بين الجهاد والاجتهاد
هالة القداسة التي نحيط بها "السلف"
نشر في 30 غشت 2017 وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .
قد يصبح الجدل المحتدم عن التمثال الذي يتصدر بلدية فيلادلفيا، لفرانك ريزو المتهم بالعنصرية، بداية تدحرج كرة الثلج لمحاسبة الزعماء السياسيين في الولايات المتحدة، وفي مقدّمتهم المؤسّسون الذين لا يزالون مُحاطين بهالةٍ من القداسة إلى اليوم. فقد عبّر ترامب عن ذلك في تغريدته: “من الآتي؟ واشنطن؟ جيفرسون؟” في إشارةٍ إلى رئيسي الولايات المتحدة الأول والثالث لاحتفاظهما بالعبيد.
ويبدو أن النقاش في طريقه لعبور الحدود شمالاً لينال من الرموز الكندية أيضاً مثل أول رئيس وزراء كندي، إذ طالب اتحاد معلمّي مدارس الابتدائية في اجتماعه السنوي قبل يومين، بإلغاء إطلاق اسم ماكدونالد على المدارس، لدوره في تشريد سكان بعض القبائل من ممر خط القطار العابر من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، قبل مائة وخمسين سنة.
ويبقى السؤال الذي يدور: هل يشفع للقادة الكبار إنجازاتهم العظيمة، إن كانت قد قامت على جرائم بحق الإنسانية كالإبادة أو الاستعباد أو التمييز أو انتهاك الأعراض أو نهب الأملاك؟ ألمْ يحن الوقت بعد لمحاسبة المسؤولين عن احتلال الأراضي وإبادة السكان الأصليين واستعمار الشعوب ونهب الثروات والتحكم بطرق التجارة؟
إلى الآن، يبدو الأمر مثيراً جداً بالنسبة لنا نحن الشرقيون. وخاصة لأننا نشأنا على كراهية الغرب.
غير أني أرجو أن لا تنقلب مشاعركم وأنتم تتابعون القراءة:
لأن كرتنا الثلجية لا بدّ لها من أن تتدحرج هي الأخرى، لإدانة خلفاء بني أمية وبني العباس والمماليك والعثمانيين والصفويين ممن اعتدنا على تمجيدهم، لمحاسبتهم على جرائمهم البشعة. بدءاً من قتلهم لأشقائهم خشية منافستهم لهم، مروراً بنهب الولايات الخاضعة وقضائهم بوحشية منقطعة النظير على الثورات فيها، وانتهاءً بالحروب المتتابعة مع الممالك المجاورة، ونهبها واستعباد أهلها وسبي نسائها فيما يحلو لمؤرخينا تسميته فتوحات. وإن كنّا لا نقدّس الخلفاء، فإن فئةً عظيمةً منا يحلو لها التغنّي بأمجادهم القائمة على تلالٍ من الجماجم!
ألم يحن الوقت بعد لمحاسبة صلاح الدين الأيوبي؟ هل يشفع له تحرير بيت المقدس، أن يغدر بمن استوزروه في القاهرة إلى أن قضى عليهم تماماً؟ وهل يشفع له الفتح، هدنته طويلة الأمد مع الصليبيين من أجل قتال أبناء عمومته الزنكيين في الشام إلى أن أبادهم أو أخضعهم لملكه؟ وهل تشفع له إنسانيته إزاء أسرى الصليبيين، عزله لرجال الفاطميين عن نسائهم ليقطع نسلهم؟ وهم أشراف النّسب!
خدعونا حين قالوا غايته كانت تبرّر وسيلته. لا غايةَ تبرّر حروباً تأكل الألوف، من أجل قتال الروم بعد ذلك بعشرات السنين! ولا غاية تبرر إغلاق جامعة الأزهر ونهب دار الحكمة التي فاقت بعظمتها بيت الحكمة ببغداد. ومازال المسلمون يتأسفون على مصير مكتبة بغداد على يد هولاكو، ولا يذكرون مكتبة القاهرة. وكأن القضية هي ليست ما جرى، بل على يد مَن!
ألم يحن الوقت بعد للتبرّؤ من الفاتحين الأوائل، ممن كان غرضهم المُلك والنهب والسّبي، ثم يدّعي المؤرخون أنها كانت من أجل الدّين؟ أرى أن ذلك لا بدّ أن يطال موسى بن نصير ويزيد من المهلّب. كما أرى أنه لا بدّ أن يطال خالد بن الوليد نفسه، لما اشتهر به من بطشٍ وأعمالٍ مشينة خلال حروب الرّدة.
خدعونا حين قالوا تأوّل فأخطأ. قد يخطئ المرء مرّةً أو مرّتين، ولكن حين يصير الخطأ ديدنه، نكون أمام مَن يستوجب التعزير.
ألم يحن الوقت بعد للتبرّؤ من معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، إذ نقضا بيعة الإمام علي وقاتلاه في حربٍ ضروس راح ضحيتها عشرات الألوف. ثم ألم يحن الوقت بعد لكشف المسؤولين عن وقعة الجمل؟
خدعونا حين قالوا إنّهم اجتهدوا فأخطأوا، ولهم الأجر في ذلك!
هذا حال طالب المدرسة حين يجتهد فيخطئ. وأما الذي يتسبب بالكوارث للأمة فهو باغٍ تجب البراءة منه.
فكذلك اجتهد الدواعش، حين اكتشفوا أحقّيتهم في محاسبة الناس وذبح الآمنين من أجل إعلاء الديّن!
وكذلك اجتهد كولمبوس، حين اكتشف أحقّيته في إبادة سكان جزائر الكاريبي لأنهم وثنيون لا يؤمنون بالمسيح!
وكذلك يجتهد من يلطم صدره ويضرب رأسه بالسيف يوم عاشوراء لأن ذلك يقرّبه من الله سبحانه!
وكذلك قد أجتهد أنا، فأفتي بجواز السطو على المصرف الواقع في رأس الشارع لأنه يعود لكنديين أسرف أباؤهم في الظلم!
تلك أمّة قد خلت. يجب أن نتحاشى الانتقاص من أحدٍ من غير بيّنة، كما يجب أن نتحاشى التعميم. ومع ذلك أجدني مضطرّاً للتمييز بين التديّن الشكلي والتديّن العملي. تفانينا في عباداتنا لا يُقرّبنا من الله إلا بقدر ما يقرّبنا منه سلوكنا. وتأسيّنا بالسّلف بغض النظر عن سوء فعالهم، سيسير بنا إلى نتيجة حتمية واحدة: القتال الطائفي.
يحكم المتديّنون العراق منذ أمد. يسابقون الناس في كلّ مناسبة على العبادات، حيث غادر أكثر البرلمانيون إلى الحج، في الوقت ذاته الذي لا يتورعون فيه عن نهب خيرات البلاد! وما زال العراق في ظلّهم يهيم من سَيّءٍ إلى أسوأ، نتيجة الجوع والفساد والاحتراب والاحتقان الأهلي، إلى أن أوشك على الإنهيار.
ما لم نبدّد هالة القداسة التي صنعناها حول بعضهم دون وجه حق، سيظل يأتينا من يتأسّى بأفعالهم الخاطئة مدّعياً أنها تشريع، والدّين منها بريء. الدين لله لا للغنائم والسبايا أو الحوريات، كما أن الدّين ينهى عن إيذاء الذات. أن تتولى الحكم في بلد يعني أن تصير خادماً لأهلها. لا يعني أن تظلمهم وتسرق أموالهم، ولا يعني أن تستعبدهم وتسبي نسائهم، ثم تسمّي ذلك كلّه جهاداً في سبيل الله!
إن أعجبك الموضوع، فساهم في نشره. فإن عجزت عن ذلك، فشارة إعجاب تكفي.
نُشر أصلاً في "نافذتي":
https://akbasca.wordpress.com/2017/08/27/بين-الجهاد-والاجتهاد/
-
أقباس فخريلا أكتب للناس بل أكتب لذاتي. أحاول العثور على نفسي حين أكتب. لعلّي ألملم شتاتها المبعثرة فأجمعها، أو عساني أعيد تكويني.