-تعلّمتُ من الأيام ومرورها كيف أستسيغ مُرّها، فأجبرتنى يدُ القدرِ ألاّ أمدّ الطرفَ بعيدًا لأحلامي الورديّة؛ فالوردُ لا ينبتُ إلا فى الجنانِ يا صديقى، ونحنُ ما زلنا بين يدي الدنيا.
1-وها أنا ذا مع يوسف ابنى صاحب العشرِ سنوات يصطحبنى معه كناصحٍ يحملُ بين جنبيه قلبَ رجلٍ ويسير بقدمي طفل لا تُكابد الأرض عناءًا فى حمله خَلقًا ومعنًا، بعد أن شاورتَه فى أمر هديّةٍ نراوِد بها أم يوسف فى يومِ ميلادها، فقالها لي فى شغفِ حبيبٍ يُغنّى لحبيبته: احنا نطلع بباقةِ ورد وننزل بباسكت سوڤونير نقدم فيه الباقة الجميلة دي، صدرت مني إبتسامةٌ خَجلى لأنّ جملته جمعت بداخلي شعورين أخّاذًا ومُضحِكًا: أحدهما تَرَاقي بداخلي كفيضِ سريان حبٍّ لا يُطِلُّ من القلب إلا لأمه، والآخر "وبعدين بقى فى الواد الرومانسى ده".
وطالما كان هو صاحب المشورة فهو كذلك صاحب المشوار ليصحبنى معه إلى بائع الورد، وكنّا نسيرُ كقلبين ينتشلان فرحتهما من أدنى الأشياءِ أثرًا على الدنيا، فقط يُحاولان أن يفرحا، وبينما نحنُ نتشاورُ فى دُنيا الألوانِ، إذا يقعُ فى خاطري طيفُ لونِها، نعم الأزرق كان لونها المفضل، ولكن لماذا الآن؟!! أينبغى حقًا أن تكون المسافاتُ بين القلوبِ كالريّاحِ بين الزهورِ يغمرها طيفٌ واحد؟!! أكلّ ذلك لأننى فى غضونِ دقيقةٍ رأيتُها أمام عيني وبيننا ورودُ الماضى لا ورود المحل!!!
فأرّقني الإنتباه أمام صغيرى ولكن ما عساي أن أفعل فى حركاتِ القلبِ، حركاتٍ تعودُ بي إلى أيّامِ الكلية، يوم ما أطلق قلبي العنان لوجعي الصامتِ حين قرر أن يُحب تلك التى يعلمُ أنه لن يستطيعَ بها جمعا، ليس لشئٍ إلا لأن ظروفه لا تملُك شيئًا، كنّا عند بائعِ الزهور كوردتين ذابلتينِ بين ورودِ الحياةِ ذاتِ القلوبِ العاجزة، رأيتُها كعادتى ثانيةً لأوّلِ مرّةٍ فى حياتى، دارت فى لحظتنا هذه أحاديثٌ بلا أصواتٍ واندملت من الجفونِ كلماتٌ بلا كلام كما عَهْدِنا فى الماضي أو كما سيكون عهد الأزلِ معنا، ما أقسى أنْ يُدمينا الزمانُ بالورودِ!!! ومنْ نحنُ غيرُ خطيّةِ قلوبِنا؟ وأسرى لحربِ مُقدّساتِها.
وللحظةٍ ظننتُ أنّ الماضى يسخرُ منى بإكليشيه من تُراثِيّات الحياةِ الدرامية، ولكن سرعان ما اعترضنى يوسفُ واقفًا أمامي بعرض الحائط "وكف الزمانِ على قفايا" ، يعيدُ علي درس التجاوزِ والتخطّى بعدما اوشكت أن أنساه بعد أكثر من 15 سنة، يقول لي: "خلاص يا بابا نشوف لون تانى بنحبه طالما مش لاقيين الأزرق".
أعادت إلي جملته تلك إيماني بأنهّ ليس لكلينا فى هذه الدنيا الملأى بالورودِ الناضبة سوى وردةٌ نضِرةٌ واحدة ونحتفل اليوم بعيد غرسها فى وجودِ وجودِنا، أمُ يوسف هي وحدها ما أمتلكته فى الدنيا من جنتي التى ما زلت أبحث عنها، تعلّمت من أعباء القدرِ أن أتعدّى على الأحداثِ فأمرُّ عنها قبل أن تتعدّى هى علي؛ فنحن منْ نقررُ بأنه وقوعٌ دائم أم أنه مجرد تأرجحٌ عابر، فنُكمل الطريق ولا نبكى على الأطلال فأطرقت مُحدِّثًا يوسف: "لله على الناسِ نعمتان لا يطيبُ بدونهما العيش: النسيانُ والأمل، ماذا كان يصنعُ الأسى بالقلوبِ الوالِهة إذا لم يمحُ النسيانُ من الذِهنِ صورة الحبيب الراحل؟!! فإنّ الجبّار الذى سلّط الألم على الروح هو الرؤوف الذى سلط الزمن على الألم، فالزمنُ لا ينفكُّ يسحب ذيول الأيامِ على الصور والآثار حتى تنطمسَ المشابِهُ وتعفو الرسوم، ولا يبقى من المفقودِ إلا صورة لا تنطِق ولا من الجراحِ إلا ندبة لا تُحس، وماذا كان يفعلُ اليأس بالنفوسِ المكروبة إذا لم يفتح الأملُ أمامها فرجةً فى الأفقِ المُطبق وفسحةً من الغدِ المجهول؟!! إذا كان فى اليومِ قنوطٌ ففى الغدِ رجاء، وإذا لم تكن لي الأرضُ فستكون لي السماء "
-
عبدالرحمـٰن علوشهايل