تصاعدت أنفاس المحبة حتى وصلت عنان السماء , لم تتناثر على قلوبهم سوى لحظات السعادة , سعادة اللحظة حينها بدت وكأنها حياة أبدية وليست مجرد لحظة لا قيمة لها بزمنهم , تشابكت الأيادي في قوة عجيبة , وكأن القوة لم تُخلق وتُفطر إلا حينها , وكأن القوة إتضح معناها الأصلي عندما تلامست الأنامل واقترنت الكفوف , وصلت النشوة لذروتها , تغافلت القلوب عن العيوب ولم تجد أمامها إلا أن تتقاسم النبضات , تلاحمت الأرواح ولم تهب موعد التفرقة بينهم , كانت بتلاحمها تُنذر الحياة بأن الفراق هو الجاني على نفسه إن إقترب , وكأنها إقتطعت العهد الذي لا خذلان فيه .. لن يفترقا وإن إجتمعت كل قسوة الحياة حولهما وقطعت سعادتهما إرباً ..
تناغمت الأرواح .. ظلت الكفوف متماسكة , اطبقت الجفون جفونها على لحظات القسوة التي ظلت الحياة تقذفها على قلوبهم بلا هوادة , تارة تسلب بعضاً من أمنهم , وتارة تسحق جزءاً من إتزان نبضهم , بينما هم ظلوا على العهد , قابضين عليه كما يقبض الكفيف بعصاه الذي يتكئ عليه وحده ليهتدي سبيله , ودونه هو الهالك في طرقات الحياة , وحده أيضاً ..
ظلت الحياة تتقاذفهم , لم يكن في حسبانهم أن الحياة قد تصل في صبرها عليهم إلى المنتهى , ظلوا يُحاربون ويحاربون وظلت الحرب قائمة بينهم وبين صرامة اللحظة , وعند إشتداد الحرب لم يُخيل لهم أن أقدام محبتهم على وشك الضعف والسقوط , لم يضعوا ذلك ضمن خطتهم , وبالفعل , إشتدت رياح خريفهم , فتساقطت زهور ربيع حبهم رويداً رويداً ! , وأعلن الفصل عن إنتهاء إشراقه , وفصل السقيع سيطر بكل قوته على مشهد النهاية , فأما عنهم , فكانت لقوة حبهم طاقة خفية هم فقط يعلموها , طاقة لم تسلبها منهم الحياة بكل تقلباتها وسذاجة منطقها , طاقة لطالما حافظت على إتزان خطواتهم , فسبيل الحب لا يرتضي أن تسلكه أقدام مضطربة غير قادرة على مواجهة " مطبات " الرحلة .. رحلة , وما أجملها رحلة ! , إنها رحلة الخلود , رحلة الوصول .. رحلة الخلود بقرب الحبيب والوصول لأعتاب جنات ونعيم الأرض بجواره , بها يصل المحبين إلى ذواتهم .. الضائعة , فلا معنى يكتمل دون إيجاد كلاً منهما للأخر , وبطاقتهم السحرية يكتمل معنى الأبدية ..
إنه الوفاء .. إنه الإخلاص .. إنه الإصرار ..
لن تُقدم الحياة السعادة على طبق من ذهب , لن تمنحها دون إنتظار مقابل , ثمة ضريبة لقلوب المحبين , ثمة لهيب يشتعل بضلوعهم بين الحين والأخر , ثمة فراق ينتظرهم على أعتاب أبواب أرواحهم , ينتظر فقط الفرصة , مجرد فرصة ليغدو مسرعاً ويستقر بينهم , فجوة بسيطة .. تصبح كفارق السماء والأرض بين قلوبهم ! , وحده الفراق قادر على محو العشق , إزالة الفرصة ذاتها ولكنها فرصة التلاقي , فرصة عودة الروح لمسكنها , عودة اللاجئ لموطنه , وحده الفراق قادر على البناء ! , نعم .. هو يبني ولكنه يبني كل الحواجز التي هشمها العشق قديماً , يُعيد ترميم ! , نعم .. ولكنه يُرمم كل العقبات التي حطمها الود عندما أقسم على البقاء في قلوب محبيه , وحده الفراق قادر على إعادة النبض بقلوب البشر ! , نعم .. ولكن النبض المُعاد إحياؤه حينها هو نبض الحزن والبؤس , نبض الإنطفاء , نبض وكأنه لا نبض له من الأساس ! .. فأما عن المحبين , الصادقين , الموفين بالعهود , خسارتهم في معركة العشق لم تكن بهذا السوء , لم تُسمى خسارة بعد , لقد خسروا كل أسلحتهم أمام عذاب الحياة , أمام قسوتها , ولكن بقي سلاح أوحد لم يفرطوا به , ولن يفعلوا , فهو ملاذهم الوحيد .. هو الوفاء , وليس دونه شئ يمكن إبقاء حبال المحبة متصلة بين قلوبهم ..
تفترق القلوب , تضل سبيلها عن الأخر , يضيع نبض أحدهم عن الأخر , فلا يجد من يدله على مكانه , أين هو الآن ؟ , كيف حاله ؟ , كيف يشعر وهو مسلوب الحياة ؟ , وهل من لقاء واحد يروي الروح من جديد ؟ , هل من إلتقاء يزيح غبار التعاسة التي لم تكن في الحسبان ؟ , فقط لحظة تُعيد الحياة , لحظة وكأنها دهور وحيوات , فإن إفترقت الأجساد , وأصبح لكلاً منهما موضعه , شرقاً كان أو غرباً , أقصى البلاد أو أدناها , يظل الرابط قوياً , رابطاً روحياً وصل بين المحبين , فما من فراق يُهاب منه , وما من موت يُهرب بعيداً عنه , ثمة عودة , ثمة لقاء وإرتواء , ثمة شربة محبة لا ظمأ بعدها , ووحده الوفاء قادر على إحياء ما أماته الفراق فينا ..
فبعد أن إنطفأت شعلة المحبة , وبعد أن تناثرت الأجساد بأرض الحياة , وبدأت رحلتها في البحث عن سعادتها من جديد , " الحق أنها سعادتها المزيفة " , وتفرقت الأرواح , ثمة أمل ينبعث من بعيد , وبرغم بُعده إلا أنه أقرب إلى قلوب المحبين من صدى نبضهم المتأهب للحظة الإحياء , المُنتظر بشغف لعودة شغفه من جديد ..
احذر .. قد تصل بعشقك لما بعد معاني العشق , ولكن الحياة لا تقبل ضمانات , فلا ضمان لبقاء شعلة الحب متوهجة للأبد , ثمة عاصفة , ثمة أمطار , التوهج لن يدوم طويلاً , فتقلبات الحياة هي الضمان الوحيد بها , حب بلا أفعال فهو مجرد شعور مؤقت , وقبل قدوم العاصفة .. يُسحق ! , قبل إشتداد الأمطار .. ينطفئ ! , وأما عن صدقه فهو يتضح عند الإشتداد , عند تبدل كل لحظة سعادة إلى لحظات ملل , لحظات يأس , وعندما تجد رفيقك على هاوية السقوط , هنا يتضح من منا يحب بصدقاً خالصاً ومن يفتعل الحالة ..
أن تفي بعهدك فهو ليس بعيباً يُحسب ضدك يوماً , أردت أن تُبقي شعلة حبك منيرة لك وللكون بأكمله .. فما عليك سوى أن تمسك بسلاحك الأول والأخير في معركتك للحفاظ على حبك .. ومهما إقتلعت رياح الحياة جذور محبتك , قم بغرزها من جديد بأرض المحبة الخصبة , هي كانت خصبة وستظل مهما إنقطعت منابع المودة عنها .. اسقها بماء الإخلاص , العطاء , وتذكر أن ما من شيئاً تحارب من أجله إلا وكان يستحق ذلك , لا تدع مدخلاً للفراق , وإن حدث " تذكر أن الحياة لا تقبل ضمانات " , فالوفاء وحده هو سر إلقاء حبك على قيد الحياة , والآن .. هل تجد أجدر من الحب الصادق الحقيقي يستحق أن تُضحي من اجله , أن تُبقيه حياً برغم هلاكك أنت بلحظة ما ؟ , هو الباقي بعد كل حياة ..فإن وجدته , فخسارتك له هي خسارتك لذاتك أولاً ولمعنى حياتك أخيراً .. فلتعد لوطنك الأصلي الآن , ولا تدعه يتبدل لمنفى كبير بدونك ..