جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يرشده إلى عمل يكون سببا لمحبة الله له ومحبة الناس، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمل جامع شامل يسبب له محبة الله ومحبة الناس. فقال له صلى الله عليه وسلم: (ازهد فيما عند الناس يحبك الناس، وازهد في الدنيا يحبك الله) رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة.
بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من أسباب محبة الناس للمرء أن يكون زاهدا في دنياهم التي يتكالبون عليها وألا ينافسهم فيها وإنما يكتفي بما يقيم به أمره وأمر بيته وأولاده ، وقد جرت العادة بين الناس أنهم لا يعادون من يجدونه غير مكترث بدنياهم أو حريصا على حطامها الفاني ،وإنما يناصبون العداء كل من يظنونه منافسا لهم في منافعها ومكاسبها ، إذ أن كلا منهم يريد أن يحظى بالنصيب الأوفر والحظ الأكبر.
كُن زاهداً فيما حَوتْ أيدي الورى … تُضحى إلى كلِّ الأنامِ حبيبا
وقال بعض السلف في وصف الدنيا وأهلها:
وَمَا هِيَ إِلَّا جِيفَةٌ مُسْتَحْيِلَةٌ … عَلَيْهَا كِلَابٌ هَمُّهُنَّ اجْتِذَابُهَا
فَإِنْ تَجْتَنِبْهَا كُنْتَ سِلْمًا لِأَهْلِهَا … وَإِنْ تَجْتَذِبْهَا نَازَعَتْكَ كِلَابُهَا
فالإنسان المسلم المدرك لغاية خلقه في هذه الدنيا يعرف أن ما في أيدي الناس من حطام لا يستحق النظر إليه فضلا عن التنافس والتباغض والتحاسد من أجله وبالتالي يظل محبوبا بينهم ، وللمسلم الواعي غايةٌ أخرى هي أكبر وأجل من هذه اللعاعة الفانية،فهو لا ينافس إلا على الآخرة ولا همَّ له إلا الآخرة .
“من كانت الآخرة همَّه جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمةٌ، ومن كانت الدنيا همَّه شتت الله شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له، السعيدُ من اختار باقيةً يدوم نعيمُها على باليةٍ لا ينفدُ عذابُها” رواه الترمذي.
إن المسلم الواعي لأسباب خلقه في هذه الدنيا والمدرك لطبيعة هذه الدنيا التي يعيش فيها لا يهتم إلا بما يقربه من الله ويرفع من درجاته في الآخرة وما أجمل عبارة النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى ” وَأَمَّا الْعَمَلُ الَّذِي يُحِبُّكَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَانْظُرْ هَذَا الْحُطَامَ، فَانْبِذْهُ إِلَيْهِمْ» والنبذ هو الطرح والإلقاء والرمي والهجر لقلة الاهتمام ، يقول الحسن البصري رحمه الله ” من نافسك في دينك فنافسه ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره “
وقَالَ الْحَسَنُ أيضا: لَا تَزَالُ كَرِيمًا عَلَى النَّاسِ، أَوْ لَا يَزَالُ النَّاسُ يُكْرِمُونَكَ مَا لَمْ تَعَاطَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ، اسْتَخَفُّوا بِكَ، وَكَرِهُوا حَدِيثَكَ، وَأَبْغَضُوكَ.
وروي أن أعرابيا نزل الْبَصْرَةِ فسأل أهلها: مَنْ سَيِّدُ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ؟ قَالُوا: الْحَسَنُ، قَالَ: بِمَا سَادَهُمْ؟ قَالُوا: احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى عِلْمِهِ، وَاسْتَغْنَى هُوَ عَنْ دُنْيَاهُمْ.
وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: لَا يَنْبُلُ الرَّجُلُ حَتَّى تَكُونَ فِيهِ خَصْلَتَانِ: الْعِفَّةُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَالتَّجَاوُزُ عَمَّا يَكُونُ مِنْهُمْ.
فاللهم إنا نسألك القناعة والزهد عما في أيدي الناس.
-
جهلان إسماعيلأبحث عن الحقيقة وأنشد الصواب في عالم اختلطت فيه أفكار البشر بهدايات السماء وظلمات الباطل بنور الحق.