمع السائق المنتصب كالصنم على درّاجته مسدود الأذنين داخل طربوش المعطف. وكنت أتخيّل كلام الزّوجة يصل إلى راكبي الدّراجات الموالية وأتسلّى بتصوّرهم لا يدركون الكلام كلّه، حيث يضيع بعضه في الهواء كفقاقيع الصابون التي تنفلق بهشاشة ساحرة. ربّما كانت تحدّثه عن تنبيه المعهد بشأن غيابات ابنهما المتكرّر عن الدّروس. أو قد تكون تحدّثه عن أملها في قبض الرّاتب ذلك الصباح. وغالبا ما أقطع حبل تخميناتي بشأن موضوع حديث الزّوجة بالجزم "الثابت أنّها لا تحدّثه عن الدّستور ولا عن الانتخابات". وصادف أن كنت ذات صباح أهمّ بتجاوزهما لمّا أبصرت كيسا بلاستيكيا صغيرا يسقط من صندوق الدّرّاجة الخلفي على الطّريق. التقطته وأدركتهما به. شكرتني زوجة الكادح بلطف وقالت "هي بقايا أكل لإطعام قط المصنع". وشاكسني الكادح مربّتا على كرسي درّاجته في ما يشبه التحدّي للمنازلة " بفضل زمردة نتجنّب الازدحام والتأخّر في الوصول إلى العمل". ثمّ استعجل زوجته برنّة من منبّه الدّراجة. لمّا انصرفا، أحسست بأنّ رباط مودّة خفي قد نشأ بيني وبينهما لن ينفصم أبدا. يا الله، ما أنبلهما. من يومها، تعوّدنا تبادل تحية خاطفة بإطلاق المنبّهين بطريقة مشفّرة، وقدّرت أنّ الفرصة مواتية ذلك الصباح حتّى أحيّيهما بيدي فتهيّأت لفتح النّافذة وإخراج رأسي لأقول كلاما من نوع "صباح الخير، كيف الأحوال، طاب يومكما".

وفي الانتظار، وجدتني أتمعّن في اسم هذه الطريق الذي لم يفلح الحاكم في تغييره من "الرّوت إيكس" التي التصقت به إلى شارع 7 نوفمبر في البداية ثمّ شارع محمّد البوعزيزي بعد سقوط الدكتاتور. وخمّنت أنّه كان من الأنسب ترجمة "الرّوت إيكس" بلغة الرياضيات إلى "الطريق المجهولة". أليست تربط أحياء "الزهروني" بالمطار الذي يحرّك في خيال أبناء تلك الأحياء الشعبية حلم السفر إلى العالم الآخر رغم المصير المجهول؟ أو لعلّها "طريق الإباحة" بلغة أفلام الإيكس باعتبارها بوّابة استباحة الوطن وثرواته. وفي كلتا الحالتين، بدت لي الترجمة أبلغ من التسميات السياسية المسقطة على هذه الطريق الثعبانية الطويلة.

في محوّل قصر السعيد، لم يفاجئني تعطّل حركة المرور لكنّه زاد من توتّري لأنّه كان سيفاقم تأخّري في الوصول إلى الكلّية يوم الامتحان. اتّخذت من ذلك ذريعة لمغادرة التاكسي والهرب من طنين المرتّل وفضاضة السّائق، مفضّلا المشي على القدمين. لكن ما إن قطعت بعض الخطوات حتّى لاح تجمهر حول سيارة إسعاف راسية في مفترق الطريق وهي تولول بمنبّهها وضوئها الأزرق الدّوّار. وصلت هناك فوجدتهم يرفعون على نقّالة الإسعاف صديقي الكادح وزوجته. كان يئنّ متألّما بينما كانت زوجته مذهولة في شبه غيبوبة. تفطّن إلى وصولي فحرّك يده متمتما: "الحمد لله على كل شيء، أوصيك بالدّراجة، هي أمانة عندك".

لمّا غادرت سيارة الإسعاف وتفرّق الجمع، كانت أغراض صديقيّ منثورة حول المكان. كان هناك الكيس البلاستيكي المخصّص لطعام قط المصنع. وفي الجانب الآخر كانت "زمردة" ملوية المقود وقد سال منها على الإسفلت زيت وبنزين اختلطا بما سال من دم وببقايا مرق بالحمّص مدلوق على الطريق.

منّوبة، مارس 2013




   نشر في 01 نونبر 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا