وما أدراك ما الموت - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

وما أدراك ما الموت

الموت

  نشر في 03 ماي 2016 .

وما أدراك ما الموت

الباحثة.. هيام ضمرة

"كلُّ مَنْ عليْها فانْ ويَبقى وَجهُ رَبكَ ذو الجَلالِ والإكرَام" سورة الرحمن

من غرائب ما يقابل الإنسان أنْ يفزَّ ذهنه ذات لحظة مفاجئة وفي خاطره رغبة ملحَّة أنْ يتناول الموت بحديث، هذا اذا اعتبرنا أنَّ الحديث حول الموت يتجاوز سنن القبول عند الناس، وأنه ليس إلا ذلك الشبح المتراقص على شاشة مخاوفهم، ولكن في واقع الأمر أنَّ الموت أمر مقدَّر على كافة مخلوقات الدُنيا، ليس مِنْ شيء يلغيه أو يتحكم فيه أو يتلاعب في حقيقته، فيسجل فيه فلسفته بلا أدنى انحياز، فالموتُ زائراً ثقيلاً تهابه الغالبية العظمى منَّ الناس، فيتحاشون الخوضَ فيه وسيان بذلك القوي منهم والضعيف، ويهرب من حقيقته الدامغة الكبير قبل الصغير، وينبذه عقل الانسان الشغوف بالحياة المتشبث بحبائل خياضها ومتعة نعائم عطائها، فحين تذكر الموت أمام محاور ما فإن محدثك يرد عليك بسرعة تتجاوز سرعة تفكيره: بعد الشر يا شيخ! أبعدنا عن هالسيرة!!

أو يقول بكثير من الجدية والتهيُّب "تف من تمك !!".. كناية عن إعطائك أمراً بالتوقف عن الكلام نهائياً، وكأنَّ عدم الخوض بالموت سيوقف حضوره، أوأنَّ مجرد ذكره من الممكن أن يستجلبه على عجل... فما أغرب أمر الناس!؟

وهذا النبي عليه الصلاة والسلام إذ يقول في الموت والانتقال من دار الدنيا إلى دار الآخرة " هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عُقبى" صدق رسول الله إذ فكره مما وهبه الهم له من سمو

إذن فالأمرالمؤكد والمفروغ منه أنَّ الموت ليس شراً مستطيراً، وأنَّ هناك عالماً آخر يتوارى خلف أسرار هذه الدنيا وأنَّ العيش فيها يتطلب حالة جديدة ليست على هيئة الحالة الانسانية الدنيوية، وأنَّ سنة الخلق تحدِّد زمناً لعمر الإنسان يبدأ بالولادة وينتهي بالموت، فالموت وهو التوقف نهائياً عن العمل لوظائف الجسم الحيوية، وانفصال الروح غير المادية عن الجسد المادي، هو مرحلة النهاية لحياة دنيوية محدودة تطول أو تقصر، فالموت وصف في حالات كثيرة بالرحمة الإلهية التي تضع حداً لعذاب الانسان، ولولا الموت لفاضت الأرض بإنسانها ولأكل الإنسان أخيه الإنسان، ولغاصت الأرض بمخلفات الانسان، ولتوحشت البشرية حدّ الجنون، وإنْ كنا اليوم نشهد توحشاً بشريا ضارياً يكاد لا يصدقه عقل إنسان، يحدث هذا خلال الحروب الأهلية في بعض الدول التي تلاعبت بها أيد بغيضة مجرمة، وأوقعتها في شبكة التحزب والتعنصر وعدم قبول الآخر الشقيق، فقسمت الشعب الواحد إلى شعبان والأمة الواحدة إلى عدة أمم، فإننا نستطيع تصور حال البشر لو أنَّ سُنة عيشهم كانت خالدة إلى ما شاء الله، يزداد تعداد البشر باطراد حتى درجة الفيض، وتفقد الأرض مقدرتها الطبيعية على استيعاب حاجات الانسان وعلى تقديم مادة عيشه من الغذاء والماء والأوكسجين، وسيختل نظام الحياة وتتهاوى قيم الانسانية ويزداد عداء الانسان للانسان.. فلله الحمد على ما خلق الله وأبدع في نظام خلقه، والعاقل المؤمن هو من يستطيع تقدير سنن الله في خلقه وحمده دائماً وأبداً.

يا نفسُ توبي فإِنَّ المَوتَ قد حَانا . . . . واعْصِِ الهَوَى فالهَوَى مازَالَ فَتَّانا

إذن فالموت هو مجرد محطة أخيرة مِن محطات الحياة فوق سطح البسيطة ليس إلا، وهو انفصال نهائي للروح عن الجسد، والدخول في مرحلة الصمت الأبدي والسكون النهائي، وهي مؤشرات للراحة الأبدية لو علمتم، لأنَّ الروح تتسرب بذات الهدوء نحو ملاذها الجديد، فأين يمكن أن يكون هذا الملاذ وهو في الغيب غائب؟ فالروح شيء سامي جداً، فهي تفارق الجسد إلى سموات عليا وإلى عالم برزخي متسام، "يسألونك عنْ الرُوحِ قلْ هيَ مِن أمر رَبي ومَا أوتيتم مِنَّ العِلمِ إلا قليلاً"

.. فيما الجسد دونيِّ المقام، قابل للعطب والتحلل، وعلى هذا فمكانة الملائم داخل التراب، تبتلعه الأرض وتهضمة أمعاء ديدانها لتعاود هي أيضا الاضمحلال الوجودي وتصبح طعاما سائغاً للتراب، فهنيئاً مريئاً لك يا أيها التراب وأنت فاه مشرع للأجساد الفارغة من الحياة، فسلاماً لأرضٍ لا تكلُّ الانتظار ولا ترفض معدتها الالتهام، فلا يليق بصمت الجسد إلا التراب، ولا يليق بصمت الروح إلا البرزخ، فأنت يا أيها الانسان مثقل بخطوات الحياة، مرهق أنت باجترار المشاعر على نتوءات كافة الأحاسيس بكلِّ الاتجاهات، تأخذك نفسك مِن حيث تدري ومِن حيث لا تدري في ارتحالات فيها الخطوب وفيها الشقاء يلازم حتى خطى الفرح والهناء..

فمن عادة الموت أن يأتي دون سابق إنذار، ودون أن يحدد موعداً، يباغتك ملكه أو يمهد لحضوره بالمرض المتقدم، ومعاناة سكرات الموت بإنهاك موجع، وهذا ليس بحال من الأحوال دليل تقصد الله في تعذيب عبده فكثيرا من الأنبياء عانوا المرض الموجع أو سكرات الموت الطويلة فهي ليست مقياساً لتعذيب دنيوي والله أعلم

فما دام الموت اختطاف مفاجئ وانفصال نهائي للروح عن الجسد.. فماذا تكون مادة الروح؟.. ومن أي شيء هي؟.. وعلى أي شكل تكون؟.. ولأي شيء تنتمي؟.. فالتصورات كثيرة والبحث لا يكلُّ إذ يداوم الإنسان في سعيه نحو المعرفة، وحدود التصورات العقلية البشرية تصفها بالأرواح الهائمة في ملكوت الغياب من عالم البرزخ، عالم غير مرئي تتخذه الأرواح موطناً وملاذاً يتسم بعالم الصمت والسكون، وربما لها مواصفات كونية أخرى لا يرتقي البشر إلى سبر أغوارها، لهذ فالجسد ينفصل عنها حين يحلُّ موعد رحيلها وحين تحمل حمل ذاتها وترحل إليه غير مثقلة بوزن ولا هم، ولا أيِّ شيء مادي من عزال الدنيا، ووسيلة نقلها من عالم البشر إلى عالم روحاني باذخ في السمو، هو سر من أسرار الله في الخلق كما الكثير من أسراره تعالى، فإن مجرد محاولة سبرها يفوق قدرة العقل البشر على الاتيان بذلك، رغم أن العقل البشري أعجوبة من أعاجيب الخلق، وأداة خارقة في الأداء والناتج

غريب هو هذا الموت الذي بمجرد انسحاب الروح عبر مادة الجسد وتسحب الحياة من ثناياه يُسقط عن الانسان كل مسمياته الدنيوية، ويصبحُ مجرد جسد ثاوي يلقب بالجثة أو جسد الميت، يسقط الاسم الذي حمله له الله حين خلق وأتى الدنيا وليدا به الروح عبر رحم الحياة.. الانسان.. ويختفي كذلك الاسم الذي وهبه له والداه ليفرق به بين البشر.. احمد أو ناصر أو خالد أو أوس... الخ، فيقال غسل الميت وأزح الجثة من هذا المكان، وفي النعي يصبح هو المتوفي أو الراحل أو الميت أوالقاضي نحبه، وملاذه القبر يُلحدُ به فارغ الوفاض إلا من كفن بلا مخيط، ويفارقه أهله بمجرد أن تهال علية الأتربة، نافضين أيديهم من تراب القبر، وتنكفئ بعده سيرته شيئا فشيئا إلى أنْ يصبح أثراً زائلا وذكرى تمر سحائبها في عقل الأقربون منصفة كانت أو غير منصفة، فتنطوي صفحته لتستكمل صفحات غيره، أو يبدأ بأحد أصلابه صفحة جديدة، وليصبح آخر أثر له شاهد قبره، وعبرة يعتبرها من خلفه البشر.. لله أنتم يا بشر، وما أنتم إلا بشراً يتبعه بشر، بشراً بالموت يغيبون ويحلُّ مكانهم بشر جدد، وتستمر الحياة كأن الذاهبون ما كانوا ولا كان لهم وجود، وقد عرفنا من ذلك أنَّ الموجودين حالياً سيغيبون كما غاب سابقهم بلا أثر يذكر أو ربما بأثر مجهول الهوية، مجرد عابر خطى من هذا الدرب، ومنقب عن سعادة لم تستطع يده القبض عليها

ورغم كل هذا فما زال الإنسان هو ذاته ذلك الإنسان، الذي يحب المال والجاه ومواقع القيادة، ويجمع المال بنفس النهم دون كلل، ويستخدم كافة السبل للحصول على الكثير منه، فيملك العقار ويعاقر الازدهار، وقد يكدِّسها في سراديب بنوك في بلد أجنبي هو في حقيقته معادي، لتتحول دولهم إلى قاعدة اقتصادية قوية فيما تتهاوى اقتصاديات بلاده، وحين يأتيه الموت تسقط عنه ملكياته المالية والملكية العقارية لتؤول كلها للأبناء أو قد تتوزع على الورثة منَّ الدرجة الثانية إذا ما تغيَّب ورثة الدرجة الأولى، لكنها في النهاية عقارات مهما بلغت من الأهمية ستعرض للبيع لتحويلها إلى سيولة حتى يمكن تعريضها للمقاسمة بين الورثة، ولهذا بالغالب الأبناء لا يصبحوا كآبائهم أغنياء، وتتشتت أموالهم المقتسمة في المشاريع الأصغر والأضعف وغير المضمونة المكاسب

لا دارَ للمرءِ بعدَ الموتِ يسكنُها . . . . إِلا التي كانَ قبلَ الموتِ يبنيها

فإِنْ بناها بخيرٍ طابَ مسكنها . . . . وإِنْ بناها بشرٍ خابَ بانيها

فالمرءُ يبْسُطها والدهرُ يقبضُها . . . . والنفسُ تنشرُها والموتُ يَطْويها

أجل من سنن الحياة أنها سادرة في استمراريتها، لا يضطرب نظامها ولا يميل تحابيا لأي متجه، فالقانون الإلهي يساوي بين مخلوقاته ليأخذ كل منهم نصيبه من الحياة ومن شكل الموت، ويظل الموت هو الموت والحياة هي الحياة، والسعيد هو من يفهم الحياة والموت كل بقدره ويدرك أنَّ السعادة هي في العطاء والعبادة والعمل والقناعة وحبّ الذات بقدر حبّ الآخرين والتفاعل الايجابي والعمل الجمعوي... وفي الموت عبرة وحياة للمتقين من أولي الألباب، فيكون المرء في عمره وبعد مماته ممن أحبة الله، فعمر بذكره الأرض ومن عليها، ووسع له بالآخرة داراً ليس شيء كمثلها، فالموت قد يكون نهاية لحياة دنيوية، إنما الله أكد لنا في محكم كتابه الكريم أنَّ الموت مجرد حدث وجودي مضاد للحياة، وهو بداية لحياة أزلية أخرى عدمية لكنها متوقفة، فيها الراحة وفيها القنوط إلى الله,, ولعل فلسفة المعتزلة تتواءم وهذا المفهوم كون الموت شكلاً من أشكال الاضمحلال الموجع مستندين على قوله تعالى " الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسنُ عملاً وهو السميع البصير" سورة الملك.. معتبرين الموت نعمة كالحياة تماماً، إنما الموت في مفهوم بديع الزمان سعيد النورسي يتجلى في أربعة أشياء:

أولاها كون الموت انقاذ للانسان من أعباء وظائف الحياة ومن تكاليفها المرهقة

ثانيها التحرر من الدنيا وسلطة حاكمها والدخول في رعاية وحكم الخالق وكنفه الرحيم

ثالثها التخلص من أعراض الشيخوخة وأمراضها وضعفها ومن تقلبات الطقس برده وحره

رابعها الدخول في مرحلة الراحة الأبدية بعد تعب وارهاقات طلب الرزق وحماية الملاذ ورعاية الصحة والآخرين

ويرى العلماء بما فيهم النورسي بالموت معادلة كيميائية خلقية دقيقة وامتزاج عناصر في غاية الترتيب والتسلسل تخضع لقانون صارم في التحول والتغير لإحداث بداية حياة جديدة، تماما كما بذار الفاكهة التي تحيي من البذرة نبتة حديثة على ظهر موت حبة الفاكهة وتحللها ويرى النورسي أن الموت حالة لتسليم الروح وتساميها إلى حياة أكثر تسامياً واشراقاً، والحياة الدنيوية في نظره مجرد معبر للخلوص في تجلي رائع، فما نراه في حقيقة حدوثه اضمحلالاً هو في الواقع إشراقة لحياة متجددة وهو تصور بديع رائع يفوق العقل قدرة

‫‬بالموت يتوقف البث على شاشة الأحلام، ليصبح نوعاً آخر ليس بالنوم ولا يحرك أنفاس النوم، ولا من الحياة، ولا يدفع الرئة بالتنفس بأوكسجين الحياة، هو حالة من الخلود إلى سكون أبدي في ملاذ غير مرئي، ويرى سقراط بالموت على أنه ليس نهاية، فلو كان تناهي لما كان الجسد حاملاً للروح ولا حريصاً على رعايتها، وأنَّ الموت محض انتقال من حياة إلى أخرى، وأنَّ الجسد مجرد حامل لمحمول أسمى وأبقى، باب عبور للروح تلجه روحاً تحلُّ فيه وتسكنه ومن ثم تفارقه روحاً وتخلد بعده إلى ما شاء الله، لم يكن الموت يشكل لسقراط مثار فزع لذلك أقبل على السم ليختبر كيف يكون الموت وليرتقي روحاً إلى حياة برزخ خالدة

من الأسئلة التي أثارها العقل البشري ذلك السؤال المثير .. طالما نحن من أهل الفناء فما الحكمة من خلقنا وعيشنا ردحا من الزمن، ومن ثم جعلنا مقبلون على الموت والانتهاء..؟؟ فالانسان غير مخير لا بخلقه ووجوده ولا بموته وغيابه، يأتي الحياة ضعيفا مستسلما، ويندفع نحو الموت ضعيفاً مستسلما كذلك، إنما غرائبية الأمر أن يأتي الحياة مالكاً غريزة البقاء رغم أن الموت حق موجود، فالنفور من الموت لرغبة طاغية بالخلود هو فرار من حقيقته ورغبة جامحة للبقاء بالحياة، ولطالما العلماء تسخيراً لرغبة الانسان بالعيش الطويل صرفوا جل وقتهم وتجاربهم لأجل ايجاد وسيلة تطيل الأعمار أو حتى توصل المسيره للخلود، إنما هيهات لهذا المستحيل أن يكون حتى وإن سيطروا على بعض الأمراض وأنقذوا الجسد العليل من الانهيار، فالموت سيصبح عند مرحلة العجز والضعف ملاذاً للمتعبين والمتألمين والضعفاء والكليلين، فكيف بالله يجتمع بالموت المتضادان الرغبة الجامحة للخلاص والرغبة الأشد جموحاً للعيش، فيعرف الانسان أن الموت حقيقة موجودة وفي ذات الوقت يفر بعقله منه نحو الأقاصي، غير عابئ بسنة وجوده، والحقيقة المؤكدة أنه بوجود الموت لا يعني ذلك أن الحياة عبثية للحظة وجودية يتبعها زوال، إنما لتأكيد دامغ أن الموت بداية لحياة خالدة أخرى تتواجد بشكل أثيري مختلف عن حالة الوجود الدنيوي، ففي الحالة الدنيوية قام الجسد القابل للعطب والاضمحلال والفناء بدور الحامل للروح، لكن الروح تحررت بالموت من الجسد وانفصلت لتنطلق في أثير الوجود إلى عالمها البرزخي غير المرئي، فالموت بالتالي ليس عدماً إنما هو انتقال من حالة إلى حالة ومن حياة إلى حياة أكثر راحة وأوسع عيش

تختلف الوسائل والموت واحد.. تكاد لا تتشابة حالات الموت والانتقال لحياة البرزخ رغم مسماه بالموت ورغم كونه حالة انفصال للروح، فطرق الموت مختلفة بأسبابها لكنها واحدة بحقيقة المآل للموت، فهل من العدل هذا الاختلاف، فالحقيقة أيضا أن معنى الوجود واحد لكن تختلف طرق العيش بين الناس فهناك من يعيشها بهناء ورخاء وهناك من يقضيها بعناء، فطرق الوجود وطرق الموت مختلفة اختلافا واضحاً، فلأي شيء إذن نبحث في العدالة الالهية بمساواة الانسان جنساً وعدالة الحياة والموت، وهناك من يموتون على سرر فارهة وحولهم فريق طبي يجعل له الموت هيناً رخياً، وهناك من يعانون موتهم فيحترقون أحياء أو يمثل بهم في حروب إلى درجة الموت، وهناك من يموتون بالحوادث الرهيبة أو الغريبة

وينسب إلى الخيام قوله: لقد ركب الكأس بهذا الشكل الرائع، والشارب لا يرى كسرها أمراً جائزاً .. فلماذا خلقها؟ ثم لماذا يسلط عليها الفناء؟... لو كان مجيئي باختياري ما جئت، ولو كانت صيرورتي بأمري ما صرت.. فلماذا أموت وقد كانت لي حياة؟

فيعيش الانسان ما بين الأمل بالخلود والألم خوفاً من الموت، وهي تجليات رفض الموت والزوال إلى العدم، وفي البحث بالنومة الليلية القصيرة والنومة الأبدية إلى ما لا نهاية، حالة من التوهان مشفوعة الخاطر.. نتألم لنتعلم ونأمل لنعيش بسلام

ولعل الراغب الأصفهاني في خوضه في ثنايا فلسفة الموت والحياة وجد أن لخير وسلام الانسان ترك المعترك التفكيري بالموت والحياة وطالب بالاقبال على القرآن الكريم قراءة وتمحيصاً والانبراء على التلاوة لأن الله يمنح الاجابات الشافية لراحة البال

والانسان بطبيعته الحيوية مزوَّد بذاكرة فطرية تمنحه ميلاً لا إرادياً لحب الحياة والتشبث بتلابيبها مهما قست عليه وأرهقت وجدانه، فهي تمنحه أهم ما تمنحه مبرراً ثابتاً لأهمية وجوده بالحياة، والعقل البشري مدعوم بقوة خيال هائله قادرة على منحه ميزة التحايل على العقل لبسط وهم أثير تقوى به عقيدة التحايل على الموت بالخيال، فيؤثر الوهم على الحقيقة في هذا الجانب مدفوعاً بقوة اقناعه للذات بتبني الوهم وتمييز موضوعه على الجدية، هذا التكييف الوجداني المتوائم مع الخيال ساهم في إحلال حالة الهدوء للنفس البشرية وصرف تفكيرها عن الموت والفناء

والقدماء استعانوا بالآلهة للاستقواء على الموت وقهره، وكرسوا ميثولوجيا احتفالية موسمية ضمن معتقداتهم بمعتى الانبعاث المتجدد، ولهذا رأينا لقبورهم منشآت ضخمة وفخمة لم نجد على ضخامتها قصورهم التي يقيمون بها بحياتهم، ولإيمانهم بوجود حياة أخرى قام الفراعنة بعملية التحنيط للمتوفي وفق طقوس خاصة، بل إنهم وضعوا للأموات ممتلكاتهم الثمينة والمهمة وخدمهم بعد قتلهم داخل قبورهم لاعتقادهم بالحياة الأخرى واعادة البعث من جديد.. ولنفس السبب قدموا عروس النيل للنهر ليقبض روحها كمقايضة لمنع النهر من الفيضان والتسبب بخراب المحاصيل الزراعية وغرق الانسان.. فيما عند السومريين والإغريق وسواهم من الأمم القديمة فقد آمنوا بوجود الإله المضحي من أجل أن ينعم الآخرين بالحياة، فقد كانوا يعتقدون أن الإله أدونيس إله الحياة يموت كل عام وتسيل دماءه الحمراء المقدسة مضمخة قمم الجبال فيما تبكيه الفتيات، ولهذا السبب كانت تزدهر أزهار شقائق النعمان الحمراء في الجبال، ويجري ماء النهر محمراً بالتربة ليوزع الحياة على الجميع.. ورأينا الهنود الحمر تعرض جسد متوفاها للشمس على مهد خشبي مرتفع لتمنحه الحياة وتنبعث به الروح من جديد.. ولعل ملحمة الإله أورفيوس في استعادة محبوبته من آلهة الموت بواسطة ألحان قيثارته الحزينة، لكنه يفقدها في اللحظة الأخيرة حين يفشل بتحقيق شرط آلهة الموت بالعالم السفلي، فتقتله الباخيات للحنه الحزين، فيصبح نزيل العالم السفي برفقة زوجه يعزف لها ألحانه الجنائزية

ويبدو أن الانسان يجابه وجوده الدنيوي بالتقبل لأنه أدرك معانيها في وقت متأخر، لكنه كذلك أدرك أن عليه قبول حتمية الموت بالغريزة الوجودية فانخرط بالحياة متناسياً أمر الموت تاركاً إياه للحظة إقباله المفاجئ، فما دام الموت قدر الانسان لا محاله، وهو حالة غياب أبدي وتحول من حالة مادية إلى حالة أثيرية ، ولعدم قدرة عقله على ايجاد تفسير حول ماهية الموت ولأي شيء تتحول الحياة، فقد استسلم كلية لصيرورة الحياة الملموسة والمحسوسة تاركاً أمر الموت المبهم للتحايل على وجوده

وقد برزت في الزمن الحديث مسألة المتاجرة بالموت دون جعل الموت نفسه حالة فقد، كمحلات بيع مستلزمات الدفن والغسل والتكفين، والنقل، والتوابيت، والنقل الجوي، وحفار القبور، وشراء القبر، وبناء القبر، والمقرئ والملحد، وأكاليل الزهور، وطعام العزاء، تمور الضيافه والقهوة المرة ..الخ... فيدور أهل المتوفي في دائرة الاحتياجات متجاوزين حالة الفقد والحزن وظروف الموت إلى ما بعد فترة العزاء.. فإدراك هول الموت يتأتى من حالة الفقد فيتسع شعور الفقد وتكبر الأحزان إلى حالة الذروة ومن ثم تعود تهبط تدريجياً ليصبح المفقود مجرد ذكرى وتتناثر مقتنياته، وتدور عجلة الأحداث على طاحونة الحياة لتستمر الحياة بمن يصطفون على قارعة الموت

هيام فؤاد ضمرة

Hiyam_damra@yahoo.com


  • 2

  • hiyam damra
    عضو هيئة إدارية في عدد من المنظمات المحلية والدولية
   نشر في 03 ماي 2016 .

التعليقات

شكراً على المقال ، فعلاً لا أحد يجرؤ على كتابة فهم" آلية الموت" و ما بعد الموت، و حكمة اللّه في شؤونه و ربما لا أحد يجرؤ قراءة المقال، هو قدر محتوم ، نسأل الله أن يحيينا حياة حسنة نُسهم فيها بحظّ وافر في العبور الى حياة أخرى بطمأنينة و سلام...
1
hiyam damra
تحية عابقة بمعاني التقدير والاحترام وكثير شكر على التفاعل والتعليق ووعي الكلام .. وأرى أن الخوف من الموت وهو بوابة عبور لحياة أجمل وأكثر راحة هو من الأخطاء الشائعة، ومقالي ليس إلا دعوة للتفكير بالموت بجرأة وبسالة لأنه ككل ما خلق الله بنا ولنا ما هو قدر واقع لصالحنا ولخيرنا.. بارك الله بكم

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا