#مبعوثٌ_مِن_رِحمِ_المَوت
كانت الطيور تعزِفُ سِمفونيَّةَ الحُرية ، تتراقَصُ فَرحاً مُتنقلةً مِن غُصنٍ إلى آخَر في حركاتٍ مُتناغمةٍ معَ موسيقاها..
الهواءُ العَليل يحُفُّ جَسَدُه ، يَحتضِنُه بِقوَّةِ مُشتاقٍ بَعدَ طولِ غياب..
أسدَلَ جِفنيه وأخَذ يتَنفَّس بِعُمقٍ وكأنما كانَ غريقاً لَم يَلفظه البَحرُ إلا للتوّ ، كانَ شُعورَ الحريةِ مُختلِفٌ جداً ، وكأنما بُعِثَ للحياةِ مُنذُ لحظاتٍ مِن وِحشةِ المُعتقل ، انفَرَجَ ثَغرُه وعَلَت صوتُ ضَحكاتِه واختلطَت الضحكةُ بالدمعة.
جثى على رُكبتيهِ رافِعاً يداهُ إلى السماءِ :
"لَكَ الحَمدُ ياقَوي ، لَكَ الحَمدُ يا جبّار"
كانَ يهتِفُ بِها في سعادةٍ غامِرة غَسَلَت روحُه.
مشى مُتلهِّفاً يجُرُّ خَلفَهُ شَوقاً مُترفاً يستوطِنُ أعماقُه ، كانتِ الشوارِعُ تَبدو غريبةً جِداً ، تغيُّرٌ واضِحٌ قَد بدا عَليها خِلال تِلكَ الأربعِ سَنواتٍ الماضية ، أسواقٌ جديدة ، بيوتاً جديدة أيضاً ، كُلُّ ذلك التغيير قَد جَعَله تائِهاً حقاً ، ولكن ما زالت هُناكَ بَعض الملامِح التي تُخبِرُه بأنَّهُ على مَقرِبَةٍ مِنَ المَنزِل..
صحيحٌ بأن الشوارِع قَد تَغيَّرَت ، ولكن ما بقيَ على ما كانَ عليه هوَ ذلِكَ المنزِل ذو البابِ الخَشبي الهَرِم الذي تنسابُ الشُّقوقُ فيه مِن أعلاهُ إلى أسفلِه ، وَتِلكَ الأشجارِ التي تُحيطُه لازالَت كما هي أيضاً لَم تُغيِّرها السنين.
لَم يَطرُق الباب ، دَفَعَهُ خِلسةً بَيدَ أنهُ أبى إلا أن يُفسِد مفاجأتُه بِصوتِ حَرَكتِه شديدةِ الخُشونة ، أقدامٌ صَغيرة تَركُضُ ناحيتُه ، طِفلةٌ ذات أربعةِ أعوامٍ تقريباً تَقِفُ مشدوهةٌ مِن هذا الدَخيلِ الذي تجرّأ بالدُخولِ بِهذهِ الطَريقة ، صَمَتَ كلاهُما حتى سَمِعَ صوتاً قَد ميَّزَهُ جَيداً :
" حنين ، مَن بِالباب ، هَل عادَ جَدُّكِ مِن المَسجِد؟ "
حنين!! ، نَعَم هي حنين ، ابنَتُه ذاتَ العامِ والستةِ أشهرٍ قَد كَبِرَت كَثيراً ، كَبِرَت لِدرجةِ أنها سأَلتهُ مُستفهِمة عن إسمُه وَمَن يَكون وكيفَ يَدخُلُ دونما أيُّ طَلبٍ بالدخولِ أو إستئذان!!.
-أحمد؟!.
نَطِقَت إسمُه بَينَ قطراتٍ قَد تَكاثَّفت على عَينيها ، أرادَت أَن تقولَ الكثير ، أن تَحمِدَ الله على عودَتِه ، وأن تُعرِّفهُ بِحَنين ، إبنتَهُما التي لَم يَرَها مُذ أكمَلَت عامَها الأول ، مُذ آخِر زيارةٍ جمِعَتهُم معاً لِمُدَّةٍ لَم تتجاوز الثلاثونَ دَقيقة.
بَعدَ مُشادةٍ بينَ كَلِماتِها وحِبالِها الصَوتية المُرتَجِفة التي اعترضتها قالت مِن بينِ بُكاءها :
-"مرَّت السنين مُتثاقِلةً وبَطيئةٍ ".
رد:
-"لَرُبما أثقَلَها الحَنين ، وَما أدراكِ مالحنين!".
------------------------------------
للحريةِ جمالٌ يطغى على كُلُّ جمالٍ سواها
يستدعي في الروحِ فَرحاً قد غاصَت معالِمَه واختفت في إحدى زواياها!.
-
Tasneem Faعاشقةَ الحرف..