زيارة أولــــــــــى إلى دمشــــــــــق - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

زيارة أولــــــــــى إلى دمشــــــــــق

ّ

  نشر في 26 مارس 2017  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .


بيروت ودمشق

سنة 2006، كنّا أربعة تونسيين مشاركين في مؤتمر الفرع الإقليمي العربي للمجلس الدّولي للأرشيف ببيروت. مؤتمر تطاوس فيه كالعادة دكاترة العرب ليلوكوا كلاما مكرورا لا جديد فيه ويتبادلوا بطاقات الزيارة بكثافة. لم نتردّد بعد نهاية المؤتمر في التوجّه إلى سوريا وكأنّنا خطّطنا للأمر مسبقا. لم يكن من المنطقي أن نصل إلى تخوم الشام دون أن نزور دمشق. دمشق ذاتها لم تكن لتغفر لنا مثل تلك الغلطة.

لقطع المسافة التي لا تستغرق أكثر من ساعتين بين العاصمتين، سلكنا في البداية طريقا جبلية تغطّيها أشجار الأرز المغطّاة بالثلوج، قبل أن نتوقّف في استراحة على مشارف مدينة زحلة. مقهى بلّوري صاخب يضجّ بالحياة، مضمّخ بالدفئ وببخار المأكولات اللبنانية اللذيذة. ومن موقعه ذاك على تلك التلّة العالية يطلّ المقهى كبرج مراقبة على سهل شاسع لا يحدّه البصر. وقفت في الخارج أستنشق الهواء النقي مترشفا قهوة البن الممزوج بالهيل، أتأمّل الامتداد المغلّف بالضباب مركّبا على المشهد في ذهني مواويل جبل لبنان وأغاني العتابا والميجانا... قطع عليّ سائق سيّارة الأجرة متعتي وهو يشير باتجاه السهل: "نعبـــر سهل البقاع لنجد أنفسنا عند البوّابة الحدودية. نجتاز بعد ذلك سلسلة جبلية قصيرة تختبئ وراءها مدينة الشام..." اتجهت إلى السيارة وأنا أفكّــر في استخدامه لعبارة "تختبئ وراءها مدينة الشام"... والشام هي مدينة دمشق في عرف أهل المنطقة.

ونحن نعبر السّهل سيطر على ذهني سؤال واحد: "هنا إذن كانت تدور رحى المعارك الطاحنة بين مقاتلي أمل وحزب الكتائب؟ كيف لطرف أن يحسم المعركة لصالحه في ساحة مكشوفة كهذه لا تسمح بأيّ مناورة تكتيكية؟ لا تحتاج أن تكون خبيرا عسكريا كي تجيب ب "لا شيء غير التفوّق في العتاد والغطاء الجوّي"... فكّرت أنّ من يتورّط في مثل هذا السهل/المستنقع ويكون ضعيف العتاد وعاري الظهر والرّأس يكون مصيره الإبادة الشنيعة. ومن ثمّة وجدت نفسي أتساءل عمّا ستحتفظ به ذاكرتي من صور لبيروت بعد اسبوع من الإقامة فيها. هل هي الروشة؟ بالتأكيد لا، فذلك كليشي سياحي لا يختلف في شيء عن صخرة رفراف عندنا... هل هو شارع الحمراء الذي كم جبته جيئة وذهابا باحثا عن علامات باقية من مجده الآفل فلم أظفر بشيء يشير إلى مناخاته التي كم قرأت عنها في الروايات وسمعت النجوم والفنّانين يتحدّثون عنها...

ما رسخ في الذهن هو بالتأكيد ذلك التنافر الصارخ بين بيروت الجديدة المسمّاة سوليتير التي شيّدها رفيق الحريري في أقلّ من خمسة عشر سنة بعد اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية في 1989، وبين بقايا العمارات التي خرّبها القصف ووشّم جدرانها الرصاص فبقيت واقفة فاغرة شبابيكها وأبوابها التي فقدت دفاتها وأخشابها كأفواه درداء سقطت منها أسنانها. بقيت واقفة رغم مرور أكثر من خمسة عشر عاما على انتهاء الحرب. ربّما أرادوا أن يظلّ بعضها قائما كشاهد إدانة على فضاعة الحرب كي يكون درسا حيا للأجيال القادمة.

في مقابل تلك الأطلال الخربة التي تتجاور مع عمارات مرمّمة، نبتت سوليتير، مدينة حديثة مذهلة في فخامتها وعظمة بنيانها على أنقاض بيروت القديمة التي محتها الجرّافات... ولكنّها للأسف مدينة بلا روح، مطاعمها نظيفة بالتأكيد ولكنّ مأكولاتها بلا نكهة ولا رائحة...

لم أنتبه إلاّ وسائق سيارة الأجرة يسألنا أين سننزل، فأجبنا جميعا "في السونتر فيل"...

أنزلنا السائق في ساحة المرجة (وينطقها أهل الشام المرجي)، التي يمرّ تحتها نهر بردة... في المقاهي الشعبية المحيطة بالساحة حيث يكثر باعة المكسّرات والبن والهيل والتوابل، يجلس الشاميون يدخّنون النرجيلة ويلعبون الكوتشينة وهم يضحكون بأصوات عالية لا تفلح في إخفاء مسحة الكدر التي ترشح من العيون... يحدّثونك عن نهر بردة الذي يسقي المروج المحيطة بدمشق القديمة. تضع ربّات البيوت الدمشقيات غداء أزواجهن في مواعين مقفلة ويرسلنها إلى المروج (المزارع) على ظهر النهر، فتطفو على الماء حتى تصل إلى وجهتها، حيث ينتظرها الفلاّح في مزرعته. لا تختلط المواعين، لأن لكلّ مزارع ماعونه المميّز . يسترسل الحديث مراوحة بين الترحيب بك وأحاديث الفخر بالشام والحسرة على أيّامها الخوالي والتعبير عن التوجّس من الحروب القادمة... الدمشقي مبتسم دائما، كلمنجي، وكثير التنهّد...

شارع يوسف العظمة، سوق الصالحية، سوق الحامدية، جامع الأمويين بدمشق وأسواره التي تنتصب تحتها عربات باعة الفول الساخن. الدمشقي والسوري عموما تاجر بالسليقة. رائحة القهوة تعبق في كلّ الأسواق والركوة لا تغيب عن أيّ محل تجاري. تدخل الدكّان مستفسرا عن أسعار البضائع المعروضة، فيرحّب بك صاحبه ويدعوك إلى شرب القهوة، قائلا "القهوة أوّلا وبعدين نحكي في البيع والشراء." فلا تغادر المحلّ إلاّ وقد اشتريت منه إن لم يكن الكثير فالقليل.

زيارة إلى المقهى الذي شهد تأسيس الحزب الشيوعي السوري... وهناك، تجد نفسك أمام هرم طالما سمعت عنه وسمعته. تذهل لما يميّزه من بساطة. للوهلة الأولى، تفكّر في مصافحته وتحيّته. لكنّ هالة الوقار والحزن التي تحيط به تجعلك تتجمّد مكانك... لا تجرؤ على انتهاك عزلته فتكتفي بتأمّله من بعيد احتراما لحزنه. شيخ أوغل الهرم في جسده حتّى هدّ كتفيه. غارق في صمته، مغلّف بعزلته، سابح في تأمّلاته. إنّه الشاعر العراقي مظفر نوّاب... تغادر إلى النزل وأنت مثقل بهموم الشاعر الكبير.

في اليوم الثاني كنّا على موعد مع جهاد الأطرش مدير الأرشيف الوطني السوري الذي كنّا قد تعرّفنا عليه أثناء مؤتمر بيروت. لمّا علم بزيارتنا دعانا إلى زيارة الأرشيف الوطني ومكتبة الأسد الوطنية. وصلنا إلى مكتبه باكرا، فوجدناه بانتظارنا. بناية قديمة جدّا وهرمة تكاد تسقط على من فيها... تشبه في شكلها ومعمارها المكتبة الوطنية التونسية بسوق العطّارين... بعد زيارة قصيرة، أهدانا مضيّفنا كتابا تراثيا في ثلاثة أجزاء عن تاريخ دمشق كان قد حقّقه بنفسه... ثمّ دعانا إلى اكتشاف الصباح الدمشقي... قال محدّثنا أنّ الدمشقي يبدأ يومه متفائلا ومقبلا على الحياة. وهذا كاف لتعليق قاعدة الحياء التي تحكم علاقته بالمرأة. فالتغزّل بالمرأة وجمالها على عيون الملأ مباح في الصباح ومستهجن بقية اليوم. ذلك من مفاتيح التفاؤل والإقبال على الحياة. يتنافس أصحاب المحلاّت وهم يفتحون أبواب محلاّتهم على استنباط أعذب الكلمات وأرقّ العبارات لإلقائها على مسامع العابرات اللواتي يتلقّين عبارات الغزل كما لو كانت ياسمينا يرشّهن به الرجال فيبتسمن في حياء. سمعت بعضا من هذا الغزل الذي يشبه الشعر المرتجل، وتذكّرت عبارات "التبزنيس" التي يتلفّظ بها تجّار نهج جامع الزيتونة ونهج القصبة على شاكلة “نعمل أثناش و مانبطاش”، “شعندك من لوطة يا حوتة”. “تركحلي نهزك للنّحلي”... أووووه يا للفجاجة والقبح....

فطور الصباح الدمشقي مخلّلات وسلطات أو مرق الحمّص الشبيه جدا باللبلابي عندنا لولا غياب الهريسة العربي... يتقدّم الصباح شوطا وتبلغ حركة الأسواق والشوارع ذروتها، فيسيطر مشهد النساء الإيرانيات بعباءاتهنّ السوداء وهنّ مقرفصات أو يجررن حزم القماش والملابس التي اشترينها من الأسواق، حتى يخيّل لك أنّ أسواق دمشق ستفرغ من بضائعها عند المساء... لما يدثّر الليل المدينة، تتلألأ أضواء جبل قسيون فتكتشف مدينة عمودية معلّقة في الهواء كجدارية عملاقة...

يومان في دمشق غير كافيين لاكتشاف المدينة وثرائها الثقافي والمعماري... هل تعمّدت ذلك كي أجد لنفسي مبرّرا للعودة مرّة أخرى وأطول... ربّما...

لا رغبة لي في زيارة بيروت ثانية، ولكنّ شوق العودة إلى دمشق فيّ لا يوصف. لكن هل سيرحّب بي الدمشقي البسيط كما فعل رجال مقاهي المرجة سنة 2006، بعدما انتشر القتلة التونسيون في بلادهم وعاثوا فيها فسادا وتدميرا؟؟


  • 1

   نشر في 26 مارس 2017  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا