في يوم مرير من أيام "يناير" الباردة جلست "ليلك" على معقد خشبي قديم بعض الشيء مرتدية معطف برونزي اللون يشبه لون شعرها، واضعة القليل من الكحل والقليل من مرطب الشفاه، تُمسك بيدها كوبين من القهوة، تنتظر من يخطر على البال كل دقيقة، تنتظر من يسلب توازنها ويزيدها اضطراباً.
جاء إليها بخطوات بطيئة لا مبالية، اقترب منها وجلس بجانبها على المقعد، بدأ يتذمر من الندى الموجود عليه، ثم قال لها: سأقول لكِ ما كنتُ أود قوله منذ فترة قصيرة وأتمنى أن تفهمي كلامي جيداً.
ابتسمت "ليلك" وتمنت أن يتوقف الوقت هنا، هي لا تريد أن تسمع باقي كلامه لأنها توقعت ماذا سيقول، حيث كانت نظراته قاسية للحد الذي دعاها تكتشف ماذا سيقول.
بدأ يتكلم كلام عقلاني متزن يدور حول المنطق والحياة الطبيعية، وأن حياتهم معاً يعارض كل ذلك، سرحت "ليلك" خلال كلامه بكيفية إزالة هذا الثقل من قلبها، وكيف ستقاوم عناء الغياب، كيف! وقد أصبح جزء رئيسي من تاريخها، كيف يحدث ذلك، لم تبخل عليه بإهدائه عشقها وحنانها، ثم شعرت بالانكسار، كما وظهرت بقايا الخيبة على ملامحها.
انتهى فنجان القهوة وانتهى الحديث.
مشت "ليلك" على مفارق الطرقات بسرعة شديدة منقطعة أنفاسها، شاعرة بشيء يحترق داخلها، كما شعرت أن الشغف حول قلبها يتقطع وأكوام من الغبار الملوث تأخذ محله، لم تشعر ببرودة الجو ولا بضجيج المدينة، كما أنها لم تتأثر بشعر رأسها الذي يتطاير على وجهها.
هو قال كلمات الغياب ببضع دقائق، ولكن هي تحتاج إلى خمسة قرون إضافية لتنتهي من فهم معاني تلك الكلمات، كاد قلبها يتبخر من شدة اشتعاله، ولو جلبوا لها جبال من جليد لن تتأثر... حسناً قد مرت بعض الدقائق من تلك القرون الخمسة، هذا يعتبر إنجاز نوعاً ما.
هناك ساعات تمر تعتبر موتاً، لأنها تقتل كل شيء جميل داخلنا، تخطف الألوان من أمام أعيننا وتقضي على كل لهفة.
يتبع......
-
سهام السايحمؤلفة كتاب كأنه سديم وكتاب عمر مؤجل