لم تتغير طبيعة البشر منذ زمن بعيد، دائمًا ما نغفل عن النعمة بين أيدينا، ونأسى عليها يوم أن نفقدها! ولات حين أسى!
نتحدث عما لا نملك؛ فإن ملكناه سكتنا. نحلم؛ فإذا تحقق الحلم زهدناه. الشوق واللهفة والشعر قرائن البعد لا اللقاء!
لماذا لا تتفجر ينابيع المشاعر وتسيل أنهار التعبير إلا بعد جفاف الزرع؟!
لماذا نداري ونتخفى ونتكلف حتى يؤذَّنُ للفراق فنستجدي لحظات أخيرة؛ لنخبر بعضنا بالسريرة؟!
لماذا الروايات التي لا تنتهي بزواج الأبطال أشوق؟ والشعر الذي قيل على القبر والطلل أصدق؟
لماذا لا تكون قصائد المدح والغزل والثناء في حرارة وبلاغة الرثاء؟! لماذا لا يملأ الشيء أركاننا إلا بعد رحيله؟! لماذا لا نتأكد من مشاعرنا إلا بعد انقضاء الموقف، ثم لا يبقى لنا إلا أن نأكل أصابعنا ندمًا وحسرة؟!
هل هو انتهاء أثر المخدر، والإفاقة بعد السُكر؟ أم إنه انشغال بالشعور عن الشعر، وانشغال بالحال عن المقال؟ أم إنه غفلة عن النعمة ونسيان للخير؟ أم هي سذاجتنا التي نفسد بها كل جميل وننهي بها السعادة قبل الأوان؟
في كل مرة أودِّع فيها راحلًا - وقد ودّعت كثيرًا في سنين عمري القليلة – أذكر له كلّ موقف! "كل موقف!" وأندم على كل خطأ واحدًا واحدًا، حتى لا أظن أنني نسيت موقفًا لم أندم عليه، وأتمنى لو أن هذا الراحل يعود فأُقَبِّلُ يديه وقدميه وأستعذره وأطلب منه البقاء، فإذا حيل بيني وبين ذلك ويئستُ منه، ولم تُجدِ دموعي، أنظر شاخصًا إلى الأحباب حولي مستحضرًا لحظة الوداع، أحاول جاهدًا ألا أفعل ما يعصرني ندمًا بعدهم، ولكنها لا تعدو كونها مشاعر لحظية، وأعود بطبيعة حالي فأُفَرِّط وأخطئ، ثم في كل مرة أندم!!!
هل ثمّة حزن مثير للتهكم أكثر من كلمة حبٍ امتنعتَ عن قولها خجلًًا أو كبرًا أو غفلة، ثم أنت اليوم تقول في ألم: "ربِّ ارجعون" لعلك تقولها، بل إنك بالفعل تقولها كل يوم مرات ومرات في نفسك ومنامك ومذكراتك، تتمنى لو أسمعتها صاحبها، وأنّى لك؟!
لماذا لا تكون مشاعرنا وقت الأنس واللقاء والوصل بعمق وصدق وحرارة ودوام مشاعرنا بموقف الحرمان والفراق والرحيل؟!
-
عبد الله نجيبخريج أصول الدين - جامعة الأزهر .. طالب ماجستير في الفلسفة الإسلامية - جامعة القاهرة