واقف بين الناس كلٌ يعانق غائبه العائد إلا أنا .. فقط أتصفح الوجوه فابتسم لهم مهنئًا ، ثم ينتقع وجهي لنفسي .. وبعد أن تنفَضَّ قوافلُ العائدين والمرحبين أتهادى وحيدًا عائدًا أسأل نفسي سؤال اليائس لا المستفهم .. مالي أرى الناس يعودون ولا تعود أنت ؟! ما أشقى الغياب الذي لا يرجى بعده في الدنيا لقاء !
يقولون .. الغياب على أمل العودة يؤلم أما الراحل إلى الآخرة فقد ارتاح وأراح !
هم فقط يقولون ذلك لأن كل إنسان يرى ألمه أشد من آلام الناس وإن كان أقلهم ألمًا .. ولأن من عجائب الناس أنهم يتفاخرون بالألم كما يتفاخرون بالنعم !
هل تساوون بقاء الأمل وإن كان ضعيفًا بانقطاعه تمامًا ؟ وشبيه ذلك بقاء اليد المصابة والتي ستشفى ولو بعد حين واليد التي اندمل جرحها بعد ما بُتِرَت فهو وإن زال عنه الألم فقد زالت معه اليد التي يحمل بها ويسند عليها ويدفع بها عن نفسه !
اليأس إحدى الراحتين ، لكنها راحة كراحة الموت ، نعم الغياب النهائي يبرد القلب ويسكنه ولكن لهيب الفقد ورجفة الشوق هو الحياة التي يقابلها برودة الموت وسكونه !
أتَعْلَم؟ يستنكف الحبيب المُودِّعُ أن يترك مكانه في قلبك لغيره ، ويفي له القلب في ذلك فيترك مكانه وقفًا لا يُمس وحَرَمًا لا يُوطأ ، فتحيا بقلب ناقص ، وتشعر بقلب إلا جزءًا ، وتفرح إلا جزءًا وتحزن إلا جزءًا ، فإن فقدت حبيبًا آخر نقص جزءٌ آخر ، وهكذا حتى يهلك قلبك كله وتعيش بعدها فارغًا .
عند الفراق المؤقت نبكي أولًا ثم نتصبر بعد ذلك برسالة نشم فيها عطر الحبيب الغائب أو خبرٍ يربت على قلوبنا أو اتصالٍ يعانق أرواحنا ، أما فراق الموت فنصبر أول الأمر ثم نعاني بقية العمر ، لاسيما إن كنت مثلي تتجلد وتشمخ لحظة الزلزال ، لحظة أن يقف الجميع حولك خشية أن تسقط ليعينوك ، فإذا اطمأن الناس عليك وتيقنوا من برئك انهرتَ وحدك حيث لا مواسٍ ولا معزٍّ .
لعل أحزان الحياة تكمن في الفراق .. فراق الناس .. فراق الأشياء .. فراق المعاني الجميلة والقيم العظيمة .. ولعل نعيم الجنة أنه لا فراق !
-
عبد الله نجيبخريج أصول الدين - جامعة الأزهر .. طالب ماجستير في الفلسفة الإسلامية - جامعة القاهرة
التعليقات
الم فراق الموت اشد ، لأن الموت هو النهاية و ليس بعده عوده ..
اما الم الغياب فهو اخف على قلوبنا لأن الأمل بعودة الغائب كالضمادة تخفف من الألم .