كفاح أبي (3) - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

كفاح أبي (3)

  نشر في 07 فبراير 2017 .

يصـــــوم القلم فيطــــــــــول الألم، ينقطع الكلِم فينطلق الكَلْمُ، تتبعثر الكلمات فتنحسر العبرات، تفارق الروح الطين و هي دفينة الطين، تقف الأقدام بين منطقة الوجود و العدم، شرايين القلب صارت أوتار عود شَجِمِ، نفس تغيب في حُزن أحزن من الحَزن، مضاضة جاوزت طعم العلقم، عقارب دقت فانخطفتُ في وجم، ملائك حطت فرفعت روحاً في كتم، ظلت أعين ترقب جسداً ممدوداً في سلَم، ذاكرة تُمحى و تلك المشاهد لم تنفطمِ، لا زلت أذكر المكان و الزمان، الأحداث و دقائق التفاصيل، النظرات و الأحاسيس، كل ثانية كل صغيرة و كبيرة ...

كان يوم سبت و آخر سبت له، بعد أسبوعين من عيد الفطر و كان آخر عيد له، كان عاجزاً، كغيرها من الأعياد الأخيرة، عن الخروج إلى المصلى، اكتفى بلباسه المعتاد، لم يبذل طاقة في تغيير ثوبه أو إظهار شيء من الفرحة و الحبور، على عكس ما جرت به العادات عند العائلات من تحضيرات و استعدادات قبلية، ألبسة جديدة، حلويات متنوعة، زيارات و تهنيئات متبادلة. لم يكن أبي من النوع الذي يخرج يوم العيد، كان يظل يومه في المنزل يستقبل المباركين و هاتفه بيده، تارة مبادرا بالاتصال و تارة مستقبلا له، لكنه في هذه المرة لزم صمته و ركنه، لعله لم يتصل أو اتصل بواحد أو اثنين من العائلة، لم أفهم السبب وراء إحجامه، أ لأنه لم يصم رمضان، و إن يكن فرمضان قد ولى، أو لعله أراد قبل وداع أهله أن يتبين من منهم يبادره بالخير. يوم العيد يوم فرح و بهجة، تلك المعاني التي لم يظهر منها إلا السراب على نفسية أبي، كان طولَ يومه غارقاً في غمغماته و سُبحته لا تفارق يده، لا تلتفت إليه إلا حينما يشير بسبابته معلناً تمام الورد أو ترسيخا منه للشهادتين، لا يخرجه من خلوته إلا نداء للصلاة، أو نشرة الأخبار التي لم يكن يفوتها منذ عرف للتلفاز مكان ببيتنا.

مرت أيام العيد و كأنه تغيير لأوقات الوجبات فقط، حلاوة العيد هي أن يغمر الأسرة بأسرها و كأنه حبل متين يلتف حول القلوب ليزيدها قرباً و حباً، جو سرعان ما تبددت غيومه بعد خبر تحديد حفل تخرج فوج المهندسين لهذه السنة، إنه فرصة العمر ليرد كل واحد منا شيئاً ضئيلا من معروف الوالدين، كنت أعلم يقيناً أن حالة أبي الصحية لا تسمح له بالسفر إلى الرباط لكنني أصررت على سؤاله، فكان أن ترافقني أمي و أخي الأصغر إلى ذلك الحفل. لطالما ترددت مكالماته عن حالة أخي، عن مطعمه، عن مشربه و عن قيامه و مجلسه، كان شديد الحنان و العطف على أخي، كان رده حينما سألته بغيرة الأشقاء عن أحب أبنائه إليه " كلكم سواء، إلا الصغير حتى يكبر و الغائب حتى يحضر و المحتاج حتى يقدر" ... لن أظفر من تلك المسرحية الإحتفالية إلا بضمة أمي و ابتسامة أمي ... ما إن فرغنا حتى جاء الهاتف بأن حالته قد ساءت و أنه يطلب حضورنا أجمعين، لم يؤذَّن لصلاة العشاء إلا و نحن بين يديه نحكي له عن أحداث المسرحية و أبطالها، فتقاطعني أمي بالسؤال عن كل طالب و من يكون ... يروي له أخي عن المعهد و عن كثير مما رأى، و هو يجول بناظريه بين وجوهنا و هزات رأسه تحكي عن غبطة باطنة، التفت إلي حينما شرعت في عرض الصور الملتقطة، كانت نظراته تطلب الصفح لأنه لم يكن واحداً بين الحضور فكنت منتظراً سماع ذلك منه، لكن تنهده حمل تبريراً أعلمه " آه لو كنت بصحة جيدة ..."، لم أدر أكان مدركاً لمدى فخري به أكثر من فخره بي، فما كان همي من ذهابه إلا ليرى شيئا من محصول زرع السنين ...

كان يوم سبت و آخر سبت له، مضى أسبوع منذ عودتنا من الرباط، شهدت حالته الصحية تدهوراً فضيعاً، لم يعرف النوم طريقاً إلا جفونه، كان يمضي ليله جالساً تحت ضوء القمر، باحثاً عن صفاء الفضاء و طري الهواء، أصبحت حالة ضيق التنفس تصيبه مرات عديدة، و كلما شخصه طبيب إلا و أخبر بأن الدواء الذي يتناول هو الأنسب، لكنها الروح عندما تضيق بأضلع الجسد، إنها النفس عندما تتوق إلى الخلود. اصفر وجهه، شحبت معالمه و بدت أمارات الرحيل جلية واضحة، إنتفخت قدماه و أصبح الوقوف من أعسر الحركات، غلفت طبقة من الصفرة جفون عينيه. عصر يوم السبت، تداركه شيء من الوسن على كرسيه مال منه رأسه، كان قد كره الاستلقاء في فراشه و غدا لا يقوم عن كرسي اتخذه في ركن من سطح البيت إلا لحاجة ضرورية، ليله كنهاره، رفعت أمي رأسه بلطف مخاطبة إياه :

- علينا أن نذهب إلى المستشفى، لا يجب أن تظل على هذا الحال ...

لكن الرجل السقيم ما إن حمل إلى باب غرفته ليغير ملابسه حتى فقد وعيه، كنت أحمله بين يدي و هو الذي حلمني بين يديه و لم يكل، كنت أنظر إليه و هو الذي غمر حياتي نوراً بنظراته. لم تقبل العيادات الخاصة إيواءه لأنه مغماً عليه، فقط مستشفى محمد الخامس من كان مثواه الأخير، توقف عجلات السيارة بباب المستعجلات، أسرعت بحمله بين أحضاني، لم نطلب كرسيا و لا سريرا متحركا إنما كنا نرجوا أن يتحرك هو، اقتحمت به الأبواب إلى حيث ملك الموت، ظلت أمي و صديقي في قاعة الإنتظار، وضع على سرير في قاعة الإنعاش، دقات قلبه متباطة و تنفسه غير منتظم، اغرورقت عيناي بالدمع و سورة الملك تجري على لساني، كانت نظراتي مستقرة على وجه أبي، عندما سمعت آذان العشاء، توجهت تلقاء النافذة، نظرت إلى السماء ثم توجهت إلى رب السماء أن ينزل الشفاء، لم أنتبه إلا و أحدهم يضع يده على كتفي :

- هل ذلك السيد قريبك؟

إنه قريبي و حبيبي، أبي و قرة عيني،

- أسأل الله أن يرحمه لقد انتقل إلى جوار ربه ...

لم أدر كيف تبسمت في وجهه ثم التفت إلى ذلك الجسد الممدد على السرير،

- رحمه الله ...



   نشر في 07 فبراير 2017 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا