أنيق الأحاسيس - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

أنيق الأحاسيس

  نشر في 06 مارس 2017 .

استيقظ آسر من النوم في تمام الساعة السابعة على صوت فيروز وهي تقول:

"عهدير البوسطة... ال كانت نقلتنا.. من ضيعة حملايا لضيعة تنورين..."

خرج من غرفته المغطاة بورق جدران أزرق منقوشٌ عليه غيوم بيضاء, وعلى شفتَيْه ابتسامة دافئة.

إنه شهر نيسان الجميل المُغلّف برائحة الحياة التي عادت بعد سُبات شتويّ طويل.

في الشّرفة جلسَ والداه العجوزين يحتسيان فنجان القهوة الصّباحي, والذي يختلف كُليّةً عن أخيه المسائي. فالقهوة صباحا ممزوجة بِطَعم الأمل والتفاؤل. إنّك في الصّباح لا تعرف ما ينتظرك لنهاية اليوم, وهذا بِدوره يبثّ في أصحاب النفوس الإيجابيّة احتمالات عالية ليومٍ جميل.

بِعَيْنيْن خضرواتيْن ناعسِتَيْن, نظر إلى والديْه بحبّ واضح ودعا الله في سرّه أن لا يُريه فيهما مكروها أبدا. اتّجه نحوهما وألقى تحيّة الصباح ثمّ أتبعها ببعض التهكّم الوديّ على العاشقيْن الوقوريْن اللذين لم يتشاجرا أبدا في رحلة زواج وصلتْ إلى المحطة الأربعين.

تناول يدَ والدته وقبّلها, ثمّ قبّلَ رأسها. وفعل ذات الشيء مع والده. ناولَتْه والدته فنجان قهوته مصحوبا بدعواتٍ نابعةٍ من قلبٍ صافٍ, لم يعرف الحقد يوما.

أطلّت شقيقتُه آمال وهي تلبس زيّ المدرسة الثانوية, وألقتْ تحيّة الصباح ثمّ جلستْ بِجانبه. قبّلَ رأسها في ودّ وابتسم. إنّها آخر حبّة في قُطفِ البيت, فأخواته الكبيرات قد تزوّجن منذ زمن طويل وأنجبنَ الأحفاد الذين يملئون البيت ضجيجا, ويغيّرون ملامحه في كلّ يوم جمعة -وهو يوم اجتماع العائلة الرسمي-.

كان والده المهندس قد تقاعد منذ خمس سنوات. ولأنّ آسِر حريصٌ دائما على مشاعر من يحبّهم, فهو لم يسمح للاكتئاب والضجر بأن يتسلّلا إلى نفسِ والده الطيّب المُكافح. إنّ والده يجيدُ فنّ الخطّ العربي منذ شبابه, وجُدران البيت كلّها تشهد على ذلك, لأنّه قد كساها بِلوحاتٍ رائعة لآياتٍ قرآنية وأبيات شِعرٍ مشهورة. ومن مبلغ بيْعِ سيّارته مُضافا إليه مبلغ كان قد اقترضه من صديق حميمٍ له يعمل في دُبي, قام آسِر بفتح محلّ صغير لوالده مزوّدٍ بأحدث التجهيزات, ليخطّ فيه وبكلّ أنواع الخطّ العربي لوحاتٍ ولافتات ورسائل وكتب, وأيّ شيء آخر يحتاجه الزبون في مجال الخطّ العربي. كما أنّه قام بِحَملة دعائية واسعة لمحلّ أبيه على كل تطبيقات وبرامج العصر الحديث من فيس بوك وتويتر وانستجرام. هكذا تمكّن والده من الحصول على زبائن كُثُر وتعاقد مع شركات ومكاتب ودور نشر, وازداد ربح المحل مع السنوات.

ولأنّه يخشى دائما من أن يصيب والدته مكروه من مرض التهاب المفاصل الذي أصيبت فيه منذ سنتين. فقد أحضر لها الخالة نجاة -سيدة أربعينيّة تُعيل أسرة كبيرة- لتقوم بأعمال المنزل التي تحتاج إلى الانحناء والصّعود والحركة المستمرة. كانتْ نجاة تأتي مرتين بالأسبوع, يوم الجمعة العائلي بالتأكيد, ويوم الثلاثاء. وهكذا اقتصرتْ مهمة والدته على الطبخ وإعداد القهوة فقط. أمّا باقي أيام الأسبوع حيث لا تأتي نجاة, فيقوم آسر وبمساعدة بسيطة من أخته المشغولة بالسنة الدراسية الأخيرة في الثانوية, بغسل الصحون وكنس البيت وتنظيف الحمامات. كان يقوم بكلّ هذا بحبّ وتقدير للسنوات الطويلة التي قضَتْها والدته في خدمة هذا البيت.

إنّه قد بلغ الثلاثون عاما منذ شهر, وجميع أفراد أسرته يعتقدون بوجوب زواجه الآن. لمَ لا؟ وهو مُحاسبٌ ماهر في عمله ويعمل في شركة مرموقة براتبٍ محترم.

لمَ لا؟ وهو وسيم الوجه, طويل القامة, بهيّ الطّلعة.

لمّ لا؟ وهو صاحبُ خُلُقٍ ودِين, بارّ الوالدين, عبِقُ السُّمعة.

يدور مع والدته وأخواته من بيتٍ لآخر بحثا عن بنتِ الحلال. وعندما يكتشف أنّهما لا يتوافقان بعد جلسةٍ أو اثنتين, يقول لها:

"ليس العيب فيكِ. فالورود تخلو من العيوب. لكنّ أفكارنا وآرائنا تسلكُ طرقا مختلفة. أنا متأكد بأنّك العروس المثالية لشابّ أحسن مني حظا. أتمنى لكِ كلّ سعادة الدنيا."

في الشركة, تراه يمشي بِثباتٍ كأميرٍ خرج من أسطورة شعبيّة. يفتح الباب ويُمسكُه لتمرّ بعض الزميلات, فهُو من أشدّ المُتحمّسين لمبدأ –السيّدات أولا-. وبعد حينٍ تراه يرفضُ مشاركة زميليْن في المكتب حديثاً قذراً عن سكرتيرة المدير وهو يقول: "اتقوا الله. إنّ لكم أخوات وزوجات, وكما تدِن تُدان."

هو يستقلّ الحافلة العمومية وسيارات الأجرة منذ أن باع سيّارته, وعندما يرى امرأة حامل أو أخرى مُسنّة, يتنازل لها عن مقعده بودّ.

عندما كان في الجامعة, يذكُر مرةً أنّه تأخر بالعودة إلى المنزل, وكان والده مسافرا. دخل إلى البيت قُرابة الساعة الواحدة صباحا, فوجد أمّه جالسة في المطبخ وهي تبكي بِصَمت. عرف أنه السبب. فقد شغل بالها عليه وظنّتْ بأنّ مكروها حدث له بسبب عدم ردّه على الهاتف.

عرف أنّه تصرّف بأنانية. فما كان منه إلا أن أمسك بِكلتا يديْها وانهال عليهما بالقُبَل الحارّة مُقسِما بأنّه لن يجعل هاتين الجوهرتيْن تدمعان ثانية, إلا دموعَ فرح.

آسرُ القلوب, الذي لا يتلاعب بمشاعرها, ويحترم عواطفها.

آسرُ النفوس, الذي يحترم تفردّها ويُشعرها بالأمان ويحفظُ وُدّها.

آسرُ الأرواح, الذي يحبسها بِقَصر روحه.. وبذاتِ الوقت يُسلّمُها مفتاح الباب...


  • 3

   نشر في 06 مارس 2017 .

التعليقات

بسمة منذ 7 سنة
تستخدمين وصفا دقيقا في سرد الأحداث !!
رااائعة كعادتك اختي .
1
نور الكنج
☺تحياتي بسمة الجميلة

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا