دخل يزيدٌ بن معاوية على أبيه فوجده مُطرقاً فقال: يا أميرَ المؤمنين ما هذا الأمرُ الذي أشجاك؟ قال: أمرٌ أمرضني وأقلقني منذ اليوم، وما أدري ما أعملُ فيه قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا الفاسقُ أبو دهبل كتب إلى أختِك عاتكةَ بهذه الأبيات:
أعاتكُ هلّا إذْ بخلتِ فلم ترَيْ … لذي صَبوةٍ زُلفى لديكِ ولا حقّا
رددتِ فؤاداً قد تولَّى به الهوى … وسكنتِ عيناً لا تملُّ ولا ترْقا
ولكن خلعتِ القلبَ بالوعد والمُنى … ولم أر يوماً منك جُوداً ولا صدقاً
فواكبدي إذ ليس لي منك مجلسٌ … فأشكو الذي بي من هواك وما ألقى
وأكبرُ همي أن أرى منك مُرسلاً … وطول النهار جالس أرقب الطرقا
رأيتُك تزدادين للصبِّ غِلظةً … ويزدادُ قلبي كل يوم لكم عشقاً
فلم تزل باكية منذ اليوم قد أفسدها الخبيث فما ترى فيه؟ قال: والله يا أمير المؤمنين إن الشأن فيه لهين قال: وما هو؟ قال: عبد من عبيدك يكمن له في بعض أزقة مكة فيريحنا منه. فقال معاوية: أُفٍ لك، والله إن امرءاً يريد بك ما يريد ويسمو بك إلى ما يسمو لَغيرُ ذي رأي.، فأنت قد ضاق ذرّعُك بكلمة، وقصُر فيها باعُك، حتى أردت أن تقتُلَ فيها رجلاً من قريش. أو ما تعلم أنك إن فعلت ذلك صدّقت قوله وجعلتنا أُحدوثةً أبداً. قال: يا أميرَ المؤمنين إنه قال قصيدةً أخرى تنَاشَدَها أهلُ مكة وسارتْ حتى بلغتني فأوجعتني وحملتني على ما أشرت فيه قال: وما هي قال:
حمى الملكُ الجبارُ عني لقاءها … فمن دونها تُخشى المتالفُ والقتلُ
فلا خيرَ في حُبٍ يُخاف وبَالُه … ولا في حبيبٍ لا يكونُ له وصلُ
فواكبدي إني شُهرتُ بحبِّها … ولم يكُ فيما بيننا ساعةً بذلُ
ويا عجباً إني أُكاتم حبها … وقد شاع حتى قُطعت دونَها السُبل
فقال معاوية: قد والله رفهت عني فما كنت آمن أن يكون وصل إليها، فإما وهو يشكو أنه لم يكن بينهما وصلٌ ولا بذلٌ فالخطْبُ أيسر عليّ، قم عني واكتم ما كان. فقام يزيد وانصرف. وحج معاوية في تلك السنة، فلما انقضت أيام الحج كتب أسماءَ وجوه قريش وأشرافهم وكتب فيهم اسم أبي دَهْبَل، ثم دعاهم ففرّق في جميعهم الصلات السَنيّة، وأجازهم الجوائز الكثيرة فلما قبض أبو دهبل جائزته وقام لينصرف، دعاه معاوية إليه فقال له: يا أبا دهبل مالي أرى أبا خالدٍ يزيدَ بنَ أميرِ المؤمنين عليكَ ساخطاً في قوارضَ ثابتةٍ عنك، وشعرٍ قد نطقت به وأُنفذَ إلى خُصَمائنا وموالينا؟ لا تعْرِض لأبي خالد، فجعل أبو دهبل يعتذرُ إليه ويحلفُ أنه مكذوبٌ عليه. فقال له معاوية: لا بأس عليك وما يضرُّك هذا عندنا، هل تأهْلتَ؟ قال: لا. قال: فأيُّ بنات عمِّك أحبُّ إليك قال: فلانة. قال: قد زوجكها أمير المؤمنين وأصدَقها عنك ألفي دينارٍ وأمر لك بألف دينار. فلما قبض قال: إنْ رأى أميرُ المؤمنين أن يعفوَ لي عمَّا مضى فإن نطقتُ ببيتٍ في معنى ما سبق مني فقد أبحتُ به دمي وفلانة التي زوجنيها أمير المؤمنين طالق البتة. فسُرّ بذلك معاوية، وضمن له أن يرضي يزيدُ عنه، ووعده بإدْرار ما وصلَه به كلَّ سنة وانصرف إلى دمشق، ولم يحُج معاويةُ في تلك السنة إلا من أجل أبي دهبل.
أقول:
ما أبعد الفرق بين معاوية رضي الله عنه وابنه يزيد في معالجة القضية، يزيد يرى أن القضية سهلة وبسيطة ويمكن حلها بين طرفة عين وانتباهتها ، فما هو إلا أن يأمر أمير المؤمنين أحد غلمانه أو عبيده بأن يكمن لأبي دهبل الجمحي في إحدى طرقات مكة ويقتله وبذلك تنتهي القضية..وهذا منطق من لا يتورع عن الدماء ولا يقيم لها حرمة ، منطق التسلط والبطش والتنكيل… صحيح أنه سريع وناجز ولكن عواقبه غير مأمونة لا في الدنيا ولا في الآخرة..
قال تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء].
وقال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو ان أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار» [رواه الترمذي 1398، وصححه الألباني].
ورغم أن الأمر متعلق بعرض الخليفة وسمعة ابنته بين الناس إلا أن معاوية رضي الله عنه سبيل الحكمة والحلم في معالجة الأمر بحيث يحفظ سمعة ابنته ويقطع لسان هذا الفاسق عنها ولا يلوث يده بدمه فيلقى الله بذنبه يوم القيامة.
لقد عزم معاوية على الحج فخرج من دمشق إلى مكة ليلقى هذا الشاعر بنفسه ، واستطاع بحكمته أن ينهي الأمر، بل زوجه وأعطاه مالا كثيرا ، فاعتذر له أبو دهبل ووعد بأن لا يقول شعرا أبدا في عاتكة بنت معاوية.
إن ما فعله معاوية رضي الله عنه رسالة واضحة لكل صاحب ولاية في كيفية التعامل مع الناس واحترام آدميتهم..
-
جهلان إسماعيلأبحث عن الحقيقة وأنشد الصواب في عالم اختلطت فيه أفكار البشر بهدايات السماء وظلمات الباطل بنور الحق.