اكتسب مع توالي الأيام ، محبة خاصة في قلوب زملائه ، الذين أطلقوا عليه لقبا أصبح مشهورا به داخل مركز المعلومات ، كانوا ينادوننه باسم منطقته التي ينحدر منه ، كان لقب الدكالي لقبا عزيزا على قلبه ، فهو يعتز أنه ينحدر من هذه المنطقة قرب مدينة الجديدة ، المشهورة بكرم أناسها ، و خيرات أرضها الوافية ، و كان يعقوب ، حينما يدخل يلقي السلام على الكل ، و كانت جملته الشهيرة التي لازمته مذ حل هناك بينهم : السلام عليكم أيها الأحبة ! كانت هذه الجملة حبيبة على قلبه ، قريبة إلى روحه ، تذكره بمقولة بلال رضي الله عنه مؤذن الرسول صلى الله عليه و سلم ، حينما أتته الوفاة ، و في سكرته ، كانت زوجته تقول له ، واكرباه ، وابلالاه ، فكان يقول لها ، بل قولي وا فرحاه ، وا سعداه ، غدا نلقى الأحبة ، محمدا و صحبه ! فكانت هذه اللازمة الجملة ، يرددها كل يوم ، و يمني نفسه ، و يدعو الله عز و جل أن يحشره و جميع زملائه مع الأحبة ، محمدا و صحبه .. و كان كل من يراه ، يلقبه بالدكالي ، و الحق أن هذا اللقب لم يأت من فراغ ، فأفراد قبيلة دكالة ، يتميزون دونهم دون شعوب المغرب الأخر ، ببسطة في الخلق و الجسم ، طوال عراض ، سمر الوجوه ، لا يضاهيهم في الأكل أحد ، من أجل كل ذلك كانوا يطلقون عليه لقب الدكالي ، و الحقيقة ، أنه من بين أخويه الأخر ، كان هو الذي ورث هذه الصفات و المزايا الخلقية .
كان الجو العام في مركز المعلومات ، يبعث عموما على الإبتهاج ، و كان يذكره في كل مرة بمكتب البريد في ألمانيا كانت وظيفته محببة إليه جدا ، كان يحبها حبا جما ، و كان يعمل عمله بإخلاص شديد ، و يحرص على أن لا يقترف أخطاء ، و هذا ما أعجب رئيسه في العمل ، و ما أعجب زملاؤه ، و لحسن قدره ، أن البريد الذي كان يوصله ، لم يكن بريدا عاديا ، بل كان يوصل الفواتير ، و أحكام الإفراغ بالنسبة للمكترين الذين لم يدفعوا واجب الكراء ، و نحو ذلك ، فكان الزبناء الذين إليهم يوصل الرسائل يرحبون به ، و يمتعضون في نفس الوقت ، و ينتظرون رسائلهم بلهفة ، لينظروا ما تحوي ، و كثيرا ما كان يكافئ حسب المناسبات ، ففي أعياد الميلاد ، كان يحصل على الشوكولاتا و النقود ، و في الأيام العادية ، و إذا قدر له أن يوصل رسائلا لمتاجر معينة ، أو لخضار مثلا ، يفوز بتفاحة أو بمانجا، استمتع بعمله أيما استمتاع ، و كان أحسن الأعمال التي عملها في المانيا على الإطلاق ، و لم تكن المهنة ممتهنة قط بين الناس ، بل كان ساعي البريد يرتقي مكانة جميلة بين المجتمع ، باعتباره أداة الوصل بين المؤسسات الحكومية ، المختلفة و بين أفراد المجتمع الألماني ، و كانت وظيفته ايضا مصدر ثقافته ، فقد كان يحصل على الجرائد مجانا باعتبار شركته ، المسؤول عن توزيع الجرائد و الصحف ، فكان يأتي كل صباح ، و يحصل على نسخته مجانا ، فيقرأ ما تيسر مطالعا الأخبار بعد أن يكون قد رتب رسائله حسن المناطق ، فبعد أن كان يستغرق ساعة من أجل إنجاز ذلك أصبح ينجز ذلك في 15 دقيقة ، ليتبقى له بعد ذلك من الوقت الكثير ، فيه يقرأ الجرائد ، أو يشرب حليب الصباح ، أو يخرج قبل موعده ، لينتهي باكرا ، من أجل أن يرجع إلى منزله مبكرا ... و كانت جملته المعتادة : صباح الخير لدي بريد !! جملة محببة لسامعه ، حتى أن من بين المواقف المضحكة ، أن هناك كشكا تشرف عليه سيدة المانية عجوز ، و كانت كل يوم تتوصل ببريدها ، فكان حينما يردد جملته المعهودة تجيبه هي بكلمة نعم و هي بالالمانية : ياااااا بشكل منغم ملحون ، مثير للضحك ، فيبادلها الضحك ، و يناولها بريدها ، لتتمنى له بعد ذلك قضاء يوم سعيد ...
و كان المكتب بالنسبة إليه أكثر الأماكن التي تجعله يغرق في ضحك متواصل من القلب ، فبعض الألمان ، و الزملاء ، يبدعون في السخرية من حكوماتهم ، و البحث عن طرائف يقللون بها من روتين اليوم ، غير أن العامل المشترك بينهم كان حبهم لوضيفتهم ، فالبريد كان بالنسبة إليهم ، عالما فريدا ، و نافذة من خلالها يطلون على الشارع الألماني ، بتطلعاته ، آماله و همومه التي لا تحصى ، و كان مغمرة في حد ذاتها ، حينما يأتي فصل الشتاء ، و تمتلئ الأرض بياضا ، فيصبح عليهم ، و هم سواق الدراجات الهوائية ، أن يحافظوا على سلامة الرسائل ، و في نفس الوقت ، يحافظون على توازن دراجاتهم ، البريد ، ذلك العالم الحبيب ، الذي طالما احترمه ، كان له عالما ، فوق كل العوالم ، و لا يظن أن كل الناس أحبت أو تحب وظيفتها ، كما تعلق هو به قلبه ، فأحسه كشخص عزيز عليه ، يصعب عليه فراقه ...
كان السيد حسن عامر ، رجلا مكتمل الصفات أو يكاد ، فيلسوفا في أحيان ، مرحا في احيان أخرى باعثا على الضحك و البهجة ، مشاكسا للكل في كل وقت تسنح له الفرصة بذلك ، و كان يعقوب معجبا به جدا ، و يقصده كلما استشكل عليه شيء في العمل ، فكان يرحب بمساعدته هو و أصحابه أيما ترحيب ، و كان ينقل بين طباع عديدة ، في يوم واحد ، فيمكن أن تجده ، صموتا في حين ، ضحوكا بعدها ، و يتنقل عبرها في سلاسة غي معهودة ، لكنه على العموم كان شخصا يحب ، و يؤلف ، و كان الشخص الوحيد في مركز المعلومات الذي يتميز في طريقة نقاشاته حينما يكون الحوار بين الزملاء حول موضوع ما ، حتى أن السيد محمد حبيب عامر ، أطلق علي طريقته في التفكير و الحوار و التحليل اسما فلسفيا ، و هو : العاميريزم ، أو الطريقة العامرية الفلسفية ، و الحق أنه و بعيدا عن المزاح ، كان شخصا يثير الإعجاب من كل من يدور في فلكه ، و صادف أن أراد يعقوب أن يتقرب منه في يوم ، فغادر معه مركز العمل في الساعة السابعة مساء ، و ذهبا معا إلى المسجد القريب ، و أديا صلاة المغرب ، ثم سارا في طريق واحد حيث أن السيد عامر يقطن غير بعيد عن المكان الذي يقطنه يعقوب ، فلم يحس يعقوب بالطريق ، من حلاوة النقاش الذي داربينه و بين السيد عامر ، و كان السيد عامر لا يؤمن بالمس ، و لا بالأذى الذي تسببه الشياطين للإنس عكس السيد محمد حبيب الذي كان يؤمن بذلك أشد الإيمان و في كل مرة يناقش هذا الموضوع في مركز المعلومات ، كان يقسم غلاظ الإيمان أنه شاهد بعينيه ، أشياء ، تؤكد أن المس موجود ، و أذى الشياطين للإنسان موجود كما أنه يرى بعينه السيد عامر .. كان السيد عامر على العموم شخصا عقلانيا أكثر منه تسليما و إيمانا بهذا الموضوع بالذات ، كان شخصا فلسفيا ، يمارس عملية الشك في كل الأشياء إلى أن يتبين العكس ، و تتبين حقيقتها و كان يعقوب يستمتع أيما استماع في كل مرة يستمع إليه و إلى تحليلاته .
-
يعقوب مهدياشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة