الشجرة التي آوت الغابة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الشجرة التي آوت الغابة

  نشر في 05 أبريل 2020 .

إلى  عمتي غوتية و زوجها الحاج محمد بوحفاضي عليهما  رحمات الله ..............

لا أزال اذكر لحظه دخولي للبيت بعد خروجي من المدرسة بعد الظهيرة، و كيف كنت اجزم لحظتها أنها هنا، نعم كنت أراها من خلال رائحة الحلويات التي تزكم الأنوف وتثير جهاز الإستشعار، أراها من خلال صورتها الحاملة للبسمة والابتهاج، فاعبر بهو البيت وإذا بها جالسة مع الجدة برفقة أمي، إنها هي كما قلت فحدسي لم يخيبني، فتفرح بي وتقبلني وتفتح لي أبواب الحنان .

لا أزال اذكر العطلة في بيتنا وأنا صغير، وقتها لا وجود للمكيف ولا مكان للمبرد ولا كماليات اليوم، فالعلاقات الإنسانية تتكفل وحدها بدغدغة الأيام، وتتبيل المذاق، فكان البيت يتحول إلى منتجع سياحي تقدم فيه الأطباق الشهية، و تقام فيه الاحتفالات، ويصبح مزارا للباحثين عن السرور في جوارها والاستمتاع برفقة العابرة بين الأيام، ومختزله المسافات، و الاحتماء بظلها الذي يقلل آثار الأعاصير و يجود بالثمر في الشدة لدرجة ملئ الدنيا بهجة و جمالا.

لا أزال اذكر أيام كنا نزورها في بيتها في المناسبات، و كيف كانت الرحلة كابوسا لأمي التي لم تكن تتحمل منعرجات حمام بوحجر، فكانت معدتها تلقي بكل أثاثها في الطريق، ويفعل بها الدوار أفاعيله، حتى إذا وصلنا ووطئت أقدامنا بيتها، تلاعبت بنا روائح الأكلات الشعبية، وانتصبت قبلنا الحلويات التقليدية، وعانقتنا أحاسيس سعة الصدر، وروعه اللقاء، و لذة الترحاب ما يجعل المرء يجول بجوارحه بأرض الأمن والأمان والسلام، التي لا تضم سوى المخلوقات التي إن رميتها بالحجر، رمتك بالثمر،  والتي إن ذرفت عيناك واستك و آزرتك و ساندتك .

و أنا اكبر صرت أدرك قيمه أخلاق عمتي رحمات الله عليها، تلك التي نمت في تربة التضحيات، و تجذرت أصالتها و امتدت برغم العواصف الشديدة، فثبتت و حمت كل من استظل بها.أدركت أن أمثالها لن تلاقيهم إلا إذا صادفك التوفيق في بحثك عن الإبرة في كومه القش، هؤلاء الذين لمسنا معهم البركة والحشمة و الوقار وحق الجار، هؤلاء الذين وقفوا في أحلك الأيام، و جادوا في أصعب الأزمان، كانت بحق الشجرة التي تفرعت أوراقها وغطت عائلة بأكملها، الشجرة التي نثرت ظلها على المساكين، والأصحاب والأصدقاء وعابري السبيل، الشجرة التي كانت بالفعل رئة العائلة و الحي والمدينة.

لا أزال اذكر العطلة في بيتها وفي البحر وفي الخرجات، و كيف كانت تفضلنا حتى على أبنائها، و تذوقنا النفيس، وتلبسنا الجميل وتجود علينا بما تملك .

و يشاء الله أن يلاقيها أيام شبابها بالشرطي الأنيق المواظب على صلاة الفجر، صاحب القلب الممتد الشاطئ، و موطن الطيبة البريئة و الأصيلة، فأسسا عشا للزوجية لم يحضن الأولاد فقط بل كان وطنا لكل العائلة، و ملاذا لكل حزين، وفرجا لكل محتاج،  ومأوى لكل باحث عن الكرم و الطمأنينة والأمل .

و أنا أعود بذاكرتي للأيام الخوالي، صرت أدرك لماذا تشرذمت العائلات اليوم، ولماذا تفككت، ولماذا لم نعد نلتقي إلا بالمآتم، لان ملخص القصة كلها، أن الذي كان يجمع رحل، و الذي كان يصلح تعب و خارت قواه، و الذي كان يجود افتقر، ونصّب البشر الدينار و الدولار و اليورو في خانة القائد، و الآمر الناهي، فغابت ابتسامات القلب،  وتحول العطاء لمصلحة، و أخذت الظروف الاقتصادية تفرض منطقها، بل و أصبحت الجريدة الرسمية التي نستفتيها في كل مناسبة.

لا أزال اذكر وزنها في العائلة وما تفعله في المناسبات، و قوة وصلابة مبادراتها وطرائفها، فكانت بالفعل بعد جدتي حجر الزاوية، و مركز العبور لعالم جمع الأجيال، رأيت فيه دموع ضحك أبي كلما طافت بمغامراتها في أرشيف الذكريات وأيام شعبة الجنون، فقد كانت بشاشتها الأداة الراسمة للمدينة الفاضلة، والرافعة لراية الأخوة وعمق علاقات الرحم، ومدرسه الأجيال، فبيتها كان مفتوحا وعلى الدوام، و لا تسدل إلا ستار المدخل امتثالا لأوامر الحياء.

وأنا ألقي عليها نظرة الوداع ليلة رحيلها، لم أكن أتصور و لو للحظة واحدة أن أمثال هؤلاء يرحلون ويموتون ويعبرون للحياة الأخرى، كنت كمن يعتقد بخلود البشر على ارض الله، خصوصا تلك التي ملئت الدنيا كرما وجودا وفرحا وبهجة. في صباح اليوم الموالي رن الهاتف مذكرا البشرية ومعلنا على أمواج الدنيا أن كل من عليها فان و يبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، رحلت من درستنا سعه الصدر وحب الضيف ورباط الأهل، رحلت الأم التي ربت جيلا بأكمله، رحلت من تذوقنا على يدها طعم الحياة الجميلة ونقاوة السريرة، تاركة لنا أبهى صور الإنسانية، و أروع مشاهد الفرح  والبشاشة، و لا تزال البسمة ترتسم على قلوبنا كلما مر طيف وجهها بعيوننا و ذاكرتنا.

عليك رحمات الله يا عمتي غوتية، ويا الحاج محمد بوحفاضي، فانتم أحياء ابد الدهر في قلوبنا، و سيبقى ظلكم وارفا و منتشرا و جامعا، و ذكراكم حية في القلوب و الأفئدة، و صورة أنقى البشر ترفرف بعقولنا وقلوبنا و نحن نجالس آثار خصالكم الطيبة، المتفرعة من شجرة طيبة آوت الأهل و الأصحاب و الجيران .

محمد بن سنوسي

تم يوم الأحد 05-04-2020


  • 2

   نشر في 05 أبريل 2020 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا