الجنازير المقدسة الجزء الثاني - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الجنازير المقدسة الجزء الثاني

مآسي الرق في عالم العرب

  نشر في 24 فبراير 2015  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

قام "أبو أياد" بكل مهنية في وضع السيارة الضخمة في الجراج وحمل الحقائب ألي الشقة وقال لي انه متواجد في ظل العمارة وينتظر أي تعليمات. فتحت الباب "ماجدولين" وشبت تعانقني من فرط فرحتها كطفلة رأت أباها وهو عائد من السفر. ضممتها لصدري كاب حنون وهي تبتسم وعلى عيونها دموع الشوق والفرح. خاطبتني باللغة الإنجليزية لتستعرض مدى تقدمها في الدروس مع "ليليان". دخل بكري ومحاسن جلسنا في الصالون وقدمت "ليليان" و "ماجدولين" الشاي والقهوة وسندوتشات خفيفة. انشغل النواعم بأنفسهن بينما جلس بكري معي في البار وقال:

- ألف سلامه يا دكتور السائق السوداني ابن عم إسحاق لم يحصل عل رخصة سواقة بعد. "أبو أياد" عينته بعد أن أخرجته من الحبس ودفعت عنه الغرامات التي البسها له الخنزير توني وأيضا لأسباب استراتيجية تتعلق بمعرفته بأدق تصرفات رجال توني والشبيحة التي تحيط به. إضافة ألي مقدرته الفائقة في معرفة الطرق في لبنان. لكن إذا لا تريده فعندي له أكثر من وظيفة.

- بكري ماذا أقول لك ... وفيت وكفيت. هنالك أمور كثيرة سأخبرك بها ولكن فيما بعد.

- أعطين الجواز الأمريكي أنا في طريقي لاستلام التسوية في قضية فنار واتفقت معهم على نصف مليون إسترليني بعد أن كان مليون.

- يا أستاذ بكري ... دي تسوية هائلة لم أتوقعها.

- بعد الأتعاب ونصيب المكتب سأضع في حسابك المبلغ فورا بعد استلامي الشيك اليوم.

- هل دفعت ل "أبو أياد" أتعاب الأدلاء بشهادته؟

- نعم بعد دفع الغرامات لإخراجه من الحبس ومكافأته كان المجمل 3 ألف إسترليني قمت بدفعها مقدما. على فكره إذا أصر مستشار فنار أن يكتب الشيك باسمك فعليك تسليمي ثمانين ألف ألف إسترليني بعد تمرير الشيك.

- ماذا عن السيارة؟

- هذا حساب لوحده إذا أردت الاستمرار في الأقساط فانا دفعت لك المقدم وهو ثمانية ألف إسترليني. إذا أردت دفعها كاش فعليك بسعر السيارة بدون فوايد.

- أفضل أن ادفعها كاش بعد استلام الشيك. يا أخي ألف ألف شكر.

تركت بكري في البار وفتحت حقيبتي وسلمته القلم الهدية ومعه زجاجة وسكي بلو ليبل. ووزعت الروائح البارسية وحقائب للسيدات وانهالت على القبل من كل الجهات. استأذن بكري ووضع جوازي الأمريكي في جيبه وودع الجميع بينما ظلت محاسن معنا. وعرفت منها أنها في إجازة مرضية لمدة أسبوع.

شعرت بتعب مفاجئ بعد الاطمئنان على وجودي في شقتي ومعي "ليليان" و "ماجدولين" الملائكية ومحاسن الملكة. همست لي "ليليان" بانها لا تريد الذهاب للجامعة اليوم ودفعتني للتوجه ألي الحمام والاسترخاء ونفض تعب السفر. كانت حجرتي المرتبة والمعطرة كعريس في يوم دخلته مغرية للنوم. وفعلا غبت أربعة ساعات بدون انقطاع في نوم عميق. استيقظت علي رنين الأواني في المطبخ ووجدت أم محمد قد أعدت الأطباق التي أفضلها بينما انشغلت "ليليان" في تدريس "ماجدولين". بعد السلام على أم محمد، سالت عن محاسن فعلمت أنها رجعت لشقتها برفقة "أبو أياد" في سيارتي الجديدة.

كل الكوابيس التي سيطرت على رحلتي انجلت وانا اجلس على السفرة بين "ليليان" و "ماجدولين". شعرت بأنني رب أسرة. "ليليان" أصبحت جزئا مكملا لروح البيت بينما ظلت "ماجدولين" البنت المطيعة والمثابرة تشعل بروحها الجميلة كل أركان الشقة بالحياة والأمل.

راجعت بريدي المكتوب وبريدي الصوتي. لم أجد غير رسالة من أبي أثناء تواجده في لندن الأسبوع الماضي. اهم شيء، عرفت من "ليليان" أن أحد الضباط الأمريكان من المركز جاء أول أمس وهو يحمل مظروف به أوراق تخص "ماجدولين" ولم يسلمها لها وأصر أن يتم ذلك بوجودي ووجود "ماجدولين".

انصرفت أم محمد وذهبت "ماجدولين" ألي سريرها بحجرة الضيوف لمراجعة دروسها وانفردت وحدي ب "ليليان" في الصالون. حدثتها عن الرحلة وعن دكتور قاسم الجرافي وزوجته كرستين حدثتها عن محمد السائق ومخطط انتشاله من جنازير الرق الذي يعيشه في القرن العشرين وعن أمواله التي أحضرتها معي وهي تستمع لي كأني أقص عليها أساطير القرون الوسطي. لم تصدق إنني أحضرت أموال محمد إلا بعد أن راتها بعينيها. طلبت منها أن تختار ما تحب من المجوهرات، وأقوم أنا بدفع سعرها السوقي لصالح حساب محمد. لكن "ليليان" رفضت رفضا باتا وقالت إنها لا تحب ولا تحتاج لمثل هذه المجوهرات التي راتها والمبالغ في أحجامها.

اقترحت على "ليليان" الرحيل مع "ماجدولين" لحجرتي الواسعة وتكفيني حجرة الضيوف. لكنها فاجأتني بانها سترجع اليوم لحجرتها مع محاسن. حاولت المستحيل وقالت لي أن أقامتها هنا غير قانونية ولا عرفية. بعد نقاش مستفيض قبلت بالاستمرار على أن تظل مع "ماجدولين" بحجرة الضيوف لحين إيجاد حلول لسكن "ماجدولين" في مكان أخر. سلمتني نفس الظرف الذي سلمته لها قبل سفري وبه نفس الخمسة ألف إسترليني لم تتصرف في فلس واحد. ظلت "ليليان" جالسة بجانبي في الصالون وهي في لبس الجامعة. طلبت منها أن تريح جسمها من حزام البنطلون. ذهبت لمكانها في حجرة الضيوف لتغيير ملابسها.

في هذا الأثناء تذكرت بأنني لم اتصل بدكتور قاسم فقمت نحو طاولة التلفون واتصلت به وشكرته على المساعدات والأفكار التي أمدني بها في أحلك ظروفي وانا معه. أعدت معه خطة تهريب محمد وكيف يمكننا مساعدته بطريقة مبتكرة. بعد ذلك اتصلت بأمي واطمأنت عليها وعرفت ان والدي لايزال في لندن. كان محور كلام أمي عن العروس من هي وما لونها وشعرها. لم تسأل ابدأ هل أنا أحببتها.

أنهيت المكالمة مع أمي في اللحظة التي رجعت فيها "ليليان" بعد أن ارتدت جلباب مغربي مريح وفكت شعرها الطويل الأشقر منسابا خلفها وجزء منه أمامها تحاول أن تغطي به صدرها الذي اكتنز واقفا رغم جلبابها الفضفاض وجلست في نفس الفوتيل بجانبي الأيمن وبدون مقدمات أو تخطيط مسبق سألت "ليليان":

- أيه رأيك يا "ليليان" نتزوج؟

سكتت "ليليان" وقامت من مكانها وذهبت للمطبخ واعدت صينية بها إبريق شاي وكبابي ووضعتها في الطاولة التي أمامنا وهي مبتسمه ثم ذهبت لحجرة الضيوف وأحضرت منديل ابيض مشغول يدويا كتبت عليه "حبيبي خالد" وسلمتني له. أخذت المنديل وقبلته بعمق وشوق وإعجاب، وقبل أن تجلس "ليليان" وقفت بقامتي الطويلة وضممتها ألي صدري بقوة وانتشاء وهي تحيط خصري بزراعيها وشعرها الذهبي يتدلى منسابا بين قميصي ووجهها المندس في حضني وقالت "أخيرا؟"

ظللت احتضنها بوضع أهاج غرائزي المتوحشة، اهتاجت بصورة استحيت منها. حاولت إخمادها ولم تستجب. أبعدت نصفي الأسفل عن جسم "ليليان" اللدن وأفردت زراعي الأيمن وحملت ساقاها في يميني وصدرها ووجهها على يدي اليسار جلست بها على الفوتيل بكامل جسمها الذي حاول التهرب كالعطر من قبضتي.

تمكنت بحنية مفرطة من وضع نصفها من بعد الخصر على حجري، ووجهها يواجه وجهي تماما، وبدون أي مقدمات، وعيونها مغمضة، قبلتها في الصميم قبلة استمرت وحلقنا سويا في حلم سمواي وما ارتوينا. وكل الشقة في صمت وخشوع. في وضع نسينا ما حولنا نتحرك في مد وجزر فارتطمت قدم "ليليان" بصينية الشاي وطاحت على الأرض بصوت كسر الصمت.

على سماع الصوت هرعت "ماجدولين" للصالون وقبل وصولها قفزت "ليليان" من حجري كالغزال الشارد أمام صياد ماهر، وشرعت في تصليح هندامها وجمع محتويات الصينية من الموكيت وهي تهمهم "متأسفه ... متأسفه" فانضمت لها "ماجدولين" وذهبت أنا للحمام وأحضرت بشكير صبيت عليه ماء ساخن لتنشيف الموكيت. حاولت "ليليان" من دون جدوى إخفاء وجهها المحمر من "ماجدولين". ولاختراق الموقف وكسر جمود اللحظة، تكلمت مع "ماجدولين" بالإنجليزية فردت على بطلاقة وضحكنا كلنا، ورجعت لحجرتها. وهنا قالت "ليليان" وهي تضحك:

- حرام عليك ... حرام .... كنت غائبه تماما ... شكرا للصينية وهي حلتني من عضلاتك المنيعة التي هيمنت على جسدي المسكين.

- "ليليان" أنا خلاس كلمته أمي.

- يعني نزغرد.

- بالجد أنا كلمتها بدون تفاصيل ... أريدك أن تكلمي اهلك ... أيه رأيك!!!؟

- لو خلاس ح أكلم خالي أول حاجه.

- خير البر عاجله ... اهو التلفون.

- أنشأ الله يكون موجود في البيت.

أدارت "ليليان" قرص التلفون:

- الو

- "ليليان" حبيبتي وين !!!؟ ليك زمن.

- معليش يا فتحيه والله انشغلت في الدراسة.

- كلميني كيف أخبارك وأخبار بيروت معاك ... أصلو أنا وخالك ناوين نصيف عندك.

- يا سلام خبر جميل وياريت ... خالي موجود ... أريده في موضوع.

- موجود

وندهت بصوت عالي يا محمود تعال بنت إختك عايزاك واستمرت "ليليان":

- سلام خالي. مشتاقه ليك. كيف أنت وأمي وأبوي وولدي يوسف؟

- كلهم بخير. وأنت عارف مقاطعتي لكن أنا ما سبتهم دايما بزورهن وأجيب معي يوسف يقضي يوم يمين مع فتحيه.

- موضوعي كبير، لكن ما في واحد بقدر عليه غيرك.

- خير.

- تقدم لي واحد

- أوعى يكون لبناني.

- لا .... سوداني.

- أنشأ الله خير. أ تريديني، أكلم ابوك وأمك!!!؟

- لسع .... أريد مباركتك أولا.

- يعني لا تريدين رأيي!!؟. قول لي المواصفات.

- دكتور في الرياضيات ورئيس شعبة الرياضيات بجامعة بيروت الأمريكية.

- الله أكبر شيء كبير جدا

- من أهلنا الحلب السودانيين.

- لا ... من ناس الخرطوم لكن لونه جنوبي.

- بتقصيد أيه!!!؟

- يعني اسود شديد.

- عارفه دا ما بفرق معي ابدأ ... طيب على الأقل أهله معروفين في امدرمان أو الخرطوم؟

- أبوه وكيل وزارة الداخلية.

- الله أكبر الإنجليزي الأسود العقيد "إبراهيم الناير"

- يا بت يا يساريه دول برجوازية رجعيه.

- أيه رأيك إذا قلت ليك دكتور خالد يساري زيك؟

- شوقتين عشان أقابله أو أكلمه.

- خلاس يا خالي، بكلمك قريب من مكتبه في الجامعة.

- مبروك واهي فتحيه الرجعية سامعاني وتزغرد وبتقول ليك بيت مال وعيال.

- مشكور يا خالي وشوف الطريقة المناسبة مع أبوي وأمي. وانا وخالد عندكم في العيد.

- مرحب بيه وانا معاك.

- مع السلامة ... بكلمك يوم الجمعة ... بالله جيب يوسف معاك عشان عاجزه أكلمه.

- حاضر يا بطه والله يتمم بخير.

وضعت "ليليان" السماعة وارتمت على تحتضني ودموع الفرحة تتلألأ علي عيناها. مسحت على وجهها بنفس المنديل الذي أهدته لي وقلت:

- خلينا نشرب نخب اللحظة يا "ليليان" .... نادي "ماجدولين" بسرعه.

- يا خالد خلينا نتريث شويه قدامنا مشوار ما قصير.

- ما فاهم

- لسع مشاورة ابوك وأبوي يا دكتور.

- ما يهم أنا الماشي فيها ماشي فيها.... ما في شيء بوقفنا.

افتكت "ليليان" من يدي وقادتني ألي البار وندهت ل "ماجدولين" وتناول كل منا كوب من العصير. شرحت بكلمات مبسطة ل "ماجدولين" المناسبة، فما كان منها إلا أن أطلقت زغرودة وحضنت "ليليان" وحضنتني، وهي تردد "ألف مبروك وربنا يتم بخير". فضمتها "ليليان" في حضنها، وقلت ليها " أنشاء لله ربنا يتم ويحقق كل أحلامك"

يرن جرس التلفون، كان من المركز الأمريكي. طلب مني أحد ضباط القاعدة، مقابلته غدا في شقتي، بخصوص الجندي "مايكل جيير". رحبت به وسأكون في انتظاره الساعة العاشرة صباحا. أعطيته عنوان الشقة. عرفت الموضوع يخص "ماجدولين". انصرفت "ليليان" لمواصلة دروس "ماجدولين" وخرجت لجراج العمارة أتفقد سيارتي الجديدة الفارهة ووجدت "أبو أياد" لايزال منتظرا ومنشغلا بتلميع السيارة. تفقدتها بدقة. أعجبني كل شيء فيها ما عدى الزجاج المخفي، لكن "أبو أياد" شرح لي أنك من داخل السيارة ترى كل شيء بشكل عادى ولكن لا يراك أحد من خارج السيارة إلا إذا أنزلت الزجاج. اقتنعت بالفكرة وصرفت السائق، على أن يرجع غدا الساعة التاسعة صباحا لأخذ "ليليان" ألي الجامعة.

رجعت للشقة وانهمكت في مراجعة أوراقي وحساباتي وجدول عملي في الجامعة. وجدت ان علي في الأسبوع القادم إتمام مراجعة رسالة الماجستير ل "كلوديا" والتي بدأتها قبل ثلاثة أسابيع مع دكتور "مزروفسكي". كان الوقت يقارب منتصف الليل عندما دخلت "ليليان" مكتبي وقد جهزت نفسها للنوم وهي تلبس قميص غير شفاف. طوعت نصف قوامها اللدن بدون مجهود وجلست به في طرف المكتب ومالت جانبا خمسة واربعون درجة في محور نصفها الجالس لتراجع معي برنامج صباح الغد. بعد معرفة البرنامج، همست بهدوء " أمسي على خير" وطبعت قبلة سريعة على خدي الايسر فأدرت لها خدي الأيمن وامسكت بيدها فلم تبخل على بقبلة اخري وفعلت انا نفس الشيء وانصرفت. لم اجلس كثيرا بعد انصراف ليليان وذهبت لحجرتي ونمت نوما عميقا خالي من الكوابيس.

في الصباح وجدت "ماجدولين" تمارس رياضتها اليومية بينما اعدت "ليليان" القهوة والشاي مع خبيز أعدته قبل يومين استعدادا لاستقبالي. شربنا الشاي سويا. حضر "أبو اياد" في مواعيده واخذ "ليليان" الي الجامعة وانا في انتظار الضابط الامريكاني.

في الساعة العاشرة والنصف بالضبط رن الجرس وفتحت الباب لأجد الضابط الامريكي الذي كالمني مساء الامس، شاب ابيض مفتول العضلات وسألني "هل انت الدكتور خالد فقلت: نعم تفضل. جلسنا في صالوني المطل علي البحر وبعد شرح طويل لقصة صديقي "مايكل جيير" الذي اختارني وكيلا عنه. طلب ايضا ان تشاركنا "ماجدولين" صديقة مايكل لسماع ما يقوله. ندهت ل "ماجدولين" وكانت خائفة لكني طمأنتها وجلست تستمع وانا اترجم لها بدقة.

سلمها الضابط وثيقة سفر امريكية باسم "ماجدولين احمد الظاهر" حسب البطاقة التي كانت تدخل بها للقاعدة وبنفس الصورة الفوتوغرافية وسلمها أيضا تذاكر الي مدينة اتلانتا جورجيا وثلاثة ألف استرليني كاش. وقعت "ماجدولين" على استلامها ببصمة يدها وتوقيع خطي تعلمته من "ليليان". ثم سلمني خطاب من صديقي مايكل الذي أرسل لمهمه في الحدود السورية لمدة اسبوعين. اندهشت حقا كما اندهشت "ماجدولين" المسكينة وهي جاهلة تماما بما يحصل. كانت بين الفرحة والحزن لان أمها المطلقة لم ترها منذ سته أشهر عندما هربت الي المركز الامريكي لتعش مع "مايكل جيير".

بعد خروج الضابط انتحبت "ماجدولين" من الفرح بتباشير الرجوع لعش مايكل ومن الحزن لفراق أمها. "ماجدولين" تعلم جيدا ان الرجوع الي أهلها هو الّذبح الشرعي بما يسمى رد الشرف. وبدأت تصرخ اريد امي معي. ضممتها الى صدري بحنان واستطعت ان افهمها بان موضوع أمها ليس بالصعب ولكن عليها ان تسافر اولا لخطورة موقفها. واقنعتها بحكم حصولها على الجنسية الأمريكية فلها الحق بان تحضر اقربائها وعلى راسهم أمها. تقبلت "ماجدولين" كلامي بالفرحة كالطفلة الصغيرة وقالت سأسمي مولودي خالد على اسمك يا دكتور وإذا بنت سأسميها "ليليان" حبيبتك وزوجتك وبارك الله فيك وفي عروستك "ليليان".

من عبر تلك المقابلة بدا خلاص "ماجدولين" من كوابيس الغًلب والضجر والهروب. بدأ مجهودي يثمر تدريجيا. لقد كان ملف "ماجدولين" من الأجندة الساخنة التي شغلتني. شعرت بأنني قد قمت بدور شهم نحوها ونحو صديقي "مايكل جيير" الزنجي الأمريكي البسيط صاحب القلب الطيب والذي سمى بروحه وبروح "ماجدولين" وتوفق في تخفيف الحكم عليه وامتثال الضباط لطلبه المتوج بالحب والإنسانية.

"ماجدولين" بدأت مرتاحة البال. من اليوم في يدها اقوى هوية شخصية في العالم "وثيقة السفر الامريكية" وستسافر لأقوى بلد في العالم. بلد احتضن أسوء عبودية مر بها الإنسان في تاريخه، بلد استوعب درس نضال الزنوج المنهجي. وهم الذين اخذوا حريتهم بأيديهم فرفعت أميركية شعار "الحرية للجميع" وفي جميع أنحاء العالم.

كلنا الآن في انتظار عودة مايكل من مهمته العسكرية وبدأت مع "ليليان" مساعدة "ماجدولين" في شراء ملابس وحقيبة سفر لأنها لم تجرؤ على الخروج من شقتي خوفا على نفسها من المعارف أو الأهل. كان على "ليليان" توعيتها بما لزم لمقابلة عالم جديد ستسافر له. لكن انشغال "ماجدولين" بأمها لا يقل عن انشغالها بحملها وبمايكل.

سألتني بعد مقادرة الضابط الأمريكي. هل يمكنني أرسال ألف إسترليني لوالدتي؟ قلت لها احتفظي بها تحتاجينها عند وصولك ألي أميركية، وانا سأدفع ألف إسترليني من جانبي لامك في الوقت المناسب. بكت المسكينة وأخذت تردد بارك الله فيك يا دكتور بارك الله فيك. وهي تعلم أن ألف إسترليني يمكن إعاشة أمها في رخاء لمدة سنة كاملة.

أسهمت حبيبة قلبي "ليليان" في تعليم "ماجدولين" أبجديات اللغة العربية والإنجليزية وكانت "ماجدولين" تتمتع بذكاء غير عادي في استوعاب الدروس وفي اقل من شهر عرفت الكتابة بالإنجليزية والتحدث بما يكفي لدخولها ألي الولايات المتحدة كما أنها عرفت كتابة اسمها وما تيسر من اللغة العربية والإنجليزية. كانت "ليليان" تهون عليها شهور حملها الغير مخطط. فصلت لها فستان زفاف لإتمام مراسيم زواجها من مايكل بعد وصولها ألي أتلانتا.

بمساعدة "ليليان" ومساعدة القابلة السريلانكية تمت التحاليل اللازمة ل "ماجدولين" في مراحل حملها. كانت "ماجدولين" كالملاك الوديع بشعرها الذهبي المترامي حول عنقها الطويل كأنها حورية طارت بأجنحتها الناعمة وهبطت دون قصد على ارض العرب التي لا ترحم الإناث. عمرها واحد وعشرون سنه عاشت مآسي جنوب لبنان والضاحية. تعمل أمها خادمة منزل بعد طلاقها قبل مولد "ماجدولين".

في الساعة الواحدة ظهرا أرسل لي بكري سائقه وطلب منى الحضور فورا لمكتبه. أخذت معي حقيبة وضعت فيها أموال محمد السائق واتجهت لمكتب بكري. استلمت الشيك المكتوب باسمي من مستشار "توني فنار" شخصيا والذي انتظرني بمكتب بكري بعد توقيعي على إيصال استلام كان معه. بعد مقادرة المستشار تشاورت مع بكري في موضوع السائق محمد وسردت له قصصي مع زميله دكتور قاسم الجرافي. كان بكري على عجلة من امر الشيك وقررنا الذهاب للبنك الفرنسي الذي يوجد فيه حسابي. اتصلت بالمدير ليتيح لنا مقابلته. في موضوع أموال محمد السائق، نصح بكري بفتح حساب ادخاري منفصل ووضع المجوهرات في صندوق خاص.

استقبلنا المدير وتم إيداع ما يخصني وما يخص محمد ما يقارب المليون إسترليني تقريبا لان مدير البنك سعْر المجوهرات بما يقابل مأتيين وخمسين ألف إسترليني تقريبا. دفعت مستحقات بكري وسعر سيارتي الجديدة لحساب بكري بالتحويل المباشر.

في موضوع مخططي، لتخليص محمد من عبوديته، نصح بكري بتعديل الخطة. فبدلا عن عمل جواز مزور ليخرج به. نصح بإحضاره لبيروت، بنفس جواز بلده وعند حضوره هنا نقوم بعمل ما لزم. لفت نظري أيضا، أن القاعدة الأمريكية تقوم بتجنيد جميع الجنسيات، وتدريبها، وأرسالها، ألي ميادين القتال المنتشرة في العالم. وأضاف، أن أموال محمد كفيلة بشراء حتى جواز دبلوماسي. فلا خوف عليه. بل يجب إيجاد طريقه محكمه، لوصوله ألي بيروت.

رجعت مع بكري لمكتبه واتصلنا بدكتور قاسم بعد تبادل سلام وقصص وذكريات قديمة مطولة بينه وبين بكري أخذت السماعة وبينت لقاسم تغيير خطة تهريب محمد السائق حسب رأي بكري فوافق على أنها الأحسن إذا نفذناها بصورة محكمة.

فاجأنا قاسم بنيته زيارتنا قريبا مع زوجته الدكتورة كرستين وأضاف أن موضوع محمد سيكون محكما إذا تمكن من الحضور ومحمد السائق معه في نفس الطائرة. الفكرة جميله وقررنا الاتصال بقاسم غدا لمعرفة ما يمكن عمله.

يبدو إنني أدخلت بكري بدون أذن منه في مشاريعي التي تمت إلى الخيال معظمها. كلمته عن "ماجدولين" فتحمس لموضوعها وقرر أن نقيم لها ول "مياكل جيير" حفل زفاف بفلته الضخمة المطلة على البحر في حي جونيا ببيروت. وأفقته وفرحت للقرار. واضاف ايضا انه سيكون في نفس اليوم خطوبته من المستشارة محاسن. هذا ما أفرحني أكثر. باركت لبكري وأخبرته بقراري في خطبة "ليليان" فقال ثلاثة مناسبات في يوم واحد. أضفنا فرحة رابعة بحضور بكري وزوجته ومحمد إذا سارت الأمور بخير.

من مكتب بكري قبل رجوعي للبيت اتصلت بالضابط الأمريكي الذي زارني في شقتي بخصوص مايكل و "ماجدولين" وطلبت منه إمكانية مقابلة مايكل بعد الرجوع من مهمته في سوريا. أوعدني خيرا وسيتصل بي بعد ترتيب المقابلة بأسرع فرصة. تبادلت الفكرة مع بكري عن كيفية ترتيب مقابلة "ماجدولين" مع أمها. اتفقنا أن "ليليان" بحكم شبهها للبنانين هي خير من يقوم بالمهمة بعد معرفة العنوان بالضبط.

اتصلت بشقتي وكانت "ليليان" قد رجعت من الجامعة وانشغلت بتدريس "ماجدولين". شرحت لها خطة مقابلة "ماجدولين" لامها قبل سفرها. تحمست "ليليان" للموضوع وقررت القيام بالمهمة يوم الجمعة لاحتمال تواجد أم "ماجدولين" في بيتها. طلبت من "ليليان" أرسال السائق "أبو إياد" إلى مكتب بكري. في هذا الأثناء اتصلت بصديقي "جستن" ابن السفير الهولندي. لم أجده لكن ردت على "صني" واتفقت معها على اللقاء مساءا عندي في الشقة. وكانت فرحة جدا.

طلب بكري من سكرتيرته تحضير قهوة لي وله وترك كرسي مكتبه وجلس بجانبي وشعرت بانه يريد منى شيئا هاما. بدا يوضح لي قصة خطوبته وعلاقته مع محاسن بتحفظ وانا اعرف مسبقا من دكتور قاسم تقريبا بعض الأشياء، ولشعور بكري بالتقارب بيننا في أمور عدة خاصة الفلوس الهائلة التي استطاع نزعها بمهنية وحنكة من النائب البرلماني "توني فنار" ومساعدتي في شراء السيارة الجديدة الفخمة.

بدا بكري بحساسية وتحفظ، سرد طلاق محاسن من زوجها الأول. سباب الطلاق كان بحكم المحكمة الشرعية السودانية التي اشتكى فيها والد محاسن عدم شرعية وتكافؤ زوجها السابق، ويسمى مبارك وكان وقتها نائب محافظ. عدم التكافؤ الاجتماعي بينه وبين محاسن إذا اثبت بالوثائق حقيقة والد مبارك ويسمى الجزولي. كان من أرقاء عمده المتمة.

قال بكري:

- شخصيا كقانوني كنت ضد قرار المحكمة الشرعية القاسي وانا ابن عمها، لان محاسن أحبت مبارك الجزولي ولذلك ضحت باهلها وضربت بقرار المحكمة عرض الحائط، وبالتالي رحلت معه ألي لبنان حيث عمل في السفارة التي تعمل بها محاسن الآن. بعد ولادة ابنتها نشبت بين محاسن ومبارك زوجها مشاكل ربما تكون عادية، لكنها في يوم الطلاق وصفته بابن الرقيق فما كان منه إلا أن رمى عليها يمين الطلاق بالثلاثة ورجع للسودان. لم تفلح أي محاولات منها ومنى للعدول عن رأيه. وتحول الحب إلى كراهية عارمة بين مبارك ومحاسن.

بعد سماع القصة، رجع لي هاجس جدتي وهواجس الرقيق، وتعامل الأديان. ظلم لا يغتفر. شعرت باني كسوداني، أعيش في عالم هش مفكك. المسكوت عنه أكثر بكثير مما نعلمه ونراه. علاقتي مع الأستاذ بكري بدأت ترى التحفظ والتباعد بطريقة غير معلنة.

بعد فترة، في مقابلة عرضية، سمعت من بكري القصة الثانية. طلاقه من زوجته السورية:

- المعادلة يا دكتور كانت متساوية. طلاقي من زوجتي السورية كان تقريبا لنفس الأسباب، العنصرية بين الأبيض والأسود عندما شعرت بالاضطهاد المستمر لي كأسمر وسط السوريين. كان خيار الطلاق مباركا من زوجتي التي أحبها وحتى أنها من الضغط الاجتماعي تركت لي ابنتها التي رايتها معي في شقة محاسن.

سألت نفسي، أين دكتورة كرستين، السويدية، زوجة دكتور الجرافي، العالمة. من زوجة بكري السورية!!؟ ... ما أكبر الفرق بين المجتمع العربي والمجتمع الأوربي!!؟

كان من الصعب على التعليق، بعد سماع القصتين. اكتفيت بجملة واحدة " نحن ندين بنصوص لم توضح لنا كيف نطيق بعضنا البعض". وقبل الخوض في موضوع خطوبة بكري من محاسن، وصل السائق وقررت المرور على مكتبي في الجامعة قبل الذهاب للبيت.

تمكنت في مكتبي، من مراجعة جداول التدريس، وخطة أنهاء تصحيح رسالة الماجستير ل "كلوديا". اتصلت بالدكتور "مزروفسكي" لأخطاره برجوعي ووجدته مكتئبا جدا واكتفي بقوله:

- سأوضح لك أسباب اكتئابي لاحقا.

رجعت لشقتي بعد التسوق. وجدت "ليليان" و "ماجدولين" منهمكتان في الدروس. خادمة منزلي، أم محمد تعد مائدة العشاء. يرن جرس الشقة ويدخل جستن" و"صني" المتشوقة للقائي أكثر من "ليليان" و "ماجدولين" وبدئنا في الأكل وشرب البيرة والموسيقى والاستماع لقصص "صني" بدون انقطاع. "جستن" برزانته وأدبه الجم تنحي بي إلى جانب وتركنا البنات جنبا و "ماجدولين" تستعرض بينهن مقدرتها في اللغة الإنجليزية.

أصريت على "جستن" تسليمي فواتير استشفاء "ماجدولين" لم يحضرها معه ورفض رفضا باتا استلام أي مبلغ. قمت بتسليمه هديته التي اشتريتها له من السوق الحر. القميص الحريري وزجاجة وسكي "بلو ليبل". وقامت "ليليان" بتسليم زجاجة عطر للدكتورة "صوني".

وقبل بدأ جلستنا في الصالون، يرن جرس التلفون من المركز الأمريكي. نفس الضابط الذي زارني يخبرني انه قد نظم لي لقاء في معية "ماجدولين" صباح الغد الساعة الثانية عشر، بعد الظهر في المركز. أخبرت "ماجدولين"، فطفحت تبكي من شدة الفرح. كانت الساعة بعد منتصف الليل، عندما انصرف "جستن" ودكتورة صوني وذهبت "ماجدولين" لحجرة الضيوف لتنام. جلست مع "ليليان" في البار وبدانا مراجعة أحداث اليوم. أولها كانت قصة محاسن التي سمعتها من بكري. وجدت "ليليان" تعرفها بل أضافت أن زواجها من بكري سيكون شكليا. فقلت:

- ما فاهم بتقصدي أيه

- من الشروط الدينية إذا طلقت المرأة المسلمة ثلاثة مرات فلازم تتزوج لتكون حلال لزوجها الأول إذا له الرغبة في إرجاعها.

- والله ما فاهم

- محاسن أطلقت بالثلاثة من مبارك الجزولي. لكن هي متعلقة به حتى الآن.

- طيب هل هو يريد إرجاعها.

- حسب ما عرفته من محاسن بانها تحبه وهو يحبها.

- طيب ... أيه موضوع زواج بكري دا!!!؟

- ما عرفته ليتم التحليل حسب نصوص الشريعة.

- لا اصدق

- بكري يقوم بزواج صوري، ويسجل الزواج في المحكمة الشرعية، بصوره لبعثة السودان هنا. وإذا اقتنع مبارك بإرجاعها يطلقها بكري. لا تنس، بكري ابن عمها ويريد مساعدتها.

- هذه مسرحية لا يوجد فيها أي نوع من الإنسانية.

- يا حبيبي دا الإسلام عندك حل آخر!!؟

- لا اصدق انو بكري ولا محاسن الحكيمة تقبل بهذا النوع من الحلول.

- يا دكتور هي مجرد ورقه .... يعني ما بدخول عليها.

- فهميني يا "ليليان" والله ما فاهم حتى الآن.

- يعني لا يمارس معها الجنس. بالرغم من النص الديني الذي يلزم مضاجعتها ليتم التحليل الكامل. في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} أنا لست متفقهة في الدين، لكن مع محاسن كنا نبحث عن مخرج آخر ولم نجده. المطلقة لا تعود لزوجها إلا بعد أن ينكحها رجل آخر كما تقول سورة البقرة " فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (البقرة 230)."

- هل هذا مقنع يا "ليليان"!!؟ وتخيلي نفسك في نفس الموقف، تعملي أيه؟

ضحكت وقالت:

- سأختارك يا دكتور عشان تكون المحلل.

- يعني أكون تيس!!؟. ما قريتي قول الرسول: "(ألا أخبركم بالتيس المستعار)، قالوا: بلى يا رسول الله قال:(هو المحل فلعن الله المحل والمحلل له).”

ضحكنا سويا ووقفنا كل منا يواجه الآخر. فردت زراعي وضممت "ليليان" وقررنا الجلوس في البلكونة المطلة على البحر. أجلست "ليليان" على حجري وخدي ملصق على خدها بحميمية دافئة. تناولنا موضوعنا الخاص والاسراع في طلب يدها من اهلها اثناء زيارة العيد. اتفقنا على كل التفاصيل وبقبلة عميقة انصرف كل منا للنوم.

حضر السائق في مواعيده. وبعد الإفطار والقهوة التي أعدتها "ماجدولين"، ذهبت "ليليان" إلى الجامعة. لبست “ماجدولين" فستان خاص بالحمل لمقابلة اليوم في المركز الأمريكي. كانت"ماجدولين" بين الضجر والفرحة وانا بين الحذر والترقب خوفا ان يراها أحد من اهلها وهي تخرج من شقتي.

تحسبا لأي طارئ، أخذت تاكسي وذهبت ألي الجراج الذي تركت فيه سيارتي المرسيدس سبورت للتصليح. أخذت السيارة ورجعت للشقة وأخذت "ماجدولين" معي للمقابلة في المركز. أخذنا الضابط ألي مكتبه حيث كان مايكل في انتظارنا. احضان وقبل ودموع "ماجدولين" ومايكل. ضجت الفرحة بعد فراق دام أكثر من شهرين.

انسحبت مع والضابط، وتركنا "ماجدولين" مع حبيبها مايكل. اندهش على مقدرتها المتواضعة، في المخاطبة باللغة الإنجليزية. فلم يكن وجودي ضرورة للترجمة. أوضح لي الضابط أن مايكل بأذن خاص، سيرافق "ماجدولين" إلى أتلانتا جورجيا لمقابلة أسرته بعد عشرة أيام، وربما يقيم مراسيم زواج لها في الكنيسة، إذا رات عائلته ذلك. او في مسجد إذا رات "ماجدولين". لكن رسميا، هو متزوج منها. وهي مواطنة أمريكية.

شكرت الضابط، ثم ورجعت للمكتب الثاني، حيث يوجد مايكل و "ماجدولين". شفاه "ماجدولين" وخدودها احمرت، من القبل المنهالة عليها وهي تجلس في حضن مايكل. أخبرت "ماجدولين"، إنني اعمل جادا في جمعها بوالدتها، قبل سفرها لأميركة. قفزت "ماجدولين" من حضن مايكل وعانقتني وهي تردد الله يخليك يا دكتور. وقال مايكل:

- حقا يا دكتور خالد أنت مسيح هذا القرن.

ضحكنا وتبادنا الأمنيات وكتب مايكل مذكرة موجهة ل "ليليان" يشكرها على مجهودها في تدريس "ماجدولين" اللغة الإنجليزية.

انتهت الفترة المسموح بها لمايكل فودع "ماجدولين" وهو يحتضنها حتى موقف سيارتي وأوعدته بالاتصال قريبا ورجعت آمنا ألي الشقة مع "ماجدولين".

خطرت ببالي فكرة وهي الاستفادة من، "جوليا " لإحضار والدة "ماجدولين" بدلا عن وضع "ليليان" في تجربة صعبة كهذه، خاصة أن لهجتها لا تمت للبنانيين بصلة. قررت الذهاب لمكتبي في الجامعة ومن هناك ادرس موضوع، "جوليا " والاستفادة منها واعلم جيدا حساسية صلتي ب "جوليا " ومدى خطورة تعرف "ليليان" بها.

قبل خروجي، اتصل بي أستاذ بكري. كان يريدني لموضوع هام. لم اسأله عن السبب. توجهت فورا ألي مكتبه. كان معه في المكتب، سمسار عقارات. يحمل كتالوج به عروض عديدة. بعد التعارف خرج بكري من حجرة مكتبه ألي الكريدور، وطلب منى مرافقته ألي حجرة أخرى، بينما ظل السمسار، مشغولا بتحضير العروض. جلست معه فقال:

- دكتور خالد، بالمبالغ المهولة التي معك الآن، فإنني أري استثمارها في العقار له عائد مضاعف. اسمع لي جيدا.

- طبعا يا أستاذ، والفضل يرجع لك أولا.

- عفوا حتى لا نضيع الوقت. أنا اشتريت فيلتي المطلة علي البحر في حي جونيا قبل سنة بي ثمانين ألف إسترليني. الآن وصلت الي مئة وعشرين ألف استرليني. اشتريتها من فلسطيني لبناني هاجر ألي كندا. الفلا الملاصقة لفلتي، وشبيهة لها تماما، تتبع لشقيق الشخص الذي اشتريت منه. الآن رايتها من ضمن معروضات السمسار ويبدو لي انه بيع اضطراري لان الأساسات من ضمن البيعة. فمن الواضح صاحبها قد هاجر أيضا إلى كندا. ويريد بيعها في يومين باي سعر مناسب. والدفع كاش. وأنت عارف مين المعا كاش اليومين دول!!؟. ممكن أجيبها ليك بأقل من ثمانين ألف إسترليني. أيه رأيك؟

- مبدئيا موافق لكن ممكن نشوفها؟

- حالا إذا عندك وقت الآن.

- أكيد.

طار بنا إسحاق سائق بكري، ومعنا السمسار. لم اصدق ما رايته. تتكون الفلا من ثلاثة طوابق، وسطوح به حوض سباحة، حديقة واسعة من حولها، عشرة حجر نوم بحماماتها. ثلاثة مجالس وثلاثة مطابخ، زائد ملحق في ركن الحديقة خاص بالسواقين والخدم. أجمل أساس دنماركي في الطابق الأول، في الطابق الثاني أساس سوري وفي الثالث أساس دمياطي. الجدران محلى باللوحات الزيتية العربية. لم اقل لبكري أكثر من موافق ميه الميه.

رجعنا ألي مكتب بكري ومعنا السمسار. كتبت الشيكات المطلوبة وسلمتها لبكري وتركت له إتمام الأمور القانونية. أنا في حلم ولا علم.

استأذنت واتجهت ألي شقتي وجدت "ليليان" مشغولة مع "ماجدولين" واستلمت الرسالة التي أرسلها "مايكل جيير" لها. بعد كل هذه الإنجازات، لا تزال أحاسيسي بأم "ماجدولين" تشغلني.

أمها المسكينة، التي تبحث عن ابنتها، وقلبها يتقطع لفقدانها، كما تقطع قلب جدتي، وهي تطرد من حوش جدي الناير وتترك ابنها الوحيد مكرهة. إحساس لا يعرفه غيري و "ماجدولين" المسكينة. أجد نفسي في سباق مع الزمن لأحقق امنيه "ماجدولين" في مقابلة أمها قبل سفرها بعد تسعة أيام.

موضوع محمد خميس السائق، من أكبر التحديات الجديدة أمامي، خاصة وان فلوسه معي تحت تصرفي. لذلك اتصلت بدكتور قاسم، وأوضحت له الخطة لمحمد، هي استدراج شرين شخصيا، بمكافأة مالية في حدود خمسة ألف إسترليني، لأقناع الشيخ ليسمح له بالسفر للزواج من سودانية تسكن بيروت. بعد أسبوع يرجع. أي بعد انتهاء مراسيم زواجه الوهمي. تركت التفاصيل لقاسم، بإحضار محمد لمكتبه في الجامعة وشرح الخطة. وجد دكتور قاسم الخطة أحسن، من عمل جواز سفر مزور. وأوعدني بالنتيجة بأسرع فرصه.

أشركت "ليليان" في رؤوس المواضيع ولم ادخلها في التفاصيل وكما تعودنا يوميا نقضي وقتا طويلا في البلكونة المطلة علي البحر. شعرت في هذه الليلة بان "ليليان" تود أن تقول لي شيء هام لكنها تبحث عن الوقت المناسب فلذلك لم أضايقها. انصرف كل واحد منا لمطرحه وفي الصباح أخذنا "أبو أياد" ألي الجامعة. ذهبت "ليليان" لمحاضراتها وذهبت لمكتبي حيث انتظرني دكتور "مزروفسكي" قمنا سويا بأنهاء إيجاز رسالة "كلوديا" وحضرت للإجابة على بعض الأسئلة واستلام التقييم الذي أرسل ألي مكتب عميد الجامعة، لإصدار شهادة الماجستير. في احتفاءيه مبسطة اجتمع لفيف من أصدقاء "كلوديا" في الكافتيريا حضرتها مع دكتور "مزروفسكي" تناولنا المرطبات وتقبلنا والتبريكات والشكر من أهلها.

رجعت المكتب لمراجعة بعض الجداول وبمساعدة "كلوديا" قمت بتصحيح امتحانات الفترة للصف النهائي لشعبة الرياضيات. لم يرجع "مزروفسكي" كعادته للجلوس معي في مكتبي.

بعد انصراف "كلوديا" جاء دكتور "مزروفسكي" ويبدو عليه الإرهاق والحزن. سألته عن السبب فقال إن أسرته اليهودية من بولندا لا تعترف باليهود الشرقيين أي أهل "كلوديا" ولذلك لا يوافقون على زواجه. وبدون إقناعهم يستحيل أن يتزوج. مجمل القول، عنصرية من نوع أخر بالرغم من أن الديانة واحدة. تبادلت معه بعض الأفكار الدينية والسياسية فوجدته متجمد الفكر والأفق ولا يقرر لنفسه أنما عائلته هي التي تملي شروطها عليه. قاطعنا جرس التلفون:

- الو

- معاك بكري يا دكتور. مبروك مفتاح الفلا معاي

- يا راجل بهذه السرعة.

- لأنه صاحب الفلا كان يريد الثمن كاش وسافر اليوم الساعة الواحدة بعد أنهاء كل شيء معي شخصيا من التاسعة صباحا في الشهر العقاري. استعملت صور جوازك الأمريكي وسجلت الفلا باسمك. وانا بدوري أخذت عمولتي منه. اجه رأيك نتقابل هناك. اصلو انا راجع البيت الآن. وأصبحنا جيران.

- مسافة الطريق والي اللقاء.

نزلت ألي الموقف حيث ينتظرني السائق، والي كلية الطب ووجدنا "ليليان" في انتظارنا وتوجهنا ألي حي جونيا حسب العنوان الذي كان سهلا على "أبو أياد". تركت الموضوع كمفاجأة ل "ليليان". رأينا سيارة بكري أمام منزله المجاور ترجل منها وتقابلنا سويا في مدخل فلتي الجديدة. تبادلت "ليليان" السلام مع بكري وقال لها مبروك ودخلنا. فقلت ل "ليليان" مبروك وهي لا تعلم شيئا. لايزال الحارس القديم والبستاني موجودان ولا يعلما شيئا عن البيع.

قالت "ليليان"

- تستاهل يا دكتور.

وضمتني الهيا وهي فرحة بما رأت. وأخذت تردد عندما وصلنا السطوح حيث يوجد حوض السباحة وإطلالة على البحر.

- ألف مبروك ألف مبروك. دا قصر والله يا خالد، مش فلا.

فعلا لا نحتاج لإحضار أي شيء حتى الثلاجات كانت مكتظة بالمشروبات والمأكولات. يمكننا المبيت إذا أردنا، لكن تذكرنا أننا لا يمكن ترك "ماجدولين" في الشقة لوحدها.

ودعنا بكري وشكرناه وسلمنا المفاتيح للحارس وانصرفنا وفي الطريق أخبرتني "ليليان" بعدم موافقة أهلها بفكرة زواجي معها وهي لم تتوقع غير ذلك. اتفقنا أن استراتيجية إرضاء الأهل جزء هام من فرحة الزواج فلذلك علينا أن نسعى. وبالعدم لنا مآرب أخرى كما فعلت محاسن المناضلة.

قالت "ليليان":

- أنا من جانبي يهمني ابني أولا ثم أمي ثانيا فانا متأكدة من أقناع أمي.

- أنا كمان متأكد من أقناع أمي.

- طيب البيت الكبير دا نعمل بيه شنو يا خالد الشقة كفاية.

- يا بنت الحلال ... ممكن نجيب أهلنا معانا ويسكنوا كمان.

- الكويس فيك يا خلود التنظير والخيال ومين يعرف. انشأ الله كلامك يصبح حقيقة.

- العيد قرب ونسافر البلد ونشوف البيحصل. أنا متوقع صديقي دكتور قاسم وزوجته دكتوره كرستين يكونوا معانا في السودان أيام العيد. نخليهم يشوفوا الخواجات كيف ونحنه كيف.

- بالمنطق أنا أصلا خواجية لكن جابتنا الأقدار وتغيرنا قهرا في العهد التركي ألي مسلمين ونعيش في دول عربية فكتبت علينا الرجعية.

ضحكت "ليليان" وضحكت معها مؤكدا ما قالته حقيقة. كان وقتها قد صف السائق السيارة الجديدة بجانب سيارتي القديمة.

طلبت من "أبو أياد" اخذ سيارتي الاسبور القديمة وإصلاح التصادم الخلفي بطريقته وفي أي مكان يراه. كانت "ماجدولين" في انتظارنا بالعشاء وأخبرتني أن شخص باسم قاسم اتصل فعرفت أن موضوع محمد السائق قد تحرك. قبل أن اجلس للعشاء اتصلت بدكتور قاسم:

- الو

- كنت في انتظارك. يا راجل.

- مرحب دكتور قاسم أنشأ الله الأمور مشت في موضوع محمد.

- محمد خميس طلع اشطر منك واشطر مني.

- حصل أيه!!!؟ ... خير.

- الموضوع لا يحتاج لي شرين ولا غيرها.

- محمد اقنع الشيخ انو رايح يتزوج في الصومال والشيخ وافق وحضر ليه الجواز وكمان سلمه عشرة ألف إسترليني لزوم سد المال. بعد بكره حيكون في مقديشو في هوتيل اسمه شبلي. اكتب الرقم عندك.

- دا والله خبر عظيم جدا .... دا وفر علينا مصروفات وكافانا شر شرين القواده.

- دي الوقت دايرين واحد يقابله هناك ويسهل ليه السفر لي بيروت.

- يا دكتور عملته العليك والباقي على .... بس ما تنسي انحنا متوقعنك الخميس القادم مع كرستين.

- اليوم بعمل الحجز وبوريك الحاصل. مع تحياتي. مع السلامة.

وضعت السماعة والتفت ووجدت "ليليان" واقفة من خلفي ولم انتبه لها وهي في انتظاري لأنهاء المحادثة والرجوع لمائدة العشاء. سألتني وباستغراب وزعل:

- مين تكون شرين دي يا خالد!!؟

تلعثمت لان اسم شرين هو الاسم الوحيد الذي خشيت أن تعرفه "ليليان". ماذا افعل الأن والكذب آخر ما أتعامل به. تذكرت قول الحكيم السوداني فرح ود تكتوك "الصدق لو ما نجاك، الكذب ما بنجيك"

- دي قصة طويله خليني اقولها ليك مرة تانيه.

- خلاس تعال نتعشى "ماجدولين" منتظرانا. أنا عايزه انوم بدري عشان عندي شغل كتير. ما تنسى انه لازم اشتري ملابس جديدة لي "ماجدولين" وحقائب سفر.

لم تجلس معي "ليليان" في البلكونة كما تعودت. كنت اتوقع أن تشاركني الفرحة بشراء الفلا، وماذا نخطط سويا فيها لكنها اتجهت راسا مع "ماجدولين" لغرفة الضيوف. جلست لوحدي في مكتبي ولم اخرج للبلكونة. عاودني مرة اخرى الشعور ان "ليليان" تستعمل الحاسة السادسة وبدون شك انها تعرف ما دار بيني وبين شرين في تلك الليلة اللعينة. لا بد لي ان أخبرها لكن في الوقت المناسب. ذهبت بدوري لأنام لان برنامجي مكتظ جدا يوم غد.

في الصباح احضر "أبو اياد" سيارتي القديمة بحالة جيد جدا وتم اصلاح التصادم الخلفي كأن لم يحصل لها اي شيء، تصادم مطابق تماما للأصل.

قبل ان أودع "ليليان"، طلبت منها الاتصال بمريم الصومالية وطلب المساعدة منها بخصوص محمد السائق والذي من المفروض ان يصل مقديشو عاصمة الصومال مساء الغد كتبت لها ورقة فيها اسمه بالكامل واسم الفندق وميعاد وصول الطائرة. وودعتني "ليليان" بقبلة باهته من جانبها وتوجهت للجامعة مع "أبو اياد".

فكرت وانا في مكتبي، ان الوقت قد ضاق جدا بالنسبة ل "ماجدولين" ويجب ان ترى امها قبل سفرها. كان قراري ان استعين ب، "جوليا ". اتصلت بها وقابلتها في مطعم قريب من منزلها. انتظرتني في الباب برونقها وملابسها المشدودة على جسدها الشاب توقعا منها انني اريدها لنفسي. رافقتني في سيارتي المرسيدس الصغيرة وتوجهنا سويا الي فلتي الجديدة وفي الطريق شرحت لها مهمة احضار والدة "ماجدولين".

أمرت الحارس بان يستقبل، "جوليا " في حجرة نوم كبيرة في الطابق الثالث من الفلا ومعها السيدة "مسيلة" ام "ماجدولين" وسلمت، "جوليا " ما يقابل مأتيين استرليني من الليرات اللبنانية. اصيبت بالاندهاش واشعرتني بانها أكثر من مستعدة لمساعدتي في المهمة. استلمت منى عنوان سكن "مسيله جميل" والدة "ماجدولين". اوضحت لها خطورة المهمة، وربما تكون "مسيله" مراقبة من قبل أهلها، فيجب الحرص لأبعد الحدود. اتفقنا ان نتقابل في الفلا بعد ثلاثة ساعات.

حرصا علي سلامة الخطة اوصلت، "جوليا " لموقف التكسي على ان نلتقي حسب الاتفاق في الفلا بعد ثلاثة ساعات. تركت تعليمات للحارس بان يتصل بمكتي في الجامعة إذا حضرت السيدتان. جلست منتظرا اربعة ساعات ولم يصلني اي تلفون. جن جنوني واتصلت من جانبي بالحارس فقال لي:

- متأسف لم أفلح في الاتصال بك ولكن وصلت السيدتان منذ ساعتين.

اتصلت بشقتي وطلبت من "ماجدولين" ان تلبس أحسن ملابسها وتنتظرني في الجراج. وبسرعة جنونية وصلت واخذتها الي الفلا ولكن لم ادخل معها بل أمرت الحارس بتوصيلها للطابق الثالث ومعها كمية من الاكل الطازج والمشروبات وان يخطر، "جوليا " باني في انتظارها. نزلت، "جوليا " بعد دقائق وهي تبكي وجلست بجانبي في السيارة تحكي لي مشهد اللقاء. شكرتها كثيرا ولم اوضح لها تفاصيل القصة. اوعدت "جوليا " بأنني ملتزم بمساعدتها ولا انس جميلها ابدا فيما قامت به اليوم.

رجعت الشقة ووجدت "ليليان" قد رجعت من الجامعة مع "أبو اياد". اخبرتها بتفاصيل اللقاء بين "ماجدولين" وامها بدون ذكر "جوليا" لم تمهلني دقيقة واحد وتوجهنا سويا مع "أبو اياد" الي الفيلا ومعنا باقة كبيرة من الزهور وملابس وروائح.

ونحن في الطريق، اخبرتني "ليليان" بتفاصيل مقابلتها مع مريم. وفعلا اتصلت بأختها وطلبت منها التوجه من مدينة هرجيسة الي مقديشو العاصمة لاستقبال محمد. وغدا سوف تخابرها للتأكد، وستتصل بنا في المساء.

بعد وصولي مع "ليليان" للفلا سبقتني للطابق الثالث. وبعدها حضرت وشبت "ماجدولين" في رقبتي وقبلتني في كل اجزاء وجهي وهي تبكي وتقول لامها هذا هو الرجل الذي أنقذ حياتي ومعه اختي وحبيبتي "ليليان". دمعت عيناي وانا اضم السيدة "مسيله" الي صدري سيدة جميلة أرهقها الدهر وبدأت التجاعيد علي جبهتها وأطراف وجهها. حاولت تقبيل يدي فسحبتها وضممتها لصدري مرة اخري. استمرت"ليليان" بدموع الفرحة ورهبة اللقاء.

لكسر المشهد الدرامي المهيب، وايقاف الدموع المنهمرة منا جميعا، ومن الوقفة السعيدة التي احكمت اخراجها بسلام، وقفت وقلت:

- اسمعوني "كلنا سنبات اليوم هنا فما رأيكم ؟"

فقالوا جميعا:

- شكرا لك يا دكتور فكرة رائعة.

جميعنا جلسنا في المطبخ، اكلنا وشربنا وتبادلنا القصص مع السيدة "مسيله"ن وهي تردد:

- لا اصدق أهذا حلم !!؟

وترد عليها "ماجدولين":

- لا يا ماما دا دكتور خالد ابوي ودي "ليليان" اختي عملوا لي كل حاجة وبعد بكره حتشوفي عريس بنتك مايكل،

وقامت "ليليان" من مكانها وضمت امها الي صدرها.

كنت فخورا بهذا الانجاز الذي لعبت "جوليا " فيه الدور الأكبر. كيف يمكنني ان أفصح ل "ليليان" بتفاصيل القصة!!!؟. لا اشعر بمقدرتي في الكذب على "ليليان"، فهي شخصية ثاقبة الذكاء، ومتحررة في فكرها. لا تقف قوانين الدين والتقاليد امامها. تفتى نفسها أولا، وتسخر من اي راي لا يمت الى المنطق. طيلة الفترة التي جمعتني بها كنت اتعلم منها أكثر من اعلمها. هزمت مواقفي في جولات عده، لأنها صريحة ولا تقدم على شيء الا وهي واثقة منه. ولا تندم على فعل شيء ما دامت مقتنعة به. قررت ان اترك التفاصيل ألا إذا استجوبت.

كل المشهد كان شبيها بفلم من بطولات وتضحيات وغراميات وانتصار بطل في نهاية الفلم. في قرارة نفسي كبطل لهذا الفلم سيطرت على الهزيمة. شعور الاعتراف لهذه المرأة التي احبتني بدون مقدمات وحبيبتها وانا أجهلها جهلا تاما، اصبح حتميا. ففعلا "الحب بان لا تعرف شيئا" وإذا لم ينجيني الصدق معها فالكذب لا ينجيني" اليوم هو يوم الاعتراف.

في تلك الليلة، بعد ان هيأنا ل "ماجدولين" وامها كل شيء في الطابق الثالث انسحبنا انا و"ليليان" الي الطابق الثاني واخذت "ليليان" دوش ساخن كما فعلت انا في الحمام الثاني وغيرنا ملابسنا وصعدنا للسطوح. جلسنا حول بركة السباحة نتهامس ونجتر عظمة هذا المكان الذي جمع بين "ماجدولين" وامها في مشهد أقرب الي خيال المصباح السحري.

وبينما نحن سويا نداعب حلم نسعى سويا لتحقيقة، كان نسيم البحر المنساب من الشمال ينعش روحينا. ونقاء السماء المطلة بمصابيح البهجة تتلألأ دون انقطاع. قررت "ليليان" الدخول في البركة بملابسها العادية، اختفي نصفها الأسفل داخل الماء. شعرها الذهبي تدلى من خلفها يسبح مع موج البركة المتأني بزخات النسيم. حول جسدها المتمرد، تجمعت انعكاسات النجوم الراقصة على سطح ماء البركة.

وانا جالس على كرسي وجه لوجه مع "ليليان" أتأملها. كأنها "المرميد" الدنماركية. ابتل قميصها والتصق على صدرها المكتنز حتى بانت حلماته سافرة. يهتز كلما تحركت بعفوية. ادهشتني وهي تسبح بمهنية، تقاوم كثافة الماء بساقيها كأنها سمكة زينة ذهبية تمرح، في اناء من الكريستال الخالص.

انا في حلم!!!؟ لا اصدق. وهل هذه "ليليان" ام حورية بحر قفزت من وسط الماء!!؟. ظللت صامتا اشاهد بشغف لهذا الجسد المستبد المثير. تحرك داخلي وحش كاسر لابد من تسكينه، فهذه "ليليان" وليست شرين في مسبح الشيخ. انها شريكة حياتي في المستقبل.

بعد مشوارها القصير داخل المسبح، رجعت "ليليان" ونبهتني بان اسرح السائق لان الساعة قد تأخرت. واستمرت في السباحة. نزلت لجراج الفلا وطلبت من السائق الذهاب للشقة وترك العربة هناك والحضور غدا بعد الظهر.

رجعت بسرعة ووجدت "ليليان" تركت حوض السباحة ودخلت حمام غرفتها بالدور الثاني. بدأت بدوري في تحضير حجرتي ودخلت الحمام. عندما انتهيت فتحت باب غرفة "ليليان" لامسيها بالخير. وجدتها مندسة تحت اللحاف الحريري وهي مبتسمة وعيونها تتلألأ بالفرحة وتنبيئ بشيء لم اعرفه فقالت:

- اجلس جنبي وقول لي الحاجات الداسيها منى.

جلست بتردد على طرف السرير وقلت:

- لم ادس عنك شيئ.

- ماذا عن ... شرين وجوليا وقصص سفرك المثيرة بس انا بحب التفاصيل يا دكتور... وانا كنت أحس بك في تلك الليلة ... الصراح براح.

- والله حاقول ليك لكن خليها يوم تاني.

- الليله دي ... ما حاخليك.

- "ليليان" ما تبوظي اليوم دا.

- لو صحيح بتحبني قول.

توكلت على الحي الذي لا يموت. وتذكرت مرة اخري مقولة الشيخ فرح ود تكتوك" لو الصدق ما نجاك الكذب ما بنجيك". وبدأت سرد قصتي باختصار، و"ليليان" تقول لا ... ارجوك التفاصيل.... اعد من جديد، وهي تستمع بكل حواسها وعيونها المتلألئة المثيرة وجسدها المندس تحت اللحاف وهي تمسك يدي بحنية ولطف. وعندما انتهيت من سردي الطويل وتفاصيله المثيرة المخجلة، شعرت بأنني غسلت نفسي. ليليان ظلت ممسكة بيدي وقالت:

- هل تحبني حقا يا خالد!!؟.

- عدد النجم والحص والتراب.

- لكن ليه عملت كد!!!؟

- اكيد غلطه.

- لو انا عملته نفس غلطتك دي بترضي!!!؟

- طبعا لا

- لكن معادلاتك الرياضية البسيطة، تقول واحد ناقص واحد يساوي زيرو ولا ايه!!!؟

- هذا صحيح.

- عشان كدا انا حاعمل غلطه عشان نكون درون.

اطفأت نور الشمعدان بيدها اليسرى، وجذبتني الي شفتيها وقبلتني قبلة طويلة. دستني معها تحت اللحاف، لالتحم بجسمها المخملي العاري تماما، وبدون مقدمات، نزعت البجامة عن جسدي، واستباحت لي تضاريسها، وطوقت عنقي بزراعيها الناعمتين، ليندس انفي بين نهديها يستنشق عبق عطرها المثير، وشفتاي تمتص حلمات صدرها تارة ورحيق شفتيها تارةً أخرى.

لحظة استنفار شرسة ناعمة لم تدون مذكراتي مثلها عبر تاريخ مغامراتي الرومانسية. "ليليان" الشموخ الذي ابني حلمي حوله. ها هي انهارت امامي كما انهرت انا امامها، كل منا سيان، وما دام الغفران في صدقي، ها هي"ليليان" تبادلني صدقها دون تصنع.

حبي لها عن كل عيب كليل، مهما اختلفت الوسيلة. استمرينا في تناعم ولطف. المرة الأولى اثارتها يغيب فيها العقل والمنطق. يدي تمتد برضائها تارة وتمنعها تارة أخرى حتى استوينا وترك كل منا الأمور تنساب بطبيعة البشر بحنية واحضان. رمينا اللحاف بأرجلنا ولم يعد الغطاء ساتر يحول بيننا، الستائر والثقف والجدران تشاهدنا كما خلقنا الله.

اسفي عليك يا "ليليان" ، لقد كنت متوحشا وكانت تتنهد وتتوحوح وتصرخ بأعلى صوتها، وانا احرث كالجاموس البري بخواري المتواصل الذي تكتمت عليه ستائر الغرفة الواسعة. وبعد نصف ساعة وكلانا في مد وجزر عنيف والنهاية قد حانت، امسكت لأنزع وطري من قبضتها، لكنها ابت وامعنت في غيبوبة تتلوى من تحتي كالحية حتى استقرت فوقي لتواصل دون وعى او حزر.

استسلمنا سويا بعدها تماما. وهي لاتزال مصمتةٌ بجسدي تعبث بشعر صدري وانا ممسك بخصرها بكلتا كفيا. بعد فترة من الاستسلام، رفعتها من السرير وحملتها كحلم ملائكي تلوث بالخطيئة لأغسله بالماء القدسى. وتحت ماء الدوش الدافئ غسلنا خطيئتنا الأولى. استمرينا وانا ممسك بشعرها المسترسل خلفها بيدي اليمنى حتى انهارت ولم تقوى الوقوف على رجليها فحملتها راجعا الي السرير كقطعة زبد ذابت في جسم ساخن واندسينا معا مرة أخرى تحت اللحاف ولاتزال الايدي تتحسس والشفاه تقبل. تقوقعت "ليليان" في وسط جسمي العملاق، تتوسد زراعي الأيمن، وتمسك صدرها بيدي اليسرى وقامتي الوسطى استدارت حول جسدها المخملي المتكور الدافئ، وغبنا في نوم عميق.

وفي الصباح شعرت بيد ناعمة تمر بخدي بهدوء واسمع همسا:

- صباح الخير يا خالد.

فركت عيني ورأيت "ليليان" تجلس بجانبي تلبس نفس قميص النوم، وفي يدها بجامتي. وجهها متورد وعيناها تلمعان بالبهجة والفرح وتهمس مرة اخري:

- صحي النوم يا عريس الساعة عشره يا خالد.

- "ليليان" انحنا حلمانين ولا ايه!!؟

جذبتها الي صدري وقبلتها قبلة حارة طويلة. أردت إدخالها تحت اللحاف كما فعلت بي البارحة، لكنها قاومت وابتعدت عني وهي تضحك حتى لبست بجامتي واخذتني الي الحمام وتركتني. خرجت للمطبخ ووجدت "ماجدولين" بوجهها الطاهر وامها يحتضنان بعضهما و"ليليان" تصب القهوة وتوزع الخبيز الذي احضره طباخ جاري الأستاذ بكري. جلست وجلست "ليليان" على حجري وهي تتبسم ويدها اليمنى حول عنقي قالت بصوت خافت:

- ما فيش جامعة اليوم

- طبعا ... بس حصل شنو؟

- أسال نفسك يا دكتور.

- خلاس خلينا نحتفل مع بكري ومحاسن ومايكل و "ماجدولين" ... بلا ابوي بلا ابوك.

- انا خجلانة من نفسي ما مصدقه انو اعمل العملته. وانت كتلتني عديل يا راجل يا متوحش ... انا ما قادره امشي. فضيحه لو محاسن شافتني... انا اجلس في حجرك لأني ما قادره اقعد في الكرسي.

- ما خلاس غلطه ناقص غلطه تساوي صفر.

- طيب ما نخليها غلطتين ناقص غلطتين تساوي زيرو.

- مستعد

ضحكنا سويا واندمجنا مع "ماجدولين" وامها. بدأت اسال أمها عن طبيعة عملها فقاطعتني "ماجدولين":

- ماما خلاس من اليوم دا ما حتشتغل بالخمس ليره البدوها ليها في الشهر انا برسله ليها من أمريكا وممكن تكون مأتيين في الشهر.

- طيب ايه رأيك إذا شغلتها في الفلا وحيكون مرتبها في الشهر ثلاثمئة استرليني وتسكن كمان هنا في الفلا.

- الله يبارك فيك يا دكتور انا ما عايزها ترجع للضاحية.

- خلاس بكره تطلع مع "أبو اياد" ويشتري ليها كل الملابس اللعايزاها.

قامت السيدة "مسيله" ام "ماجدولين" من الكرسي وباست يدي وهي تبكي فقامت "ليليان" من حجري وضمتها الي صدرها. وصل طباخ الأستاذ بكري مع كمية من اطباق الافطار وسلمني مذكرة كتبها الأستاذ بكري: "الرجاء الاتصال فورا بالدكتور قاسم الجرافي في مكتبه" لم اهتم بالفطور الشهي بل ادرت قرص التلفون:

- الو دكتور

- أولا دا تلفون محمد اكتبه عندك في فندق شبلي مقديشو ... قال لي خلاس قرر يعرس من واحده قابلته في الفندق.

- والله دا راجل خطير .... دي اظن تكون اخت مريم واحده طالبه مع "ليليان" في كلية الطب ابوها رئيس القضاء في الصومال.

- محمد كان بيدحك على الشيخ بي موضوع الزواج في الصومال ... لكن القصة بقت حقيقة. قال يسافر هرجيسة معها بكره الصباح.

- خليني انا حاكلمه بعد شويه ... انحنا في انتظارك حسب وعدنا.

- تحياتي لي "ليليان".

- مع السلامة.

نقلت اخبار محمد ل "ليليان" وفرحت وقالت: اكيد اخت مريم تكون جميله زيها. تناولنا جميعنا الإفطار وقامت ام "ماجدولين" بخدمة المناولة والنظافة. حضر "أبو اياد" في مواعيده واخذني للجامعة قمت بتقديم محاضرتين ورجعت مكتبي واتصلت بأمي في البيت وطلبت منها ارسال السائق لإحضار عمي أبكر من الجامعة لأني اريد التحدث معه في امر هام بعد ساعة. تفاديت الكلام عن العرس مع امي لأنها من المؤكد سترضخ لخياري. علمت منها ان ابي رجع من لندن وهو بمكتبه في وزارة الداخلية.

قررت الاتصال بمحمد خميس، قبل الاتصال بوالدي. طلبت من السنترال رقم فتح التلفون للصومال، وتم توصيلي بمحمد بعد محاولات عده:

- الو محمد انا دكتور خالد من بيروت

- اهلا اهلا الحمد لله سمعته صوتك ... كيف اخبارك؟

- انا بخير ... وبرافو عليك والله انت راجل ذكي ... ايه موضوع العرس دا!!؟

- يا دكتور دي فرصه ما ممكن افوتها ... بت ما شفته أجمل منها في حياتي. ما صدقته انها تقبلني لكن الحمد لله. جهزت لينا بكره نسافر لي بلده عشان اقابل ابوها.

- يا راجل ألف مبروك وفلوسك في امان قيمتها تقريبا نص مليون استرليني.

- ما دام في ايدك انا مطمئن ... لكن ما تستعجلوا على، البلد دي جميله جدا ابقي اقضي فيها شهر العسل كان الله هون ومعاي الحمد لله مبلغ كبير اداني ليه الشيخ بكفي ويزيد.

- طيب مبروك بس اعمل حسابك وخليك في اتصال معاي. مع السلامة. ،

جلست ادون ليلة أمس واحلل شخصية "ليليان" التي عجزت تماما التكهن بها، شخصية اقوى مما تصورت كيف تنهار امامي بهذا الشبق العارم، محافظة ولها مبادئ راسخة في كل شيء. هزمتني في كل المواقف. انا محتار ... كل ما اعرفه ان حبي لها لم ولن يتغير.

لماذا!!؟ قمت بفعلتي التي لا انساها اثناء سفري، كانت غلطة لا تغتفر، فربما قررت "ليليان" ان تحتفظ بحبي وشبقي وتهوري لها وحدها، لكي ابتعد عن أي رغبات خارج الدائرة التي تربطنا معا. فما فعلته "ليليان" معي في السرير ليلة امس، هل هو خطأ !!!؟، وهل وزواجنا مؤكد في مثل هذه الظروف !!!؟. اسألة يعج بها راسي، شعرت بأنني اريد الحديث مع "ليليان" فأدرت قرص التلفون:

- الو حبيبتي كيف يومك. وكيف اثار العدوان؟!!

- يا دوب قدرت اتحرك ... أقول ليك ايه ... نسميها دخله ... نسميها اقتصاب ... نسميها نذوه عابرة. "وضحكت"

- نسميها حب وبس .... اقسم بالله أنى بحبك وحبيتك اكتر.

- يا خالد انت بتعرف كيف اهلي زوجوني ... السكس لم اعرف عنه الا في الكتب لكن العملي كان ليلة الامس ... ذي ما قالو الجوع كافر. لكن السكس اكفر، والليلة عشان اتم ليك الناقصة مفكره ارقص ليك ايه رأيك؟

ضحكت "ليليان" بأعلى صوتها وضحكت معها وقلت:

- دى مراهقة ولا ايه يا "ليليان"!!؟

- ليه لا .... خليها تكون مراهقة. وانا اصلو ادوني فرصه اراهق!!؟

- طيب عايزه ترقصي رقبة ولا حاجه تانيه عشان اشوف ليك اشرطه.

- الاثنين. محاسن علمتني رقص الرقبة والرقص المصري بعرفه... على فكره جيب ملابسنا من الشقة وانا تاني ما راجعه وعايزاك تشتري لي قمصان نوم على ذوقك ما اهو عرسته بدون شيله.

- طلباتك أوامر يا حبيبة قلبي. على فكره بكري ومحاسن جايين للغداء عندنا اليوم عشان يباركوا الفلا.

- أحسن تجيب معاك مأكولات جيدة. وانا بالذات، متوحمه على خروف مشوي. وانا بكلم محاسن تجيب لي شوية ملابس من البيت

- خلاس انا جايي بس منتظر مكالمة من عمي في السودان.

- بالله ما تنسى الميكاب بتاعي في الشقة.

- والله انتي ما محتاجة لي ميكاب لكن بجيبو معاي ... مع السلامة.

اتصلت بالبيت في السودان وجدت عمي في انتظاري. أوضحت له عزمي انشاء معهد علمي للبنات باسم جدتي "مستورة" في قرية "عد الفرسان" واريده القيام بدراسة جدوى بأسرع فرصة. وأوضحت له ان الميزانية مفتوحة وفي حالة اعداد الخطة اريد منه تجميد سنه دراسية لأنه هو شخصيا سيقوم بالتصرف لأني سأودع المال اللازم في حساب خاص باسمه في البنك العثماني.

وافق عمي على الفكرة. اوعدني بان الدراسة ستكون مكتملة حالا. والمشروع سيتم تنفيذه قبل أيام العيد. تكلمت مع امي واوعدتها باني ساصارح ابي في اتصال مساء اليوم، في موضوع زواجي من "ليليان" وتركت لامي تلفون الفلا.

توجهت مع "أبو اياد" الي شقتي وحملنا معنا كل ما يمكن حمله للفلا ومن ضمنها جهاز "الفاكس". في الطريق استلمنا طلب الخروف المشوي من محلات حضرموت لغداء اليوم.

لأول مرة يصارحني “ابو أياد” بان زوجته مريضة بالسرطان في غزه ولا يمكنه دخول الأراضي المحتلة ولا يمكنه مقادرة لبنان لأنه لا يحق له العودة مرة أخرى للبنان. اوعدته بمبلغ إضافي يرسله لها وسأحاول مساعدته بعد التشاور مع المحامي الأستاذ بكري. انزل الحارس كل الأغراض من السيارة وارسلت “ابو أياد” لإحضار ام محمد للفلا بأسرع ما أمكن.

عند وصولي للسطوح، فجأت بذوق "ليليان" الرفيع وقد اعدت مائدة الفداء بمساعدة "ماجدولين" وامها حول حوض السباحة. وزعت باقات الزهور على الطاولة المستطيلة. الاطباق اعدت بدقة ورونق، وحتى الموسيقى الهادئة تعرفت ليليان على تشغيل معداتها بمهنية. استقبلتها بالحضن وهمست لي:

- لازم توديني لي دكتور ... ما قادره امشي ... ذي ما شايف أقول للناس ديل شنو!!؟

- سلامتك ... انا السبب وسأعمل اللازم ... بتقدرى تنتظري لحدة الناس تمشي.

- أحسن البس فستاني الطويل الكحلي عشان ما حد يشوف رجليني ما شايف كلها بقع سوده.

- طيب روحي حجرتك .... جبت ليك كل حاجه وختيتها ليك في الدولاب.

- ما بقدر انزل السلم.

- طيب تعالي انا بشيلك بي ايديني قبال الناس دي تجي .... على فكره انا قدمت الدعوة لصديقي "جستن" والدكتورة "صني" الحبشية ايه رأيك تكشف عليك.

- حرام عليك داير تفضحني مع واحده كانت صاحبتك وساكنه معاك.

- من وين جبتي الكلام دا !!؟

- كلمتني بي نفسها وكت رحت ورحلت "ماجدولين" من شقتهم.

- لا حول ولا قوة الا بالله ... والله مصيبة ... أقول ليك شنو .... سأطلب من "جستن" الاتصل بي دكتور السفارة الهولندية ويجيبو معاه.

- لا لا لا ما بخلي راجل بعدك يلمسني .... خلاس خلي الموضوع دا يا خالد.

أوصلت "ليليان" محمولة بزراعي الي حجرة النوم في الطابق الثاني وقبل ان اضعها على رجليها استمرت ممسكة بعنقي بقبلة عميقة استمرت حتى سمعنا صوت محاسن وهي تقول "بيت مال وعيال"

تركت "ليليان" في الغرفة، وخرجت فورا لاستقبال محاسن ومعها بكري وبنته لميس وابنتها هاديه. تبادلنا التبريكات وتوجهنا للسطوح، حيث اعد الطعام بواسطة طباخ بكري. وصلت ام محمد وأطلقت زغرودة طويله وبدأت فورا في نظافة الحمامات وترتيب الحجرات في كل الفلا. وصل "جستن" ومعه صوني الي السطوح. وأول ما قالته صوني "اين "ليليان" !!؟".

دليتها الي مكانها فنزلت ودخلت عليها وهي تلبس الفستان الطويل وسألتها عن البقع السوداء الموجودة على رجليها. صارحتها "ليليان" بما حصل بيني وبينها في ليلة الامس. قامت بالكشف عليها وطلبت لها ادويه احضرها "أبو ايد" من الصيدلية المجاورة. تمت الإسعافات الأولية وضمدت أماكن الالتهابات ورجعت صوني الي السطوح ومعها "ليليان" متعافية تماما وتركتها تستقبل الزوار ووقفت صوني أمامي وقالت:

- حرام عليك يا خالد عملت ايه في البنت المسكينة دي!!!؟ " وضحكت”

- حصل ايه !!!؟

- نفس الحصل لي معاك اول مره ... انها تريد شهرا كاملا حتى تصير صالحة.

- حرام عليك شهر كامل!!!؟

- نعم شهر كامل "وضحكت"

- الا يوجد علاج سريع!!!؟

- لا

بينما انا في حديثي مع صونى اقبلت "ليليان" نحونا وهي تمشى بصورة طبيعية جدا وقالت وهي متوردة الخدود من الخجل:

- شكرا يا دكتوره صوني الحمد لله انا بخير. هيا بنا لطاولة الاكل.

كانت مقابلة رائعة استمتع الجميع بالأكل والشرب والموسيقى. قامت صوني بكشف طبي كامل على "ماجدولين" وطمأنتها على حملها. تفرق الضيوف وطلبت من "جستن" وصوني قضاء الليلة معنا. ذهبت "ماجدولين" وامها للنوم وصرفت "أبو اياد" على ان يرجع غدا 

يتبع.....6

---------------------------------------------------------------------------------

ونحن نشرب ونستمع للموسيقى، اقترحت صونى ارتداء ملابس السباحة، ونزلت مع "جستن" في البركة. انشغلت مع "ليليان" نتكلم في موضوع الزواج وكيفية اقناع الإباء اذ لا توجد أي مشكلة مع الأمهات. لأول مرة تمكنت من اقناع "ليليان" بشراب القليل من البيرة، عساها تنشل ذهنها ولو لفترة من الجدية والمنطق. تجاوبت معي وتناولت كوبا كاملا

دار بذهني سؤال سخيف، ترددت في طرحه، لكن تجرأت وسالت "ليليان":

- عفوا يا "ليليان" ... لماذا قررتي مضاجعتي في تلك الليله!!!؟

وضعت الكوب بعنف على الطاولة. وانتفضدت ثائرة وواقفت امامي وقالت:

- سؤال سخيف يا خالد.

- متأسف وانا ما قاصد أي شيء سيئ.

- المرأة التي تبادر بالرغبة الرجال يحتقرونها...فعلا الرجال كالأطفال إذا رأى الواحد منهم فراشة جميلة يخيل له تفكيره ان يكتشف كيف صنعت الفراشة وعندما يمسكها وينتهي من نتف أطرافها يجدها مجرد عشرة ميته في يده. شعوري نحوك يا خالد كان صادقا، لكنك بهذا السؤال قد قتلته. حبيبتك وأردت ان اضاجعك واقنعت نفسي بذلك، للنساء أيضا لنا اشتهاء كما لكم، اشتهانا نكتمه خوفا وخجلا من تحقيركم، ولكن في بعض الاحايين لا نستطيع، وهذا ما حصل لي ليلة أمس. فلا تجعلني اندم على فعلتي كما ندمت انت من مضاجعة القحاب في رحلتك الاخيرة.

- يا "ليليان" مره تانيه بقول ليك متأسف وسؤالي فعلا سخيف.

- لا تبخسني يا خالد فانا لست قحبة يدفع لي مال. انت تعرف انني بالرغم من تربيتي الدينية التقليدية لم اقتنع بها لأنها مليئة بالتصنع وتعدد الأوجه. انا وجهي واحد ولا اكذب ولا أمثل. ولم يكن صعب علي ان أمثل عليك دون انقطاع حتى يتم زواجنا، مليكن في علمك، لو كذبت على في استجوابي لك ليلة أمس عن شرين و "جوليا " لما استبحت لك جسدي. ولأني اعرف شخصك المقارب لشخصي ولو لا ذلك لتفاديتك من اول يوم. وإذا انت نادم علي، وتراني رخصت امامك بعد تلك الليلة، وعاتب على نفسك في أنك انتهكتني، فانت ابعد ما تكون عني. فهذا فراق بيني وبينك الي الابد وشكرا يا خالد.

نهضت "ليليان" وطفحت تبكي بصوت متشنج، اتجهت الي السلم، وانا اجري بخلفها محاولا تهدئتها، والاعتذار عن سؤالي السخيف. لم تسمح لي حتى بلمسها. دخلت حجرتها وبدأت في جمع ملابسها وهي تواصل البكاء. تحولت "ليليان" الى قوة جبارة ومارد لا توقفها الايدي او الحواجز وصرخت في وجهي:

- تبا لك وتب لليوم الذي عرفتك فيه. غب عن وجهي الان. سأخرج للشارع وسأصل الى حجرتي عند محاسن باي طريقة لا اريدك ان توصلني يا خالد. مع كل هذا احبك واحبك وانت لا تستاهل. اريد ان أنسى واتخلص من حبي لك.

- يا "ليليان" الدنيا ليل خلي الموضوع للصباح.

- لا يمكن ان ابيت معك تحت سقف واحد ابتعد عني.

دفعتني بيدها وصرخت:

- اتركني ... اتركني ... ابتعد عني ...

في هذه اللحظة وصل "جستن" وصوني مذعورين واقتحما حجرتنا. كانت "ليليان" تحمل في يدها حقيبة وضعت اغراضها فيها وتصرخ حتى جف حلقها:

- ابتعدوا عني اتركوني.

اسرعت نحوها صوني وضمتها الى صدرها واحضر "جستن" كوبا من الماء شربت منه قليلا، وجلست على السرير وهي تغطي وجهها ولا تريد ان ترى أحدا او تنظر نحوي. لم يكن لي خيار غير الخروج من الحجرة مع "جستن" وتركنا "ليليان" وصوني لوحدهما.

بأدبه المعهود لم يستجوبني "جستن" عن أي شيء وجلست معه صامتا مشتت الفكر، منكفئا على وجهي.

بعد فترة وجيزة، خرجت صوني من حجرة "ليليان"، وطلبت من "جستن" مساعدتها في توصيل "ليليان" الي منزلها، في بيت محاسن. طلبت منى عدم التعرض لها، او حتى الكلام معها. ظللت في مكاني بالمطبخ. همس لي "جستن"، وطبطب على ظهري معبرا عن اسفه، وانه لا يعلم شيئا حتى الان. ووعدني بتسوية الموضوع غدا.

اظلمت الدنيا امامي وتوقف تفكيري تماما وانا اري "ليليان" تخرج تحمل اغراضها من الفلا بصحبة صونى و"جستن". بكل ما اتيت من علم وخبرة عجزت في علاج الموقف او اقناع "ليليان". أنشل عقلي. لم اعد أرى طعما لحياتي في الفلا او المال المتوفر في يدي.

بعشوائية وارباك، قررت التوقف نهائيا عن أي شيء يربطني باي انسان. في تلك الساعة، تغيرت الي شخص سالب لا يقدم ولا يؤخر. لم أنم ثانية واحدة. تذكرت شيئا واحدا. تذكرت جدتي وهي تثبت امام إهانة كرامتها وتثبت امام سلب ابنها الوحيد واعادت صياغة حياتها مرة أخرى وتزوجت وانجبت. كل ذلك حصل لجدتي البسيطة التي لم تكتسب أي تعليم يعينها على مصائب الدهر. ايمانها بالله وبنفسها كان المعين لها الوحيد. الايمان بالنفس ... اين انا الان ضعيف ولا حول ولا قوة لي. اين ايماني بنفسي!!؟ ذهبت "ليليان" الملهمة لكل ما خطته يداي ونفذته عزيمتي.

عند شعوري بالضعف، دائما احس بضرورة التحدث مع امي، بدون اجنده بدون أي موضوع مجرد سماع صوتها كفيل بإلهامي وإعادة الثقة في نفسي. كانت الساعة السادسة صباحا ادرت قرص التلفون:

- الو

- خالد صباح الخير ليه ما اتصلت أمس كنت في انتظارك ... أمك خبرتني أنك ستتصل بي في موضوع زواجك.

- يا ابوي متأسف كنت مشغول

- ما عندك أي احترام لي ابوك!!؟

- متأسف

- طيب ايه موضوع زواجك !!!؟

- طيب ممكن أكلم امي

- أمك!!؟ يا دكتور انت لسع داير تستشير أمك؟ والله عجيبه ما انا ابوك.

- ما قصدي بس عايز أكلمه.

استلمت امي السماعة وخنقتني عبرة قبل ان أتكلم وقالت:

- يا ولدي ... مالك انشا الله ما حصلت ليك حاجه والله انا ما نمته كل الليل بفكر فيك ... انشا الله ما عندك عوجه.

- كنت بس عايز أسلم عليك.

- يا ولدي الحاصل شنو ... مالو صوتك متغير!!!؟ انت بخير ولا حصلت حاجه!!؟

- داير اشوفك ضروري تجي هنا بأسرع فرصه.

- سجمي حصلت حاجه!!؟ اركب الطيارة براي كيف!!؟

- تجي مع عمي برسل ليكم التذاكر اليوم.

- ابوك يقول شنو!!؟ بعدين ما اهو العيد قرب.

- الموضوع بيني وبينك يا امي لازم تجي.

- خلاس بكلم عمك الليلة. مع السلامة

بع الانتهاء من مكالمتي، دخلت ام محمد مطبخ الدور الثاني كعادتها في الصباح، اعدت الشاي والقهوة وندهت ل "ماجدولين" وامها. سألتني "ماجدولين" عن "ليليان" تظاهرت بأنني لم اسمع السؤال. اعادت السؤال مرة أخرى واخبرتها انها رجعت لحجرتها مع محاسن لنشوب مشكلة بيني وبينها. نزلت دمعة من عينها وقالت:

- يا دكتور ... بكره حفل زواجي. مايكل بكره لازم يشوف "ليليان" ... لازم لازم تكون معانا

- والله يا "ماجدولين" بعمل المستحيل عشان تكون معانا.

- ايه رأيك إذا مشيت ليها انا وماما عشان نتكلم معاها؟

- فكره السائق سيحضر ويمكن ان يأخذكم!!؟

يرن جرس التلفون:

- الو

- محاسن معاك

- اهلا محاسن

- انا في مستشفى الامل من أمس "ليليان" فاقدة الوعي تماما ولسع في الإنعاش.

- لا إله الا الله ... انا السبب ... انا السبب يا محاسن ... حالا اكون عندكم. ايه الحاصل يا محاسن!!؟

- جات "ليليان" مع صوني أمس بالليل وقالت لي بانها زعلانه بدون أي تفاصيل ودخلت حجرتها. صحيت الصباح، لقيته مرمية قدام الحمام... اكتشفت انها شربت زجاجة مطهر كامله. انتحار واضح لكن الله ستر... والله دي عين سحروكم يا دكتور. لم أتوقع انها تكون متهورة بالطريقة دي.

- لا حول ولا قوة الا بالله ... مسافة الطريق يا محاسن.

لم أكلم ام محمد ولا "ماجدولين"، لبست في دقائق وخرجت جاريا الي باب الفلا. طلبت من الحارس احضار تكسي وانطلقت الي مستشفى الامل. امام حجرة الإنعاش وجدت محاسن تنتظرني. المستشفى سجل أسباب المرض

"شروع في الانتحار قضية جنائية"

فلذلك لم يسمح لي بالدخول لرؤيتها الا بعد انهاء تحريات الشرطة. اتصلت بأستاذ بكري لمشورته فحضر بنفسه وتولي الاخذ والرد مع الضابطة المتحرية من نساء الشرطة.

تم الكشف الكامل على "ليليان" بعد غسيل المعدة. تسلمت محاسن تقرير الطبيبة لكنها ترددت ان تطلعني عليه. سلمته للأستاذ بكري. انتحي بكري بي جانبا في حجرة استقبال المستشفى، وكان مضطربا للغاية. أوضح لي ان الموضوع جنائي، وكبير جدا، ولابد اخطار اهل "ليليان" في السودان بما حصل. وبما ان شخصي هو المعنى بصورة مباشرة في تقرير الأطباء، فلا بد من معالجة التقرير وتغييره لدرء الاحراج امام اهل "ليليان".

قلت لبكري لا افهم ما تقصد. فعرض على التقرير وقرأت بذهول جملة فيه حتى وقعت الأوراق من يدي "قضية جنائية ... الشروع في الانتحار ... تعرضت المريضة "ليليان" لاغتصاب وحشي يجب البحث عن الجاني ومحاكمته ومحاكمة المريضة "ليليان" بعد امتثالها للشفاء. لم يستجوبني بكري كعادته لكنه يضعني امام الامر الواقع وبكل خجل اعترفت له بكل شيء. اوعدني بفعل المستحيل وتغطية الفضيحة علما بان النيابة ستأخذ "ليليان" للحبس بعد شفائها.

انتظرنا حتى افاقت "ليليان" وسمح لمحاسن برؤيتها. خرجت محاسن ثم سمح بدخول الأستاذ بكري وظللت منتظرا. اخبرتني محاسن:

- "ليليان" بكت وسالت عنك

- هل يمكنني الدخول لرؤيتها!!.

- متأسفه يا دكتور خالد... قالت لي سلمي عليه لكن لا اريد رؤيته. والله ادوكم عين

- مصيبة ... ماذا افعل!!!؟

خرج بكري من حجرة العناية المركزة وقال:

- الخروج من ورطة النيابة في موضوع الاغتصاب يحتم اصدار شهادة مغايره بأسرع فرصه. موضوع الانتحار يجب ان تعترف "ليليان" بانها شربت ما كانت تعتقد انه دواء يساعدها في الالتهابات التي اصابتها. ولذلك لابد من الاتصال بالدكتورة صوني حالا لمعالجة التقرير.

- هل يمكنني رؤيتها

- ممكن تدخل معي ... انا اقنعتها بخطورة الوضع إذا لم تكن معنا في الصورة. عرفت منها انها هي السبب فيما حصل وتأسفت.

اتصلت ب "جستن" وافهمته واوعدني بالحضور فورا مع صوني. وصل “ابو أياد” ومعه "ماجدولين" وامها وقبل ان ادخل مع بكري اسرعت "ماجدولين" ودفعت الباب ودخلت تبكي. اما انا فدخلت مع بكري وانتظرت بخلف الستارة واسمع بكاء "ليليان" وعويل "ماجدولين" وهي تردد " حبيبتي حصل ليك ايش لازم مايكل يشوفك بكره لازم تقومي من السرير اليوم، انا بحبك يا "ليليان" وبحب بابا خالد حصل ايه حبيبتي".

لم اتمالك اعصابي فانضممت بدموعي معهم وامسكت يد "ليليان" وملت نحوها وقبلتها على جبينها قبلة خفيفة وهي تحتضن يدي ويدها في صدرها وتقول سامحني يا خالد. قلت لها سامحني انت أولا فانا الغلطان.

وصلت دكتوره صوني لحجرة العناية المركزة ومعها اوراقها التي تثبت انها الطبيبة الشخصية ل "ليليان" وطلبت التقرير الطبي بعد اظهار بطاقتها الشخصية كدكتورة مسجلة. ابتعدت انا بدوري عن سرير "ليليان" وتركت المجال لصوني للتفاهم معها وخرجت من الحجرة مع بكري الذي أوضح لوكيلة النيابة ان الموضوع ليس كما يقول تقرير المستشفى: "انتحارا وتحرش جنسي"

امامك زوجها دكتور خالد. وانما خطأ في خلط الادوية تشهد علية الدكتورة صوني دكتورتها الخاصة. تطلعت على وكيلة النيابة بشيء من التعجب والاعجاب. اخرج بكري مئة جنيه استرليني وسلمها للوكيلة وانصرفت مبتسمةً. تمت التسوية مع المستشفى وتكاليف الإسعاف في مجملها وصلت الي ثلاثمئة وخمسين استرليني، فدفع بكري خمسمئة استرليني وخرجنا جميعنا من المستشفى الي منزل محاسن.

تركتني المجموعة مع محاسن و"ليليان" و “ابو أياد” في سيارتي. توجه الجميع لمنزل محاسن. عند الباب أخذت "ليليان" ممسكا بزراعها الى حجرتها وهي تمشي بتعسر. قالت:

- الحلم الجميل أتقلب كابوس يا خالد ... فضيحه وانا السبب ... لكن برضو لسع بحبك ولسع زعلانه منك ... وما كنت عارفه أنى فظيعة بالطريقة دي ... اهو النتيجة فضيحه وكنا حلوين ومستورين. دى الوقت كلهم عارفين قصتنا.

- "ليليان" ارجوك نطوي القصة دي. والحصل حصل لا يمكن ارجاعه ... الدنيا فيها دروس مستمرة. مين كان ممكن ان يتنبأ بالحصل!!؟

بعد دخولي معها لحجرتها جلست "ليليان" في حجري وقبلتني بشوق. ولفت يداها حول عنقي وقالت:

- كنت على وشك الموت يا خالد ... كان سيحصل ليك شنو بعدي!!؟

- كنت ساحصلك في نفس اليوم ... لا اصدق يا ليليان... لو كنت عارف أنك تعملي كدي ما كنت خليتك تمرقي من الفلا.

- حبيبي خلود انا خجلانة من نفسي ... فضحت نفسي وفضحتك وعذبت الناس كلهم.

وصلت "ماجدولين" وامها و"جستن" ودكتوره صوني لبيت محاسن، اما بكري فلم يسمح له الوقت لمواعيد مسبقة في المحكمة. جلسنا جميعنا في الصالون وقدمت محاسن البارد والشاي. تفادى الجميع الحديث فيما حصل ما عدا صوني كانت تقول ل "ليليان" "ليه كدا يا "ليليان" انتى لسع ما شفتي حاجه في الدنيا دي. خلي بالك من نفسك ومن خالد دا رجل قلبه كبير وما تزعلي منه. وعليك ان تفهمي يا "ليليان" ان هذه الدنيا لعب ولهو.

"ماجدولين" وامها لا يعرفن حتى تلك اللحظة ما حصل فتمسكت "ماجدولين" واصرت انها لا ترجع الى الفلا الا إذا كانت معها "ليليان". جلست بيني وبين "ماجدولين" تحتضننا سويا باستمرار. قالت للجميع وبنبرة بكائية "بكره ابوي خالد عامل لي حفلة فرحي، كلكم اريدكم معاي وكلكم ساعدتوني في خلق حياة كريمة واهي امي معاي واختي "ليليان" معاي. بكرة مايكل واصحابه معانا. شرفوني لإنو أنتم اهلي الوحيدين ثم اجهشت في البكاء.

دمعت "ليليان" وحضنت "ماجدولين" وتوجهت لحجرتها. فلحقت بها بعد عشرة دقائق ووجدتها قد اعدت حقيبتين من اغراضها وعانقتني وهمست:

- بترضي بي تاني بعد دا كله يا خالد ... الله اعلم كيف حبي ليك.

- "ليليان" حبيبتي والله انا كنت مقرر بعد خروجك من الفلا ان أودع الحياة، الشيء الوحيد الذي ابقاني حتى الصبح هي امي، كنت منتظرا لأسمع صوتها واودعها الوداع الأخير. وبعد محادثة امي مباشرة وصلني خبرك من محاسن هذه المرأة العظيمة.

- انا خجلانة ولسع زعلانه لكن راجعه معاك الفلا ... ذي ما قلته يا خلود حبيبي الحصل لا يمكن ارجاعه. لكن ممكن استوعاب درسه، والحياة مدرسة ابدية.

- هيا بنا ارجعي لي روحي فكم لنا من اعمال خير تنتظرنا. لا يمكن إنجازها بدونك يا حبيبة قلبي. ومتأسف جدا لما بدر مني، وفعلا سؤالي لم يكن في مكانه.

خرجت من حجرة "ليليان" وانا احمل الحقائب، فوقف الجميع وهللوا بالفرحة واتجهوا للسيارات وقررت محاسن مرافقتنا. احتضنت "ماجدولين" "ليليان" وحمل "أبو اياد" الحقائب الي السيارة. وصلنا الي الفلا. ام محمد اعدت اشهي المأكولات. دخلت "ليليان" الي حجرتها ومعها محاسن و "ماجدولين" ورتبن الملابس بالدولاب وانضمت لهن ام محمد واخذت "ليليان" الي الحمام حيث اعدت لها الجكوزي وتركتها لترويح جسدها المتعب من عناء الليلة الماضية. قامت محاسن بأطلاق بخور تيمان في كل المكان. اما انا فنزلت الي الحديقة وجمعت بوكي زهور حمراء رائع واحضرته لحجرة "ليليان". سالت عنها فأخبرتني محاسن انها تستحم في الجكوزي وشجعتني بالدخول عليها وتسليمها باقة الورد. ولكن ترددت تخوفا ان تنفجر "ليليان" في وجهي كليلة أمس.

بعد إصرار محاسن دخلت على "ليليان" وانا احمل باقة الزهور. كانت عارية تماما نصفها داخل الجكوزي، مدت يدها اليمنى لاستلام الزهور واليسرى غطت بها صدرها العاري. قبلتها قبلة حميمية قبل ان تحجب باقة الورد وجهها المتورد عني. جلست على يمينها في حافة الجكوزي واخذت الورود منها، بعد ان استنشقت بنفس طويل رائحتها التي طغت على رائحة البخور. وضعت الباقة في زهرية الكريستال التي تتوسط زجاج الحمام المخفي. ظللت صامتا وحذرا في كل خطوة أقوم بها مع "ليليان". اخترقت "ليليان" الصمت وقالت:

- اريد ان أكلم امي يا خالد ... لي فتره ما كلمتها.

- حسنا سأحضر التلفون لك هنا ... وانا كمان اريد أكلم امي بعدك.

- خلودي حبيبي ليه انت حذر زيادة عن اللزوم ... حبيبي خليك عادي معاي وانا خلاس ما زعلانه منك وما عايزاك تكون زعلان مني ... وخلي بكري يعمل لينا شهادة زواج مدني، إذا موافق. ما بقدر انتظر اكتر من كدا يا خالد.

- موافق ميه الميه ولو انو موافقة الاهل مهمه لكن ما بتفرق كتير ... انحنا خلاس.

- طيب في الحفل العاملنه بكره لي مايكل و "ماجدولين"، أحسن نعلن زواجنا.

- ما في مانع لكن أحسن نحتفل بيه مع محاسن وبكري بحضور دكتور قاسم وكرستين.

- خلاس بكلم مامتي بعد الغداء.

اجتمعنا كلنا حول المائدة التي احسنت ام محمد تنويعها بما يناسب الجميع. التف الجميع حول "ليليان" التي خرجت من حجرتها كالعروسة الصغيرة المحفلة، تلبس فستان شفاف وردي اللون تحمل وردة حمراء في يدها. تفاديت الجلوس بجانبها لأتركها تفضفض عما في صدرها من آلام بعد ان أصبحت قصتنا معروفة للجميع. انصرف الجميع ذحتى ام محمد ذهبت لتستريح في حجرة الخدم و"ماجدولين" وامها انصرفتا لحجرتهن في الطابق الثالث.

وجدت نفسي وحيدا مع "ليليان" في حجرة النوم. ذكرتها بالاتصال بوالدتها واستأذنت بعد ان ضممتها لصدري بحميمية حذرة. ذهبت الي حجرة مكتبي الكبيرة في الطابق الأرضي والتي صممتها قبل يومين ووضعت فيها جهاز الفاكس والتلفونات، اتصلت بالأستاذ بكري لتسوية حسابات مستشفى الامل واستفسرت منه إمكانية اصدار شهادة زواج لي ول "ليليان". أوضح بكري، لا توجد صعوبة لكن لابد من شهادة من السودان توضح ان المرأة غير متزوجة وإذا كانت مطلقة يجب الحصول على شهادة الطلاق. اما بالنسبة لي شخصيا، لا احتاج الا الجواز هذا من ناحية المحكمة الشرعية. ولكن إذا أردنا شهادة مدنية فلا توجد أي عقبات.

وضحت لبكري انني سارد عليه بعد التشاور مع "ليليان". رجعت ل "ليليان" ووجدتها لاتزال تتكلم، ثم قدمت لي السماعة وقالت هذه مريم الصومالية تريد التحدث اليك:

- اهلا مريم وشكرا على المساعدة.

- يا دكتور خالد والدي اتصل من مدينة هرجيسة ويريد معرفة المزيد عن محمد. هو قال سوداني لكن لهجته خليجية.

- يا مريم وضحي لي الحاصل شنو معاه!!؟

- محمد يريد الزواج من اختي الصغيرة حليمة وهي أيضا تعلقت به بشدة.

- طيب مالو مبروك عليهم.

- انا برضو بقول نفس الشيء لكن ابوي عايز يعرفه اكتر.

- خلاس بكره انتي وصديقك مدعوون عشاء عندنا وانا سأوضح لك كل شيء واكتبي عندك العنوان

- تمام حنكون عندكم بكره وشكرا

- مع السلامة.

وضعت السماعة وجلست بجانب "ليليان" في السرير. شعرت انها متوترة ولكن لم اتدخل فقالت:

- امي شرحت ليها كل حاجه وقالت ابوي جاي بيروت الأسبوع القادم.

- غريبه انا امي وعمي برضو سيحضران في الأسبوع القادم.

- طيب نعمل ايه

- بصراحه علينا وضع خطة استراتيجية جديدة.

- المهم قدامنا أسبوع.

نزلت مع "ليليان" للدور الأرضي لترى مكتبي الجديد. اعجبت به وطلبت بعض التغييرات الطفيفة في وضع الكراسي وتمهلت بجسدها الممعن في الانوثة على الاريكة الجلدية بعد تغيير وضعها. بدوري اتصلت بالمركز الثقافي الامريكي واخبرت الضابط كاسبر ودعوته لمناسبة فرح مايكل و "ماجدولين" مساء الغد. ودعوت معه بقية أصدقاء مايكل والمترجمين. تركت له العنوان وارسلت خريطة المكان بواسطة الفاكس.

صعدت مع "ليليان" للسطوح وجلسنا على طرف حوض السباحة. السيدة مسيلا والدة "ماجدولين" كانت مع “ابو أياد” في السوق لشراء ملابس لها ول "ماجدولين" تليق بالمناسبة. ام محمد جهزت العشاء امامنا في السطوح وندهت ل "ماجدولين" وفي نفس اللحظة رجعت ام "ماجدولين" من التسوق واستعرضت علينا ما احضرته لنفسها ولابنتها من الملابس الفاخرة.

اتصلت ببكري وطلبت منه إذا امكنه الحضور مع محاسن للعشاء معنا. في اثناء العشاء جلست بجانب بكري وعلي يميني "ليليان" واستفسرنا عن إمكانية استخراج شهادة زواج مدني واتفقنا ان نتقابل بمقر المجلس البلدي ومعنا جوازات السفر. وصية بكري بالنسبة لي هو استعمال الجواز الأمريكي لأسباب عدة منها عدم خضوعي لأي تساؤل عن ديانتي لان الجواز الأمريكي لا يبين هوية الديانة كما انه يمهد ل "ليليان" الحصول على الهوية الامريكية مستقبلا.

تشاورت مع بكري في موضوع محمد السائق والتفاهم مع مريم غدا حول المشاكل التي يمكن ان تقف حجر عثرة في زواجه بأخت مريم في الصومال.

عندما انفض الجميع وانصرفت "ماجدولين" الي حجرتها مع أمها دخلت ام محمد الي حجرة "ليليان" ونظمتها وغيرت الفرش ووضعت باقة كبيرة من الزهور. كما فعلت نفس الشيء في الحجرة المجاورة. ظللت على طرف حوض السباحة مع "ليليان" وهي تتوسد زراعي الأيمن ويدي اليسرى تملس شعرها الأشقر المنساب على وجهها وكتفها كقطة اوت لصاحبها تبحث عن الدفء والراحة. فتحت "ليليان" ازرار قميصي وهي تمشط بأناملها الدقيقة شعر صدري وتبعث في مداخلي نشوة الحب والسكينة كأنها تعتذر لي بدون كلمات.

النجوم تتلألأ منعكسة على ماء بركة السباحة. تختلط ببعضها كلما هبت نسمة من البحر لتحرك الماء السكن. رائحة اللافندر والنرجس والورود المتنوعة المنبعثة من حديقتي ومن حديقة جاري بكري، تنعش الروح وتوحي بأقاصيص ألف ليلة وليلة، واقاصيص حريم السلطان في عهود العبودية في البانيا وتركيا العثمانية. مخيلتي أطلقت لنفسها العنان، ولكن حقيقتي لا أزال حذرا في أي خطوة اخطوها مع "ليليان"، بعد الذي حدث وما ترتبت عليه من احداث مدوية في محيط معارفنا المحدود. همست الي "ليليان":

- هيا يا حبيبي انا اشعر بالتعب

- ألف سلامة هيا بنا

نهضت من مكاني حاملا بكلتا يديا "ليليان" ونزلت بها الي حجرتها. وضعتها على السرير بكل عناية، قامت من السرير، ودخلت الي حجرة الملابس الملحقة. غيرت ملابسها وارتدت قميص نوم شفاف وردي فاتح وتوجهت للحمام. توجهت لحجرتي ولبست بجامة حريرية بيضاء. وبينما انا منشغل بتغسيل وجهي واسناني في الحمام، أحس بزراعي "ليليان" تحيط خصري وتهمس:

- تعال يا خالد ... لا تتركني وحدي يا حبيبي

- سأكون معك حالا.

- انا منتظراك حبيبي.

كنت مرعوبا من نفسي وتكرار ليلة أمس، لكن دخلت حجرة "ليليان" وقد اطفأت الانوار الا بصيصا يعكس انوار الحديقة من خلف الستائر الشفافة مكنني من الوصول لسريرها ودخلت تحت اللحاف واحتضنت جسدها الذي يفصلني عنه قميص نومها الشفاف وبجامتي. احتضنتها وسيطرت على نفسي حتى نامت كالطفل وهي تتوسد يدي اليسرى. وبعد ذلك خلدت لنوم عميق وحبيبتي "ليليان" على جنبي.

في الصباح وحسب المواعيد مع بكري لبسنا انا وليليان أفخر الثياب، ومعنا دبل غالية الثمن وامام القاضي المدني والأستاذ بكري، أصبحت زوجا رسميا ل "ليليان" باستخراج شهادة من المجلس البلدي. وثيقة الزواج التي حصلنا عليها بالطبع دعمت شرعية تواجد "ليليان" معي في الفلا، واشعار اجتماعي محترم بين معارفنا في لبنان. اما موضوع اعتراف ابي او ابوها فلايزال عقبة علينا اجتيازها. على أي حال كان كلانا في اشد الفرح.

في طريقنا ذهبنا الي الشقة وجمعنا بعض الأغراض التي نحتاجها. وعند اقترابنا للفلا، لفت نظري “ابو أياد” الي تواجد سيارات جيب عسكرية مرابضه حول الفلا من جميع الاتجاهات بها جنود يستعملون هواتف خلوية. تخوفت "ليليان" وطلبت الرجوع للشقة ولكن طمأنتها ان تواجد الجنود الامريكان مرتبط بزيارة مايكل واصدقاءه لفلتنا مساء اليوم، وهذا يحتم عليهم حراسة مشدده. تفهمت الموضوع ودخلنا الفلا التي قام متعهدون بتهيئتها بالأنوار والزينة. دخلت "ليليان" على "ماجدولين" في الطابق الثالث وبدأت تهيئتها مع أمها بملابس الزفاف التي احضرتها لها.

راجعت الرسائل الصوتية بمكتبي فوجدت رسالة من والدي طويلة صدمتني لابعد الحدود. لم استغرب من الرسالة. وهذا هو المتوقع من ابي الله يسامحه. عنصرية وجهل وإصرار في الفارغ. لم تغير رسالة ابي أي جديد او قديم في تفكيري. لو انى واجهته بالمسكوت عليه في يوم من الأيام، لما أرسل هذه الرسالة. والدي يدور حول حلقة مفرقة يفرضها علي لتصفية مرارات قديمة. هل نسي ابي امه جدتي المناضلة ملك اليمين "مستورة"!!!؟ يا له من عالم لا نطيق فيه بعضنا البعض، عالم مليء بمرارات واحقاد واخطاء الماضي، عالم زادته التقاليد والجهوية، والمعتقدات الخاطئة من الكتب الدينية مرارة وفرقة.

دخلت "ليليان" مكتبي وجلست على الاريكة الجلدية وهي مرتاحة البال وفرحة بهذا اليوم الذي يتوج علاقتنا وقصة "ماجدولين" الطويلة والتي ساهمت في نهايتها السعيدة بتعليم "ماجدولين" ورعايتها الي هذا اليوم المفرح. مددت "ليليان" جسمها بأكمله علي الاريكة وقالت:

- حبيبي خلود تعال اقعد جنبي ... انحنا خلاس حلال عل بعض.

- اكيد حبيبتي دعيني أكمل هذه المذكرة حالا.

- مالك مضطرب وزعلان يا خالد !!؟

- زعلان من ابوي مرسل لي رسالة مخجله.

- يا سيدي انت متوقع منه ايه ... خليك من الزعل يا خلود اليوم دا يومنا.

- خلاس خلينا ننسي ... وفعلا دا يوم زواجنا رضى الكبار او ابوا.

جلست على حافة السوفة واحطت بزراعي الايسر جسد "ليليان" ورفعتها واجلستها على حجري ودون تخوف او تردد قبلتها قبلة طويلة كتمت أنفاسها وهي متعلقة بكلتا زراعيها عل عنقي. صعدت الي الدور الثاني و"ليليان" بين زراعيا كالطفل الرضيع المبتسم. وضعتها على السرير وقلت:

- لسع الباقي ساعتين لحين حضور الضيوف ... ايه رأيك في ...؟

- نفس ما أفكر فيه ... مش انحنا عرسان.

- بس انشا الله الالتهابات انتهت.

- خلاس ما فيش حاجه ... المرة السابقة كنت ذي البنت البكر. بعد أربعة سنين من الطلاق اول مرة اعرف السكس منك ... انا جاهزة ميه الميه يا حبيبي.

- وانا كمان يا حبيبتي.

بجراءة كاملة بنيت ب "ليليان" ساعة من المتعة التي لم امارس مثلها في حياتي العامرة بالحسان، وهي تصرخ وتتأوه وتضحك وتبكي وتقبل وتتقلب وتلتوي في اقبال وادبار لم نتوقف الا بدخول الحمام لدقائق والرجوع الي السرير. خرجت من الحمام آخر مرة وقالت:

- خالد ... لكن ما كتلتني ... كفايه كدا يا خلود خليني احضر نفس عشان الضيوف وانت لازم تلبس البدلة التي اخترتها لك قبل أسبوع.

- خلاس ... هيا بنا نلبس.

بينما انا منشغل بلبسي، اتصل بي الحارس بان هنالك مجموعة من الأجانب تحمل معدات موسيقية تريد دخول الفلا. عرفت ان الفرقة الموسيقية من المركز يحضرون لفرح مايكل. خرجت لاستقبالهم وتوجهت بهم الي بركة السباحة حيث اعدت الزينة والمأكولات وقامت ام محمد بإكرامهم لحين وصول الضيوف.

وصلت محاسن وأطلقت زغرودة طويلة في قلب الفلا وهي تردد "مبروك علي "ليليان" وعلى "ماجدولين" وعلي خالد وعلي مايكل" خرجت "ليليان" و "ماجدولين" لاستقبالها. كانتا في لبس الزفاف كحوريتين على اعتاب الفردوس الاعلى. حتى الحمل لم يظهر على "ماجدولين" بجسمها المتماسك وقوامها البض الشاب. "ليليان" بجمالها واناقة ملبسها وحليها كانت كخيال هبط على ارض الحقيقة بدون استئذان.

في منتصف الممشى بين البوابة ومدخل الفلا، وقفت وعلى يميني "ليليان" وعلى شمالي "ماجدولين" في انتظار مايكل. وخلفي "جستن" وصوني ومحاسن ووالدة "ماجدولين" ومريم الصومالية وصديقها. دخلت سيارة جيب خاصة. ترجل منها مايكل وهو يلبس بدلة بيضاء ويحمل باقة كبيرة من الزهور، ومعه المستر "كاسبر" وضابطة أمريكية بيضاء من سلاح الصواريخ الموجهة. انفكت "ماجدولين" من يدي، وجرت وارتمت على مايكل. احتضنها ورفعها بزراعيه، وتوجه بها الي مدخل الفلا، وتبعه الضيوف الامريكان زنوج وبيض رجال ونساء، وزملائي المترجمين ومستر كاسبر منشغل بهاتفه اللاسلكي. وبدأت فرقة الجاز تعزف السلام الأمريكي. تسمر كل امريكي في مكانه وهو يحيي بالطريقة العسكرية حتى انتهي العزف.

زغردت ام "ماجدولين" وسط أعجاب الضيوف وبدأت موسيقى الجاز الراقصة ووقفت بخلف البار الملحق ببركة السباحة الضابطة الامريكية التي كانت مع مايكل في سيارة الجيب. انهال عليها الضيوف وهي توزيع البيرة والويسكي والكونياك. دكتوره "صوني" الحبشية فتنت الجميع برقصها المتواصل مع الجميع.

وصل بكري متأخرا لانشغاله كالعادة لساعات متأخرة من الليل يتابع القضايا التي يعج بها مكتبه. جلس بجانب محاسن واستجاب لطلبها في الرقص. عرفته بمريم الصومالية وصديقها. طلبت مريم الحديث معي على انفراد بما يخص محمد السائق، وفعلا انتحينا جانبا في السطوح بعيدا عن صخب الموسيقى وضجيج الضيوف. طلبت منها ان تسمح للأستاذ بكري بصفته القانونية ان نشركه في النقاش بخصوص محمد. لم تمانع وفعلا نزلنا سويا الي مكتبي في الطابق الأول وتبادلنا المعلومات. بادرت مريم وقالت:

- مع احترامي للسودانيين ونحن اهل، لكن القبلية في الصومال لا تزال الحكم والعدل بين الصوماليين. والدي كرئيس للقضاء الشرعي في الصومال لا يجد طريقة تمكنه من معرفة أصل محمد السائق، حتى يقر قران اختي الصغيرة به. اختي من جانبها مقتنعة بالزواج من محمد. نحن أصلا من شمال الصومال أصولنا يمنية في غاية التأخر والعصبية العرقية. وابن عمي يريد زواج اختي، لكن ظهور محمد عقد الأمور. تكلمت مع امي اليوم فهي مقتنعة بزواج محمد كما اقتنعت بزواجي من الأمريكي الذي تعرفونه. انا مع اختي، ويجب ان تترك لها حرية اختيار زوجها.

من كلام مريم اتضحت العنصرية العرقية الموروثة أيضا في بلد كالصومال. فكنت واضحا معها في توضيح من هو محمد السائق، بما انني رأيت تحررها الواضح وهي خارج بلادها، وارتباطها بخواجة امريكاني ابيض "روبرت بترسن" فلا بد من تجنيدها فكريا، ليتم زواج محمد.

قلت لمريم:

- يجب علينا يا مريم ان نحارب العنصرية بجميع أنواعها. أوضحت لك ان محمد من الارقاء ورثه سيده كتركة من أموال والده وان والد محمد أيضا رقيق مملوك حتى مماته. وانا أيضا الدكتور خالد بهيبته امامك، جدتي كانت من الرقيق فهل من المقبول ان نظل ارقاء!!!؟

تدخل أستاذ بكري بما له من تجارب ومعرفه من النواحي القانونية وقال موجها حديثة الي مريم:

- قانونيا لا يوجد ارقاء في العالم قاطبةً، لكن بكل اسف لايزال العالم العربي والإسلامي يصر على إبقاء الرقيق ويجد له التبريرات الدينية من أمهات كتب التفاسير. محمد يمكنه ان يتزوج من أمريكا او أي بلد غير عربي بدون أي مشكلة. إذا كان الزواج بالمال فلمحمد من المال ما يمكنه ان يتزوج ملكة جمال العالم. علينا أولا يا مريم، تحرير محمد من الدونية التي عاشها طيلة عمره في بلده. عمليا سيتم تحرير محمد تماما بعد وصوله الي بيروت ثم نقله لبلد غير عربي، وبحمد الله له من المال ما يساعد في كل ذلك. فاذا كانت اختك راضية بمحمد يا مريم فسنحضرها هنا ومستقبلا سترافقك في رحلتك الي أمريكا فما رأيك!!؟

- انا معكم وسأعمل بكل ما املك من المنطق امام ابي حتى إذا اضطررت للسفر لوحدي او مع خطيبي "روبرت بترسن".

فقلت انا بعد سماع ما قالته مريم:

- سنحضر لك تذاكر السفر والرجوع. وإذا رايتي مرافقة صديقك أيضا نجهز له تذاكر السفر. على أي حال سأتصل بمحمد في فندق مدينة "هرجيسة" بالصومال ونعرف منه آخر الاخبار.

قالت مريم:

- فكره جميلة وانا على اتم استعداد للسفر.

بعد اتضاح خطة مساعدة محمد خميس السائق من جانب مريم نهضت وقلت:

- هيا بنا لمواصلة الحفل واوفيكم بأخبار محمد في صباح الغد.

الموسيقي والهرج يسيطر على السطوح. وجدت "ليليان" ترقص مع مايكل و "ماجدولين" ترقص مع كاسبر وام "ماجدولين" مع أحد الجنود السود. الجميع في فرح ما بعده فرح. بكري يرقص مع محاسن. واستمر الحفل للساعة الثانية صباحا عندما أعلن كاسبر انصراف الجميع لكنه سمح ل مايكل بقضاء الليلة معنا في الفلا. امر جنود الحرس بمواصلة تواجدهم حول الفلا للحراسة لحين توصيل مايكل و "ماجدولين" الي مطار بيروت غدا الساعة الواحدة ظهرا.

ام محمد للسيدة حضرت غرفة ل "مسيله" ملاصقة لغرفتها. مع "ليليان" على حافة المسبح نناقش مستقبلنا الشبه معلق على رقبة ابيها ورقبة ابي. وبعد الاطمئنان على راحة ونوم الجميع دخلنا حجرة النوم ولم نفق الا على حركة ام محمد وام "ماجدولين" في المطبخ. وكان الفطار الأخير ل "ماجدولين" في وطنها لبنان وهي تتجه لوطنها الجديد امريكة مع زوجها مايكل.

في الساعة الثانية عشر حضر “ابو أياد” ومعه الحارس لأخذ حقائب "ماجدولين" وحضرت عربة جيب من المركز الامريكي وبها اغراض مايكل، توجهنا جميعنا الي مطار بيروت وودعنا مايكل و "ماجدولين" وهي تبكي وتحتضن أمها الباكية طيلة الطريق. فرحة النجاة ل "ماجدولين" والم فراقها سيطرتا على "ليليان" ونزلت دموعها في صمت ونحن نتجه لسيارتنا. كان مشهدا مهيبا وانتصارا شامخا لمجهودي الذي بذلته دون مقابل، ومجهود "ليليان" الصادق في مساعدة "ماجدولين".

في طريق العودة من المطار، قررت "ليليان" المرور علي حجرتها بشقة محاسن لمراجعة بريدها. جلست لوحدي في حجرة الاستقبال. طالت مدة انتظاري ولكن امهلتها حتى خرجت من حجرتها في حالة توتر وغضب وقالت:

- هيا بنا يا خالد ... الظاهر انو ابوي أصابه جنون ... ترك لي رسالة ذي الزفت

- الحاصل شنو يا "ليليان" ... أخبريني عن الحاصل.

- ما فيش لزوم

- كيف يا "ليليان" ... ما يخصك بخصوني ... ا نسيت اننا متزوجان!!!؟

- كلامك صاح ... لكن ما توقعت ابوي يكون بالشكل دا ... صراحة انا خجلانة من كلامه.

- مهما كان كلامه لازم نكون صريحين مع بعض.

- بعد الذي سمعته من ابوي انا لن ارجع السودان ... والبيحصل خليه اليحصل.

- يا "ليليان" رسالة ابوي كمان كانت مخجله جيبي الشريط معاك ونسمع الرسالتين في الفلا ونشوف نعمل ايه.

- موقفنا ذي طارق بن زياد البحر من ورائكم والعدو امامكم.

- علينا ان نمارس الجدل والمنطق مع أهلنا ونقنعهم.

عند وصولنا الفلا، دخلنا مكتبي واسمعت "ليليان" رسالة والدي المسجلة:

- صباح الخير ... يا خالد يا ابني انت تتهرب مني ليه في موضوع زواجك وعايز تستشير أمك قبل ما تستشيرني دا كلام ما مقبول ... على أي حال ما ترسل أي تذاكر لأنه أمك وعمك ما حيسافروا. انا عرفت اهل البنت العايز تتزوجها وهي بنت "الشاهر" تاجر الأقمشة الشامي المعروف في شارع الجامعة، يا ابني انحنه ما بنتزوج من الحلب. عايز تجيب ليليان حلبية في البيت!!!؟ الناس تقول شنو!!! نودي وشنا وين!!!؟ أي بت بلد أحسن منها بي مليون مره. يا ابني فكر وما تخلينا نندم على التعب التعبناه فيك. إذا بت خالك ما عايزه في ألف بت بلد تتمناك. ليه تعرس حلبيه!!؟ انحنا منتظرنك في العيد وأمك عندها مرشحات كتار. يا خالد احترم مكانة ابوك، الناس هنا وفي البلد تقول ايه؟ ولد وكيل وزارة الداخلية اتزوج حلبيه!!؟ يا ابني انحنا عندنا الزواج هنا العايله قبل البنت، من أي عايلة ومن أي قبيله!!؟ لو اصلك بتفهم الأصول. مع السلامة.

بعد الاستماع لرسالة ابي، ضحكت "ليليان" لكنها بكت فجأة وارتمت على حضني وقالت:

- ينتظرنا الكثير لإصلاحه في مجتمعنا المسلم يا خالد. لا اعتقد ان أي نظريه فلسقية يمكنها تغيير مجتمعنا ... كنت اعتقد ان الماركسية كفيلة بتغيير مجتمعاتنا، لكن لا اعتقد الآن يا خالد.

- خلينى اسمعك رسالة ابي، ولاحظ قمة التناقض والعقلية العنصرية المريضة. لابد من وجود علاج ... اول خطوة هي اصرارنا كشباب على تفكيرنا ورفض لوى الايادي من العائلة.

- دا بالنسبة ليك كرجل في مجتمع ذكوري لا يحترم المرأة مهما كانت، – زوجه -ام اخت -خطيبه او عشيقه.

- دعينا نستمع. ماذا قال ابوك ثم ندرس خطتنا.

وضعت "ليليان" الشريط، واستمعنا لما قاله والدها؛

- اتصلت بيك كم مره وما لقيتك جنب التلفون. افهم كدا انه بعد ما خليتي داخلية الراهبات بقيتي بت صايعه ومطلوقه!!؟ خالك كلم أمك. وأمك قالت لي كل حاجه. قبل ما اديك رأيي، زوجك السابق عزيز أبو ولدك يوسف عايز يرجعك عشان ابنه. قصة الطلاق بالثلاثة ما مشكله. وانا استشرت شيخ الأمين ووراني الحلول. منتظرين موافقتك ولازم توقفي الدراسه حالا عشان نكلم عزيز في باكستان. أنسي موضوع الدكتور دا خالص. انحنا ما عندنا بنات بنزوجه لي رقيق. وكيل وزارة الداخليه إبراهيم ابوه راجل محترم وساعدنا كتير في شغلنا وسهل لينا فتح مكتب شندي السجلانه بي اسمك. لكن ما معناه ولده يتجرأ ويتقدم ليك ... ديل انتي عارفاهم من وين!!!؟ ديل رقيق، الانجليز علموهم وختوهم فوق رؤوس الناس. دايره تبقي ذي السجمان خالك الشيوعي ولا ايه!!؟ انتي حتزوجي زنقد. عارفه زنقد يعني ايه. اسمعي كلامي ورجوعك لي عزيز مؤكد. عايز ردك بأسرع فرصه. مع السلامة. انا ساكون عندك في بيروت الأسبوع القادم.

استمعت للشريط و"ليليان" ممسكة بزراعي الأيمن وانا مطأطأ الرأس انظر للأرض تحت أرجلي. كلمات كانت كالسكاكين الحادة تقطع قلبي ومشاعري اربا اربا وتقتال شخصي وتهذا بحبي وتثير في داخلي فيروس العنصرية البغيض. وقع الكلمات أعاد لي وجه جدتي عليها رحمة الله. عاشت معذبة مهزومة وضيعة امام اسيادها واستمعت وجها لوجه لكلام أقبح مما قاله والد "ليليان". لكن لو قال والد "ليليان" ما قاله في هذه الرسالة مباشرة امامي، لبصقت على وجهة.

كان لابد لي ان اكسر الصمت لأتكلم مع "ليليان" ودموعها من الأسى والحزن والخجل بللت كوم قميصي. قلت:

- سبحان الله ... لا فرق بين رأى ابي وراي ابيك، رأيان ينسخان بعضهما البعض وهذا يضعنا الاثنين في كف متساوي. كل ما ورد في الرسالتين محبط ومخزي ومؤسف. لكن علينا الصمود يا "ليليان" ومواجهة المستحيل خاصة ونحن نحمل شهادة زواج الان، الدفاع عنها واجب. حقا تألمت يا "ليليان"، لكن لا خيار غير الصمود معا الي الابد.

ظلت "ليليان" تدفن وجهها ورأسها وشعرها المبعثر في مساحات وسط صدري، وعيونها الدامعة الزرقاء الناعسة الحزينة تعبر عن رفضها واستنكارها لما قاله ابوها. "ليليان" كانت ولاتزال، تلهم مشاعري للصمود امام اهوال المستقبل المجهول وقالت:

- متأسفة ... متأسفة ... متأسفة يا خالد لهذه الرسالة البشعة ... لكن لن اسمح كما قلت لك سابقا، لأي حد، حتى ابي، ان يقتال شخصيتي ويقتال شخصية من أحب ... اما أبو يوسف فيستحيل ان ارجع له وأفضل الموت من دونه. فانت عضدي وزوجي وحبيبي وابي الذي اعتمد عليه لحمايتي ولا شيء في هذه الدنيا يفرقنا عن بعض. لن اسافر للسودان بعد اليوم. لا يهمني بعدك يا حبيبي الا ابني وامي. وانا وانت جديران بان نعالج قضيتنا ما دمنا نعالج قضايا غيرنا من المظاليم في هذا العالم المتوحش. سأظل معك وسأتم دراستي بعزمي وعزمك.

امسكت بيدها وقبلتها، وصعدنا الي السطوح وجلسنا كالعادة على الطرف الايمن من المسبح لعلي اروح عليها مرارة المشهد والم الصدمة التي اصابتها واصابتني. لا خيار امامي الا السير في الدرب الذي بدأته مع "ليليان".

ذكرتني "ليليان"، انني اوعدت مريم الصومالية والأستاذ بكري بالاتصال مع محمد السائق بفندق "هرجيسة" فبدلا من مناقشة مشكلتنا الماثلة امامنا فضلنا ان نشغل أنفسنا مؤقتا بقضية محمد. قمت بإحضار التلفون الملحق ببار المسبح ووضعته في الطاولة امامنا وقمت بالاتصال المباشر:

- الو

- معاك فندق هرجيسة ... خدمة العملاء

- ممكن أكلم محمد حجرة رقم 22؟

- محمد نقل للمستشفى يوم أمس في حالة خطيرة.

- لا حول ولا قوة الا بالله ... هل يمكن معرفة الأسباب؟

- التفاصيل عند الشرطة ... كل ما نعرفه انه وجد داخل حجرته وسددت له ثلاثة طعنات ولكنه لم يفارق الحياة.

- هل يمكن الحصول علي تلفون المستشفى؟

بعد الحصول علي تلفون المستشفى اخبرت "ليليان" بالتفاصيل وكان تعليقها:

- لا اصدق

- مسكين محمد ... كالمستجير من الرمضاء بالنار. اكيد محاولة سرقة.

- المصائب لا تأتى فرادة.

- لا يوجد حل غير سفري وإنقاذ هذا المسكين.

- كيف يا خالد تتركني في هذه الفلا الواسعة لوحدي!!؟

- "ليليان" انت خياري الأول في كل الأحوال. والله مصيبة كبيرة ... وانا السبب.

- ايه رأياك لو أرسلت مريم ومعها صاحبها الامريكاني. لكن إذا الحيت على السفر بنفسك فسأرافقك يا خالد.

- سأتصل بالمستشفى أولا للاستفسار عن الحالة.

حاولت عدة مرات ولم أفلح، رجعت لمراجعة الفندق مرة اخري، اعطوني رقم آخر وأيضا فشلت في الوصول. أخيرا اتصلت "ليليان" بمريم الصومالية وأبلغتها بالخبر وقامت مريم بدورها الاتصال بأختها في هرجيسة.

وبعد أربعة ساعات من الانتظار، عرفنا أخيرا ان من قام بمحاولة قتل محمد مجهول. وعرفنا ان حليمة أصرت على الزواج من محمد، بالرغم من رفض والدها قاضي قضاة الصومال. وهو متمسك بحكم الشرع الإسلامي، بعد ان عرف ان محمد عبدا مملوكا ولا يعتبره كفأ لبنته، اذ ان النص يقول:

- "قوله -صلى الله عليه وسلم -:(ألا يزوج النساء إلا الأولياء، ولا يزوجن إلا من الأكفاء) وفي رواية: (لا تنكحوا النساء إلا من الأكفاء، ولا يزوجهن إلا الأولياء)

كانت "ليليان" تجيد المراجع الفقهية أكثر مني بحكم زواجها السابق بأحد الاسلاميين. ويبدو ان رسالة ابوها المسجلة والتي تكلم فيها عن رجوعها لزوجها الأول بعد طلاق الثالث دفعها لتحضير بحث أطلعتني بما فيه من معلومات كنت أجهلها تماما وهي:

المطلقة ثلاثاً، تُحرم على زوجها، حتى يطأها أي يجامعها ـ زوج غيره، حسب قول الله تعالى:

- {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]. ،

المعنى حتى تتزوج زوجاً، ولا يمكن أن يكون زوجاً إلا إذا كان النكاح صحيحاً. وحتى لو الزوج الثاني تزوجها بعقد صحيح، ودخل عليها وباشرها، ولكن لم يطأها، فإنها لا تحل للأول، ودليل ذلك قصة امرأة رفاعة القرظي، فإن رفاعة طلقها ثلاثة تطليقات، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزَّبِير ولكنه ليس عنده قدرة على النكاح، وجاءت تشتكي إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم تقول له: إن رفاعة طلقها وبتَّ طلاقها، وإنها تزوجت عبد الرحمن بن الزَّبير، وليس معه إلا مثل هدبة الثوب وأشارت بثوبها، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك» يؤخذ من هذا أنه لا بد من الجماع، حتى يكون النكاح مراداً حقاً.

عندما قرات لي "ليليان" ما جمعته من معلومات حول الطلاق بالثلاث، شعرت بإهانة للمرأة، في الوقت الذي كرم الإسلام المرأة كما يقال في كتب الفقهاء.

لم نجلس حول بركة السبحة في ذلك اليوم. جلسنا في مكتبي نراجع المسندات ونبحث عن أفضل مخرج لإرضاء والد "ليليان" ووالدي. ووصلنا الي أحسن الحلول حسب تقديراتنا وحساباتنا المبنية على الوضوح والمواجهة. في الساعة الثانية صباحا خلدنا للنوم.

في الصباح توجهنا سويا للجامعة مع السائق. نزلت "ليليان" في كلية الطب وتوجهت لمكتبي. في الساعة الواحدة ظهرا تقابلنا سويا في الكافتيريا وأشركنا معنا مريم الصومالية لمعرفة المزيد من التفاصيل عن محمد. لم يكن لديها أكثر مما عرفناه وقررنا ان نستشير الأستاذ بكري واطلاعه عما أصاب محمد في هرجيسة والاستفادة من رايه القانوني.

بعد اتصالي الهاتفي مع بكري، طلب منا جميعا الحضور للغداء معه وبحضور محاسن في فلته. بعد الغداء، جلسنا في الصالون واستمعنا لمريم. قرر بكري رفع قضية محمد لمكتب محاماة متعاون معه في هرجيسة بدلا عن سفري او سفر مريم لان هنالك قضية جنائية وهي محاولة اقتيال محمد وعدم وجود أي شخص لصيق به غير حليمة اخت مريم والتي منعها ابوها من أي اتصال به.

قام بكري بالاتصال بالمحامي "عبدي حرسي" وشرح له الموضوع واعطاه اسم المستشفى والفندق حيث يقيم محمد. الح بكري ان يتم الاتصال الفوري بمحمد لضرورة الحديث معه ثم الشروع مع نيابة هرجيسة للدفاع عن محمد ورفع قضية على الجاني المجهول.

بعد ساعتين رن التلفون بمنزل بكري وكان المتكلم محمد خميس بعد تبادل السلام مع بكري اخذت السماعة وقلت:

- ألف سلامة يا محمد

- لو لا إرادة الله يا دكتور كنت انتقلت للدار الأخرة.

- كيف انت الآن!!؟

- الحمد لله تمت العملية ... لكن احتاج لنقاه لعدة أيام.

- لا اريد ان اتعبك بالكلام ... لكن الأستاذ عبدى حرسي سيتولى القضية وسيجدون الجاني.

- لم تقصر معي حليمة وطول الوقت معي في المستشفى.

- نتوقع وصولك في هذا الأسبوع لبيروت وسيقوم مكتب عبدى بعمل اللازم.

- يا دكتور انا لا يمكن ان اقادر بدون حليمة. انا عارف انه ابوها رافض لكن انا لن اتراجع مهما كلفني الامر ما دامت هي راضية بزواجي.

- انشاء الله سيتم كل شيء بخير ... وإذا لزم الامر سأحضر بنفسي للصومال. ممكن أكلم الآنسة حليمة؟

- تفضل يا دكتور فهي بجانبي الآن.

فضلت ان اترك السماعة لمريم لتكلم اختها وبعد تشاور دام عشرة دقائق بينهما باللغة الصومالية، عرفنا من مريم ان والدها غير موجود في هرجيسة عندما تم التهجم على محمد، وأنها لن تقبل أي زواج غير محمد. اما موضوع التهجم عليه فلايزال مع النيابة.

جميعنا قادرنا فلة بكري. قام سائق سيارتي بتوصيل مريم الي شقتها.

وفي الصباح قبل الإفطار دخلت ام محمد مسرعة ومعها التلفون الي حجرتنا، كان المتكلم مايكل جير من اتلانتا جورجيا:

- الو دكتور خالد ... وصلنا بخير وأحب ان اشكرك انا و"ماجدولين" للمساعدات التي قدمتوها لنا.

- انا سعيد باتصالك وأتمنى لك ول "ماجدولين" اسعد الحياة معا.

- "ماجدولين" بجانبي الان وتريد مخاطبتك.

- الو ... "ماجدولين" الحمد لله على السلامة.

- اشكرك ابي دكتور خالد. التحية ل "ليليان" اختي الحبيبة. انا في منتها السعادة هنا مع ام واخوات مايكل.

- "ليليان" تريد ان تكلمك ... أمك بخير وستحضر فورا لتخاطبك

تبادلت "ليليان" و"ماجدولين" عبارات الشوق لحين حضور السيدة مسيلة أمها من حجرتها. بدموع الفرحة واصلت السيدة مسيلة الكلام مع بنتها. تركناها بحجرتنا وذهبت مع "ليليان" للمطبخ لتناول طعام الإفطار. انضمت علينا السيدة "مسيله" بعد الانتهاء من مكالمتها، وتبادلنا معا اخبار "ماجدولين" وحياتها الجديدة في أميركية.

في الصباح قامت "ليليان" بتحضير المرتبات لخدم المنزل والسائق “ابو أياد” وسلمتها لام محمد لتوزيعها عليهم. أرسلت مظروف إضافي به ثلاثمئة استرليني لترسل الي زوجة “ابو أياد” في غزة. في طريقي للجامعة مع "ليليان" عرفت من “ابو أياد” ان زوجته قد توفيت يوم أمس من مرض السرطان. ترحمنا عليها وسمحنا له بالسفر يوم الغد مع مبلغ ألف استرليني إضافي لتغطية مصاريف العزاء.

بعد انتهاء المحاضرات اصطحبت معي "ليليان" لمكتب الاستاذ بكري للمساعدة في تحضير أوراق ثبوتية تتيح ل “ابو أياد” الرجوع الي لبنان بعد رفع المأتم. وفي موضوع محمد السائق الموجود بالمستشفى في مدينة هرجيسة بالصومال، أوضح بكري ان القضية تحتاج الي شهر على الأقل وان مكتب المحاماة هناك سيشرف على تواجده بالمستشفى واقامته في الفندق لحين انتهاء القضية. ولحسن الحظ ان محمد احتفظ بكل ماله عند إدارة الفندق.

بهذا الوضع وجدت انا و"ليليان" الوقت الكافي لقضيتنا الشائكة واتفقنا على مخطط دقيق قمنا بوضعه ودرسناه سويا سيجعل حلها سهلا. سارت حياتي مع "ليليان" في الفلا مليئة بالنشاط والاتصالات الشبه يومية بمحمد في الصومال وتتبع اخبار ماجدولين ومايكل جيير في اتلانتا وكذلك عملي في الجامعة ومكتب الترجمة في القاعدة سار بصورة روتينية.

اما مشروع السودان، فلقد اتم عمي أبكر دراسة الفكرة التي طلبتها منه وهو بناء معهد في قرية "عد الفرسان" بدارفور باسم جدتي "مستورة". أرسلت له التمويل اللازم عن طريق ابي. بالرغم ان ابي لم يكن متحمسا للموضوع. شعرت براحة نفسية وانا اتابع التقارير التي تصلني أسبوعيا من عمي.

قرر الأستاذ بكري تأجيل زواجه من محاسن علي طلب صديقة دكتور قاسم الجرافي الذي اجل زيارته لبيروت لظروف العمل وغياب عميد الجامعة، الدكتور "فيروز" لفترة طويلة في لندن مرافقا امه للعلاج. كل هذه العوامل جعلت الجو هادئ لبدأ مخططنا الدقيق انا و"ليليان" في الأسبوع القادم.

بعد أسبوع وفي يوم الثلاثاء وصل السيد احمد الشاهر في مطار بيروت حسب ما قاله ل "ليليان" في رسالته المسجلة. قابلته ومعها محاسن. ومحاسن لا علم لها بالخطة التي وضعناها انا وليليان، غير المساعدة في توصيل والد "ليليان" الي "بيروت هلتون" حيث تم الحجز له ثم اصطحابه الي شقتها لتفقد حجرة "ليليان". كان السيد الشاهر منشرحا وهو يستقبل محاسن مع ابنته "ليليان"، نقل لمحاسن اخبار أهلها مع بعض الخطابات المرسلة معه. فهو يعرف عائلة محاسن منذ تاريخ وصوله السودان، والسكن في منزله القديم بمدينة امدرمان، وبداية تجارته بها بجانب دكان والد محاسن، قبل انتقاله لفلته الحالية المطلة على النيل الأزرق في الخرطوم.

ظلت ليليان مستمعة بأدب وحذر في حضرة ابيها ولم تفتح معه أي موضوع جانبي. بعد شراب الشاي وفي غمرة أخبار السودان واستطلاع سير حياة "ليليان" في بيروت، طلب السيد الشاهر من محاسن الذهاب للفندق لأنه كان يحس بالإرهاق من عناء السفر.

في الطريق الي الفندق بسيارة محاسن كان السيد الشاهر يجلس في المقعد الخلفي منهمكا مع الصحف التي وجدها بجانبه في المقعد الخلفي، بينما كانت "ليليان" مع محاسن في المقعد الامامي. وفجأة وبصوت عالي خاطب الشاهر محاسن وباستغراب "هل حقيقة ان وكيل وزارة الداخلية السودانية سيحضر غدا الي بيروت؟" فردت عليه محاسن لا علم لي بالموضوع. فقرأ لها الخبر المكتوب على صحيفة النهار الصادرة اليوم:

"سيصل الي بيروت في يوم الأربعاء غدا السيد اللواء "إبراهيم الناير" وكيل وزارة الداخلية السودانية لفترة أسبوع للاستجمام والراحة. اللواء إبراهيم هو والد الدكتور المعروف خالد إبراهيم الناير عميد شعبة الرياضيات بالجامعة الامريكية ببيروت. ومرحبا بالضيف الكريم"

استغربت محاسن بينما ظلت "ليليان" صامتة وعلي وجهها ابتسامة خفية. ظل الشاهر يتلعثم ويردد "والله لا علم لي لم اسمع هذا الخبر في الصحف السودانية ... ما كنت اعتقد ان اللبنانيين يهتمون بشؤون السودان بهذه الطريقة ... لابد لي ان اقابله فللرجل فضائل كثيرة علينا.

امام الفندق نزل والد "ليليان" مسرعا مطربا وودع محاسن، ثم ترجلت "ليليان" من السيارة وودعته وحاول ان يتبادل معها بعض الكلمات لكنها اسرعت ورجعت لسيارة محاسن بحجة ان سيارة محاسن، قفلت ممر العربات امام الفندق. في الطريق كانت محاسن متشوقة لمعرفة القصة، لكن "ليليان" قالت لها انها مجرد صدفة، لكن محاسن لم تقتنع واصرت على معرفة هذه المفاجأة الغريبة. ولازت "ليليان" بالصمت رغم إصرار محاسن المتواصل.

اما انا ففي صباح يوم الأربعاء توجهت بسيارتي المرسيدس القديمة الي مطار بيروت لمقابلة والدي قادما بالخطوط الجوية السودانية من الخرطوم، وتفاجأت ان امي كانت ترافقه بدون اخطاري. فرحتي برؤية امي سيطرت على المشهد وركضت فاتحا زراعي وضممتها بقوة الي هامتي الفارعة وحسيت بالطمأنينة بتواجدها، بعد ذلك سلمت على والدي بالحضن.

بعد استلام الحقائب، اضطررت ان اطلب تاكسي لابي وأشرت لسائق التاكسي بالتوجه الى "بيروت هلتون" واصطحبت امي في سيارتي الصغيرة. كان الطريق مكتظا لتغيير المسار اذ ان طائرة إسرائيلية ضربت تجمعا للمجاهدين الشيعة في طريق المطار. ولدراية سائق التاكسي بشعاب بيروت وصل الفندق مع ابي قبلنا بساعة كاملة.

عندما دخلت بهو الفندق واجلست امي في جانب قصي اتجهت لمكتب الاستقبال لأرى ما تم في استقبال والدي. بادرني الموظف وسألني إذا ما كنت ابحث عن السوداني الذي قدم اليوم "السيد/ إبراهيم الناير" قبل ان اجاوبه، أشار الي حيث يجلس ابي. فاذا بي أراه جالسا مع شخص أشقر، من ملامحه هو والد "ليليان" الرجل الذي يفترض ان يكون نسيبي أي والد زوجتي. توجهت اليهما وانا ادرس أي خطوة وماذا أقول وكيف اتصرف. وقفت بقامتي الفارعة مواجها ابي تاركا الرجل خلفي تماما. اعتذرت ووضحت لابي سبب تأخيري. لم يرد على والدي، وبادر بتقديم السيد الشاهر وقال:

- "سلم علي عمك الشاهر"

سلمت عليه بحراة مفتعلة. كانت على وجه السيد الشاهر علامات الاستفهام والتعب والارهاق ظاهرة. من الواضح انه لم ينام طوال الليل وهو يفكر فيما قاله لابنته عن والدي وعني.

الشاهر حتى تلك اللحظة لا يعرف ماذا قال ابي عنه في الرسالة المسجلة:

ولو عرف الشاهر ما قاله ابي عنه، لخفف عليه كل الهم والارتباك. كلاهما لا يعرف ماذا قال الآخر عنه. خوفا على مصالحه التجارية والمالية الكبيرة في السودان يمسك السيد الشاهر، أنفاسه لكيلا يعرف وكيل وزارة الداخلية السودانية ما قاله عنه. من الجانب الثاني يغطي وجه ابي الخجل لكيلا يعرف السيد الشاهر ما قاله لي عنه.

انا و"ليليان" من يملكا المعلومة الكاملة، لكن ابي كان يعرف ما قاله لي في رسالته المسجلة. والسيد الشاهر يعرف ما قاله لابنته ليليان في رسالته المسجلة لها. شكرا للتكنولوجية.

انسحبت وتركت والدي مع السيد الشاهر، استأذنت وذهبت لأمي واخذتها الي الجناح ومعنا خادم الفندق يحمل الحقائب وبعد عشرة دقائق حضر الوالد.

كان ابي مطربا ومنزعجا جدا من مقابلة الشاهر. امي بدأت في فتح الحقائب وترتيب الملابس في خزانات حجرة النوم الفارهة. جلست مع ابي في حجرة الاستقبال بالجناح. شعرت بانه يشتم رائحة مقلب، سيما انه وكيل وزارة الداخلية وله تجارب ودراسات وممارسات عدة في البحث عن الحقيقة، عندما بادرني بسؤال:

- كيف حضر هذا الشاهر بالتوافق مع حضوري وكيف حجز في نفس الفندق. شيء غريب!!؟

- اظنها صدفه مجرده يا ابي.

- ثم ثانيا، كيف عرف اللبنانيون بزيارتي ليكتبوا عني في الصفحة الأولى من صحيفة النهار!!؟ لا بد ان يكون في الامر شيء.

- يا ابي الا تعرف هنا في لبنان يكنون التقدير لحكومة السودان!!؟ ا ليس السودان هو الحكم الديمقراطية الوحيدة مع لبنان في العالم العربي.

- احجز لي فورا في مكان آخر وبأسرع فرصه او نسكن في شقتنا ... لا اريد رؤية هذا الشخص.

- شقتنا تحت الصيانة السنوية، ومن الصعوبة إيجاد مكان آخر وهذا موسم الصيف للسواح ... لكن سأحاول.

- يا خالد ارجوك لا تتكلم عن موضوع الزواج ابدا. ولا اريد ان يعرف هذا الرجل ما سجلته لك في الرسالة.

- اطمأن يا ابي، طبعا لا أقول له، بالرغم على اصراري على الزواج من ابنته.

- يا ابني "ليليان" مطلقة فلابد ان يكون فيها عيب عليك بشابة أصغر وبكر.

سمعت والدتي النقاش وانضمت لنا وقالت:

- ما دام هذه هي رغبة ابني، فلنترك له حرية الاختيار.

- الا يوجد اختيار غيرها!!؟ البلد مليئة.

- يا أبو خالد، انا اريد رؤية "ليليان" وبعدها نحكم.

تدخلت من جانبي في النقاش وشرحت لأمي وابي لماذا اخترت "ليليان" فقلت:

- "ليليان" بالرغم مما قاله والدي عنها فهي راضية بالزواج مني.

قفز والدي من مقعدة مذعورا وقال:

- هل اسمعتها التسجيل!!؟

- نعم يا ابي ... وواجب على ان اجاهرها بالصدق من البداية، فبدون الصدق لا معنى لزواجي منها.

- لا حول ولا قوة الا بالله ... معنى هذا الكلام انها ستخبر اباها بما قلته.

- هنالك احتمال ... وليس بالضرورة. لكن سأطلب منها بعدم ذكر محتويات الشريط لأبيها.

- حسنا ... ما دام هذا رأيك ورأي أمك، فلا مانع من جانبي ... لقد لويت زراعي يا دكتور. ارجوك ان تقنعها بعدم أخبار ابيها بما قلته لك في الشريط.

- لا يا ابي ... انا اريد منك الموافقة الغير مشروطة.

تدخلت امي وقالت:

- مبروك عليك يا ولدي وربنا يتمم بالخير.

- امي انا فخور بك واقسم أنك أحسن من المتعلمات والمتعلمين. سأحاول في تدبير لقاء لك مع "ليليان" بأسرع فرصة.

اتصلت بمطعم الفندق وطلبت الاكل المفضل للوالد والوالدة واستأذنت بحجة ان سيارتي لا تزال امام الفندق وانصرفت بهدوء فرحا بما حققته بدون جدل وعناء. وصلت لمكتبي في الجامعة حيث كانت تنتظرني "ليليان" علي أحر من الجمر. وضحت لها ما تم بالتفصيل. قالت بأعلى صوتها:

- يس ... نعم ... هذا رائع تخطيط سليم يا خالد.

اتصلت ليليان فورا بوالدها من مكتبي واخبرته انها في طريقها الي الفندق. واخذتها بسيارتي وتركتها ورجعت. بعد ساعة اتصلت "ليليان" من مكتب الاستقبال في الفندق وطلبت حضوري لأخذها.

كادت تطير من الفرح وهي تقفز داخل سيارتي وقالت بصوت عالي:

- هذا رائع تخطيط سليم يا حبيبي.

- ماذا حصل يا ليليان!!؟ ... خبريني بربك.

سردت لي تفاصيل اللقاء مع والدها، وبلسانها تم الحوار التالي بينهما.

بادرها ابوها وقال:

- ممكن ان تشرحي لي كيف جاء اللواء إبراهيم الي بيروت في نفس مواعيد تواجدي هنا يا "ليليان"!!؟

- لا اعرف ... اعتقد انها هي مجرد صدفة يا ابي.

- ولماذا حجز في نفس الفندق!!؟ اريد ان أرحل اليوم.

- لا علم لي لماذا ... ولا اعتقد ان هنالك خيارات في شهور الموسم في بيروت.

- هل وصلتك الرسالة التي سجلتها لك في التلفون!!؟.

- نعم وصلتني ... واريد ان أؤكد لك عدم رغبتي في الرجوع لرجل طلقني ثلاثة مرات. وانت تعرف ذلك. الرجاء يا ابي ان تفكر في مصلحتي واختياري.

- تقصدي دكتور خالد؟ ... يستحيل.

- لماذا؟؟

- لقد وضحت لك راي في الرسالة المسجلة.

- لكنه متسمك بي حتى بعد الاستماع لرسلتك المسجلة.

هنا قفز الحاج الشاهر من مقعده غاضبا وقال:

- تقصدي ان دكتور خالد، سمع رسالتي بالكامل!!!؟

- نعم يا ابي اسمعتها له لأرى ردة فعله نحوي، فبالرغم من قسوتها البغيضة، وجدت الدكتور خالد أكثر إصرارا لارتباطنا، وهذا ما قدرته فيه لثقته بنفسه وحبه لشخصي وأيضا تسامحه وشهامته.

- لا اريد ان تصل رسالتي الي والده ... فللرجل فضائل علينا فلو انقلب علينا فمعنى ذلك ان مصالحنا ضاعت وربما يطردنا من السودان بسحب الجنسية منا.

- لا اعتقد انه يفعل ذلك ... فهو ليس رجل انتقام وتآمر يا ابي، لقد وصفته في رسالتك بالعبد. انسيت يا ابي ان جدتي كما ذكرت لي سابقا، من ملك اليمين في قصر سيد قرشي في اللاذقية، ابان الحكم العثماني تسراها من البانيا!!؟. اطمئن يا ابي على مصالحك. سأؤكد لك اليوم، عدم نقل الرسالة الى وكيل وزارة الداخلية اللواء إبراهيم الناير.

- صدفة غريبة يا ليليان ... رأيت دكتور خالد اليوم مع والده هنا في الفندق، يبدو انه رجل ذو خلق. تعرفت عليه وحقا انه رجل وسيم وعالم وذو مكانة، لكنه اسود اللون يا "ليليان".

- ما العيب في الأسود يا ابي نحن بشر خُلقنا من اب وام واحدة ... لماذا نفرق!!؟ الم يقل الإسلام اننا سواسية كأسنان المشط!!؟. اريد موافقتك يا ابي على رغبتي الصادقة في زواج الدكتور خالد.

- يا بنتي، عندنا خيارات داخل الاسرة وخارجها ... فكري يا ليليان ولا تلوي ذراعي.

- دعين اخابر أمك مساء اليوم.

- امي لا تمانع لان خالي أقنعها، وانت تعرف ذلك.

- اهم شيء عندي الآن، الا يعرف اللواء إبراهيم ما قلته ... تأكدي من الدكتور خالد وردي على اليوم، ليس لي وجه اقابله به وهو معي في نفس الفندق.

- سأذهب لمكتب الدكتور خالد في الجامعة لأطلب منه عدم تثريب ما سمعه في الشريط لأي شخص آخر وخاصة ابيه.

- أسرعي وانا في انتظارك.

- هل افهم أنك موافق على زواجي بالدكتور خالد!!؟

- ان شاء الله خير.

قامت "ليليان" من مقعدها وضمت ابيها لصدرها وبكت بدموع الفرح وانصرفت لتجدني في انتظارها في موقف سيارات الفندق.

من باب الفندق توجهت مع "ليليان" لبيت محاسن، وقررنا توضيح المخطط الذي رسمناه ونفذناه لكي تكون معنا في الصورة، خاصة انها ستقيم دعوة عشاء على شرف والد "ليليان".

عند وصولنا الشقة، فتحت محاسن الباب وقلت لها:

- اهلا وسهلا محاسن... كيف حالك.

- الحمد لله ... لكن يا شباب، ارجو ان تشركوني معكما في الموضوع لأني سأقوم بعد الغد بدعوتك ووالد "ليليان" للعشاء ... اريد ان افهم. هل ما حصل هو مجرد صدفه!!؟

- قبل كل شيء، ارجو إضافة ابي وامي للمدعوين فانهما وصلا اليوم الصباح.

- لا اصدق. الحمد لله على حضورهما وانا سعيدة جدا ... هذا تدبير رباني ... لكن لا افهم حتى الآن ولا اصدق ان تلعب الصدف هذا ابدا.

- لك ألف حق يا عزيزتي محاسن. حان الوقت لأخبرك بالحقيقة ... انه المخطط الذي قمت به مع "ليليان" قبل أسبوع، والحمد لله نجح تماما في هذا اليوم كما رسمناه. كان المخطط كما يلي: -اكد والد "ليليان" حضوره الي بيروت اول امس الثلاثاء. وقبل وصوله كان على "ليليان" الرجوع الي حجرتها معك تحسبا لمقابلة والدها. من جانبي تفاهمت أيضا مع الوالد علي ان يحضر يوم الأربعاء لمناقشة زواجي، أرسلت له أيضا التذاكر خوفا من تغيير رايه، او تغيير ميعاد حضوره لانشغاله المستمر بأمور الامن في السودان. وأيضا أكدت له الحجز. قمت بحجز جناح لكل منهما وفي نفس الفندق "بيروت هيلتون". بالإضافة الي ذلك نشرت اعلان مدفوع الاجر بالصفحة الأولى في جريدة النهار نصه كما قرأه عليك الحاج الشاهر وهو داخل سيارتك اذ وضعت ليليان عنوة صحيفة النهار بجانبه في المقعد الخلفي.

وضعت محاسن يداها على رأسها من الدهشة وقالت بأعلى صوتها:

- يا لكما من دهاة ... انها حبكه محكمة وذكية للغاية ... فهل نبارك!!!؟

قالت "ليليان":

- عليك يا محاسن بزغرودة كبيرة... لقد وافق ابي. وأيضا وافق اباه. حقيقة اننا انتزعنا موافقتهما الاثنين بدون عناء وتسويف وتأجيل. استعملنا نظرية مواجهة الخصمين وغياب نصف المعلومة عن كل منهما.

أطلقت محاسن زغرودة دوزنت اركان الشقة وضمت "ليليان" الي صدرها فرحا، وباركت لنا واتصلت فورا بالأستاذ بكري الجعلي وقررنا ان نتقابل سويا معه بمطعم اريج المجاور لشقة محاسن للمباركة وتكريم الزوار.

حضر الأستاذ بكري متأخرا كعادته. وعندما سمع من محاسن تفاصيل قصتنا، قال ان هذا المخطط هو صميم ما يقوم به المحامي في المرافعات. امتلاك المعلومة والادلة من الخصمين واستعمالها في المرافعة امام القضاة للحصول على الحكم النهائي. منتهى الذكاء يا دكتور وألف مبروك. اقترح ان يتم التكريم بفلتك يا خالد مساء الغد. وخير البر عاجله. و"ليليان" تستحق كل خير لصمودها المدهش.

بعد خروجنا من المطعم ومواصلة خطتنا المشتركة، رجعت "ليليان" مع محاسن الي حجرتها ومن تلفونها الخاص اتصلت بوالدها وطمأنته حسب طلبه بعدم تفشي محتويات الرسالة لأي حد، والاطمئنان للسيد اللواء إبراهيم ومكاشفته. وأضافت من عندها "وكي لا يكون هنالك حرج، يستحسن اخطاره مبدئيا بقبول فكرة الزواج".

قمت بدوري بالذهاب الي الفندق وطلبت الوالد ومعه امي، في جولة حول بيروت. اعتذر الوالد وقال انه معزوم للعشاء مع السيد الشاهر، ولو لا ذلك لرافقنا ايضا. استشفيت من كلام ابي ان رسالة "ليليان" لأبيها قد قامت بمفعولها. وبما ان قصدي هو اشراك امي في معاينة فلتي وتحقيق امنيتها في مقابلة ليليان، اخطرت ام محمد ومسيلة بتحضير عشاء فاخر وتحضير حجرة في الطابق الثاني لاستقبال امي.

عند وصولي للفلا وجدت السائق “ابو أياد” قد رجع من غزه، واسيته وترحمت على زوجته المتوفية بالسرطان. وبدون الاطالة معه في اموره الخاصة طلبت منه الإسراع واحضار "ليليان" من شقة محاسن. في المدخل استقبلتنا ام محمد بالترحاب الحار وقدمت باغة من الورود لأمي، واخذتها لحجرتها المعدة بالذوق السوداني. تفوح منها رائحة بخور الصندل المختلطة برائحة النرجس والورد الجبلي.

لم تتمالك امي فرحتها وأطلقت زغرودة سودانية طويلة بجانب زغرودة السيدة مسيلة ام "ماجدولين" وزغرودة ام محمد. وضمتني امي الي صدرها بالفرحة الصادقة وجلسنا في السفرة المعدة حول حوض السباحة. طلبت من ام محمد ومن مسيلة الجلوس معنا على الطاولة تكريما لأمي. واستمعت امي بالتفصيل من مسيلة قصة ابنتها "ماجدولين" ومن ام محمد قصة موت زوجها في السجون الإسرائيلية وكيف عوضها الله بمعرفتي ومعرفة "ليليان" وهي تخدمنا.

وصلت "ليليان" بعد نصف ساعة. وهي في الفستان الابيض الذي اشتريناه بمناسبة زواجنا المدني. صفت شعرها الأشقر مسدلا من الامام يكاد يغطي صدرها، ومن خلفها وصل الي خاصرتها. عيناه تشعان بالفرحة والامل والإرادة. ارتمت على صدر امي وعلى رموشها دمعات الفرحة وحرارة اللقاء. جلست ملتصقة بأمي وهي تحتضنها وزغاريد ام محمد ومسيلة تكسب الجلسة روح البهجة والفرح.

استمرت امي تردد "عروس السرور يا خالد" الله يتمم ليكم وهي تمرر يدها على شعر "ليليان" باستمرار وتتمعن بدقة في عيونها الزرقاء. قالت امي ل “ليليان" بانها ستفرح بها هنا في بيروت وفي الخرطوم وفي الدامر. وأنها هي شخصيا من تضع على يدها الحناء.

بعد لقاء مدهش ومفرح استمر لنصف الليل، تأكدت ان اعجاب "ليليان" بأمي صادقا، وهي تودعها بالأحضان بعد العشاء راجعه الي حجرتها في شقة محاسن. وفي طريقي لتوصيلها للسيارة قالت لي:

- أتمنى ان ارزق بنتا منك تشبه أمك. انها جميلة حقا.

- حبيبتي ليليان، امامنا مشاوير ومهام ضخمة قبل ان نفكر في الانجاب.

- انسيت يا خالد ليلتنا!!؟ من السابق لأوانه، ان قلت لك انني اشعر بحمل.

- لا اصدق ... ماذا تقولين يا ليليان وامامنا عقبات لا يعلم بها الا الله.

- بعد كل ما حصل بيننا ... تقول هذا يا خالد!!؟

- لا ... لا يا ليليان والله سأقف معك ولو على جثتي. واتمنى ان يكون الحمل حقيقة ... لكن لا اعتقد.

- لنرى يا حبيبي بعد أسبوعين سأعرف ... أمس على خير ولنكن على أهبة الاستعداد ليوم الغد امام ابي واباك.

- عندي خطة ليوم الغد.

- ماهي يا خالد!!!؟

- غدا يوم الجمعة ... ما رأيك في اصطحاب محاسن معك لزيارة ابيك في الفندق، على ان يكون لقائكم جميعا في مقهى الفندق على الدور الارضي. وبعد وصولك بنصف ساعة، سأحضر مع امي للفندق أيضا لنفس المقهى، ونترك الأشياء على طبيعتها.

- فكرة رائعة وتتمة للخطة الاصلية يا خالد. والى اللقاء غدا.

- النصر لنا انشاء الله.

بدلا عن التوجه الي السيارة التي كانت تنتظر ليليان على باب الفلا مباشرة، جذبتها بلطف ودخلت الحديقة معها، ومن خلف شجرة اللافندر التي تفصلنا عن الباب، قبلتها وضممتها الى صدري في صمت لدقائق ثم اتجهت معها لباب السيارة وانطلقت مع "أبو اياد".

بعد انصراف الجميع جالست مع امي حول المسبح. قصيت عليها تفاصيل تعرفي على "ليليان"، وكيف تم شراء الفلا بمساعدة بكري. تكلمنا عن محاسن ومساعداتها لليليان ولي ايضا. لم أبخل على امي في توضيح قصة التخطيط لحضور ابي ووالد "ليليان" في نفس الأسبوع وفي نفس الفندق. ولكن لم أخبرها برسالة ابي المسجلة ولا رسالة السيد الشاهر لابنته "ليليان".

لم تخفي أمي فرحتها بعد التعرف على ليليان، بل وضعت خطط فورية لعرسي على ان يكون في منزل كبير لنا في امدرمان اشتراه الوالد بجوار منزل اهل محاسن بحي المسالمة. فهي لا تريد عمل العرس في منزل الحكومة بالخرطوم. وبدلا من ان تطلب منى ترميم المنزل وتحضيره لحسابي، قررت بيع ذهبها الخاص والصرف على المشروع.

امي الحبيبة في حساباتي هي الأكبر والأهم في حياتي، وتأتي بعدها ليليان ثم بقية الاسرة. لم ارفض خططها العاجلة، جبرا لخاطرها الذي يتوج حياتي. قررت ان أخذها غدا للبنك واعرض عليها مجوهرات محمد خميس لتنتقي منها ما تريد واضع المقابل نقدا لصالحه. هي تعرف ان لي من المال ما يمكنني من شراء قصر في السودان، لكن بصمتها كأم هي ما تريد ان تغمرني به لتفرحني وتفرح نفسها وعائلتها.

في تلك الليلة المباركة، جربت امي حمام الجكوزي لأول مرة بمساعدة ام محمد ونامت نوما هانئا. بعد الإفطار الذي أصرت ان تضع بصماتها المطبخية عليه، جلست بجانبها، وهي تصر على بأكل كل ما طبخته، في ذلك الصباح الرائع.

اتصلت ب "ليليان" للتأكد من الخطة، لكن ردت على خادمة محاسن وأكدت لي ان محاسن وليليان قد اتجهتا للفندق قبل عشرة دقائق. لبست البدلة التي ظهرت بها يوم زواجنا المدني. أصرت امي على بتغيير ربطة العنق الى التي اشترتها في الطائرة من ضمن الهدايا التي احضرتها لي. امتثلت لخيارها الموفق، وانطلقنا الي الفندق حسب المخطط.

كانت الدهشة اذ لم نجد ليليان ولا ابوها ولا محاسن. وجدت مفتاح باب جناح ابي أيضا معلق مع بقية المفاتيح. قبل ان اسأل، قال لي موظف الاستقبال ان جميعهم ذهبوا الى مستشفى السلام مع السيد الشاهر الذي أصيب بنوبة قلبية صباح اليوم.

رجعت مع امي الي السيارة واتجهنا صوب المستشفى. أشارت لي مسؤولة الاستقبال الى حجرة العناية المركزة بعد سؤالي لها عن السيد الشاهر. يا للهول ... نفس المكان الذي كانت فيه ليليان قبل اسبوعين. شعرت بالدوران وانا اركض امام امي وبذاكرتي رعب ذلك.

يتبع______7 

اليوم المخيف. وجدت ابي ومحاسن في باب غرفة العناية المركزة، وقبل ان انتهي من سؤالي لهما وصلت امي وسلمت على محاسن بالحضن وهي لا دراية لها من قريب او بعيد بالموضوع. تركتهم سويا وليست هنالك سابق معرفة قوية تربط ابي وامي مع محاسن.

لم انتظر. دخلت منزعجا للغرفة بدون استئذان. حاولت الممرضة منعي. لم امتثل حتى تدخلت ليليان. كان السيد الشاهر في غيبوبة كاملة. وقفت بعيدا ولبست مثل ليليان سترة معقمة. ظلت ليليان ممسكة بيد ابها، وعيونها دامعة أشعرتني بان مخططنا الذي جاء بوالدها الي بيروت كان قاتلا. شعرت بان السحر قد انقلب على الساحر. يا للهول لم أستطع الكلام مع ليليان. لا اعرف التفاصيل. خرجت من الحجرة ووجدت ابي وامي وأيضا محاسن صامتون كالأموات. فقال ابي

- الم تعرف شيئا يا خالد!!؟

- لا يا ابي ... ماذا حصل في الفندق؟

- كنت جالسا مع السيد الشاهر في مقهى الفندق نشرب القهوة. قبل القهوة تناول الشاهر حبة اسبرين امامي وكان عادي جدا. وفجأة وقع على الأرض. قمت بدوري ببعض الإسعافات الأولية وطلبت مساعدة إدارة الفندق. قامت ادارة الفندق باتصال هاتفي حضرت بعده ابنته ليليان ومعها السيدة محاسن. وصل الإسعاف في عشرة دقائق وكان لابد لي من مرافقته. كانت ليليان متماسكة وقوية تتصرف بوعي ودرأيه. في الإسعاف قال الطبيب انها جلطة.

قالت امي:

- الله يستر عليه ويستر علي بنيته الطيبة دي.

قالت محاسن:

- والله دي عين ... الله يغطي على دكتور خالد وعلي ليليان وانشاء الله ابوها يطلع بخير من المستشفى.

بعد عشرة دقائق خرجت ليليان والحزن يغطي وجهها المحمر سلمت على امي بالحضن واتجهت لابي وسلمت عليه بأدب واحترام وقالت:

- اشكركم جميعا على المساعدة. فأبي يحتاج لعملية قلب مفتوح وتجديد شرايين. العملية ستبدأ فورا فهو الان تحت البنج الكامل. انا سأظل في المستشفى معه حتى انهاء العملية. ارجوكم ترتاحوا وترجعوا للفندق.

قال والدي وأشار الى بيده:

- خليك مع ليليان والله يصبرها وعمك الشاهر يحتاج لمساعدتك. لا تتركه وحده.

قالت امي:

- ربنا يشفي ابوك ليليان يا بنتي... وخالد واقف معاك وانشا الله العملية تنجح يا رب.

قالت محاسن:

- ربنا يجيب العواقب سليمه يا ليليان. ساظل معكم يا دكتور خالد.

اخذ السائق امي وابي الي الفندق. رجع مرة أخرى واخذ محاسن، بعد اصراري وإصرار ليليان على رجوعها لشقتها، لان ابنتها هاديه تحتاجها.

ونحن في انتظار العملية، ظللت ممسكا بيد ليليان. كالعادة كانت ليليان قوية ومنطقية في توقع اسوء الاحتمالات. من جانبي كنت حذرا في الكلام عن أي توقعات سيئة واستمريت في الدعاء والتمنيات امام ليليان بشفاء والدها.

طلبت إدارة المستشفى من ليليان توقيع أوراق رسمية بالموافقة على العملية. وطلب منى أيضا التوقيع كشهود. وعندما اطلعت سكرتيرة المستشفى على هوية ليليان وعلى هويتي وجدت في سجلاتها حادثة محاولة انتحار باسم ليليان. اخذت الأوراق لمدير المستشفى الذي طلب مقابلتنا. وقال لليليان:

- تفضلي مدام ليليان ... انشاء الله ستتم العملية بخير وتطمئني على والدك.

- انشاء الله.

- سيده ليليان، مجرد صدفه وجدت عندنا في سجلات الحوادث ما يوضح أنك تعالجت عندنا قبل أسبوعين في حادث تسمم وا...!! ارجو ان تكون معاملة الأطباء والممرضين كانت طيبة.

- شكرا يا دكتور ... كانت جيدة جدا.

- لكن لم ترجعي لنا لمراجعة وضعك الصحي بالرغم من ان البيانات تتطلب حضورك هنا بعد أسبوع من خروجك... وانت ما شاء الله طالبة طب. لو تكرمتي، بعد عملية والدك سنقوم باللازم نحوك، ونتأكد من صحتك ونقفل الملف نهائيا.

- لا مانع يا دكتور. ولك الشكر.

التفت مدير المستشفى نحوي. كان في عمري ويبدو انه ليس طبيبا وربما يكون ابن صاحب المستشفى وقال بتهكم:

- يا خالد بعد توقيعك الرجاء تحرير شيك بمبلغ خمسة ألف جنيه استرليني عبارة عن تكاليف العملية للسيد الشاهر والد زوجتك. وانشاء الله كل شيء يتم بالسلامة.

- حاضر يا دكتور ... دعني احضر دفتر الشيكات من السيارة.

خرجت من مكتب مدير المستشفى واحضرت دفتر الشيكات، وقبل ان احرر الشيك قالت ليليان وهي في حالة من الغضب الواضح الذي حاولت إخفاءه. ومدير المستشفى ظل صامتا في الكرسي:

- لا تكتب الشيك الان يا دكتور خالد.

- لماذا يا ليليان العملية ستتم الآن.

- لا تكتبه وسأخبرك بعد العملية.

خرج مدير المستشفى مسرعا قبل خروجنا من مكتبه بطريقة لم افهمها. توجهنا الي حجرة العملية وسمح لنا بالمشاهدة من خلال شباك زجاجي صغير. اخذت العملية ثلاثة ساعات. خرجت الممرضة لتبشرنا بنجاح العملية. طلبت منا الانتظار لساعة، لحين عودة الوعي الكامل لوالد ليليان. طيلة تلك الساعة لم تتكلم ليليان كلمة واحدة. كانت واجمة اشعرتني ثمة شيء حصل في مكتب مدير المستشفى. لكن تفكيري توقف عن التجميع تماما. انصب في شيء واحد، هو ان يخرج والد ليليان سليما من العملية.

بعد مضى ساعة وربع، سمح لنا بالدخول. وقفت ليليان علي يمين السرير الذي يرقد فيه والدها. وقفت انا من خلفها عندما فتح السيد الشاهر عيونه لأول مرة. قالت ليليان:

- بابا ... بابا ... الحمد لله على سلامتك.

- الحمد لله يا بنتي ... اين السيد اللواء إبراهيم وأين الدكتور خالد.

- معي هنا الدكتور لكن طلبت من السيد إبراهيم وزوجته الرجوع للفندق للاستجمام كانوا معنا لآخر لحظة.

تقدمت خطوة نحو السرير الذي يرقد فيه السيد الشاهر. وأصبحت محاذيا لليليان وقلت:

- سلامتك يا حاج ونحمد الله على نجاح العملية.

- ولله الحمد والشكر. يا ابني الدنيا ما معروفه. خليك حريص على ليليان وربنا يوفقكم. ابوك وقف معانا في اعمالنا وساعدنا بما فيه الكفاية. وله احترامنا وتقديرنا يا دكتور.

- اطمئن يا حاج بأذن الله ليليان ستكون معي في الحفظ والصون.

عندما سمعت ليليان ما قاله ابوها ضغطت على يدي بشدة كأنها تريد ان تقول "يس" للمرة الثالثة وتؤكد نجاح مخططنا، وهمست لي ان الممرضة في انتظارها لتحليل الدم الذي تجاهلته سابقا. تركتني مع والدها الذي استرسل في الحديث عن نفسه ونجاحاته، وهو الوحيد الموزع لشركات الاقمشة اليابانية والصوف الإنجليزي. وله فروع في بورتسودان وشندي والدامر والأبيض بجانب الفرع الرئيس في الخرطوم. وهو الوحيد الذي يفوز بعطاءات وزارة الداخلية بمباركة ومساعدة والدي في توريد الملابس والمستلزمات السنوية.

بيني وبين نفسي أتساءل، كيف يستوي ما قاله هذا الرجل المنافق في رسالته لليليان وما يقوله لي الآن!!!. مجتمع يعيش على الكذب والشكليات والظواهر.

رجعت ليليان بعد ربع ساعة ووقفت معي بجانب السرير. استمرينا في تبادل المجاملات مع ابيها. فجأة حاول والدها رفع رأسه من السرير ليقول شيئا هاما. اسرعت ليليان وامسكت رأسه وارجعته الي مكانه وهو ممسك بيدها وقال:

- ليليان أسرعي واحضري حقيبتي الخاصة من الفندق. هنالك أشياء هامة اريدك ان تعرفيها. المقدر ما معروف.

- ابي ارجوك ان ترتاح ولا لزوم لي أي معلومات الان. صحتك هي الأهم.

- لازم وانت عارفه ما عندي غيرك. اخوك دروش مع الإسلاميين السلفيين وخلانا. وما معروف وين. احضري حقيبتي الآن.

اشرت من جانبي الي ليليان ان تأخذ سيارتي والسائق منتظر في باب المستشفى. طلبت منها ان تخطر والدي في الجناح 12 ليحضر معها. قبلت ليليان الفكرة وذهبت الي الفندق واحضرت حقيبة والدها وحضر ابي معها.

جلس والدي على كرسي بجانب سرير السيد الشاهر بعد ان حمد الله على نجاح العملية. انشغل ابي وأبو ليليان بالحديث والذكريات، وانصرفت انا وليليان جانبا نراجع وقع الاحداث المتلاحقة. قلت ليليان:

- دعيني أسلم الشيك لإدارة المستشفى. ارجو الا يكون قصد ابيك بإحضار حقيبته الخاصة هو دفع تكلفة المستشفى. لا يا ليليان انا سأقوم بدفع كل التكلفة.

- حبيبي خالد انا اعرف كرمك وشهامتك ومقدرتك، لكن لا تتدفع الأن. ننتظر ليوم الغد ومقابلة المدير شخصيا.

- امرك يا ليليان. اشعر بشيء لا اعرف.

- سأخبرك حبيبي. نحمد الله ان الأمور تسير من أحسن الى أحسن.

قبل ان أرد على ليليان، اقبلت علينا الممرضة وهي تحمل أوراق في يدها وقالت:

- نتيجة فحص الدم تمت. ليس هنالك تسمم ابدأ. لكن وضحت التحاليل شيء آخر ابشركم به. مبروك يا مدام ليليان، فانت حامل.

- نعم ... انا حامل!!!؟

- هذه هي النتيجة وألف مبروك.

استلمت الأوراق من الممرضة بين المصدق والمكذب. وقع المعلومة كان مفاجأة لم اتوقعها رغم ارهاصات ليليان السابقة في موضوع الحمل. كان لابد لي ان أقول شيء لليليان التي ظلت صامته وممسكة ببطنها وتنظر اليها:

- مبروك علينا يا ليليان ... الحمد لله ان المعلومة وصلت الينا لوحدنا دون علم ابي وابيك.

- كنت امزح معك في موضوع الحمل. فها هي الآن حقيقة. ماذا نفعل يا خالد. ابي مريض الان ودراسة الجامعة ورعاية امي اهلي!!!؟

- لا تهتمي يا ليليان ... ما دامت لنا المقدرة في حل عقد الاخرين، فهذا الموضوع مقدور عليه. لنترك الموضوع بيننا يا حبيبتي.

انتحيت مع ليليان جانبا بعيدا عن رؤية ابي وابيها وضممتها الي حضني بحنية. وقالت بعفوية:

- اعمل حسابك يا خالد لا تضغط على ابنتي. أحبها ان تكون شبها لامك الجميلة اليس كذلك!!؟

- بأذن الله ستكون أجمل طفلة او طفل في الوجود. تصوري لو كنا بجانب سرير ابيك وسمع الخبر من الممرضة!!

- أي نظرية خلقت هذه الظروف يا ربي هل هذا حلم ام علم!!؟

- ان قصتنا يا ليليان تذكرني بملحمة جلجامش الأسطورة السومرية التي دونت على الواح من الطين قبل ستة وعشرين قرن قبل الميلاد.

- اترك الاساطير جانبا يا خالد. ماذا يقول ماركس في كتابه رأس المال عن هذا الوضع الذي نحن فيه. ما اعرفه انا. الإسلام يأمر برجمنا سويا. يا الاهي.

نده لي والدي، وطلب استعمال الحمام. ذهبت معه خارج الحجرة، وتركت ليليان مع ابيها وحقيبته لاتزال بيده. بعد رجوع أبيي من الحمام، طلبت إدارة المستشفى مقادرة الزوار. ودع ابي السيد الشاهر كما ودعته انا ايضا. حاولت ليليان ان يسمح لها بالمبيت مع والدها، لكن قوانين المستشفى لا تسمح. ودعته أيضا ليليان وسلمها حقيبته الخاصة، وطلب منها مراجعتها.

خرجنا من المستشفى واوصلنا والدي للفندق وتوجهنا سويا الي الفلا. كانت ليليان مرهقة بصورة انها نامت على كتفي وهي في السيارة. تمكن منى العناء أيضا، ولكن ضخامة الاحداث جعلتني متيقظا استعرض وقعها على ليليان ووالدها، بجانب مسؤوليتي التي بدأت تتضخم بشكل غير متوقع بحمل ليليان.

أيقظت ليليان ونحن عل باب الفلا. دخلنا الحمام سويا وساعدتها في اخذ دش دافئ ونشفت شعرها وصدرها بلطف وحنية ووضعت يدي على بطنها الضامرة وقلت:

- ارتاحي على يدي ابنتي الجميلة.

ضحكت ليليان وانقشعت الهموم والاحزان عن وجهها الملائكي وبدت كالوردة التي تقبل شمس الصباح. حملتها على بشكير كبير ووضعتها في السرير. طلبتها ان تنام من عناء ما جري من صباح هذا اليوم. لكنها بعد الشور الدافئ استعادت حيويتها مرة أخرى وقالت:

- اريد اكل جبن مع عيش. انا جوعانة يا خالد وانت لم تأكل أي شيء من الصباح.

- حقا ... هيا بنا للمطبخ.

دخلنا المطبخ ووجدنا ام محمد قد اعدت المائدة كالعادة تحسبا لحضورنا. احضرت ليليان حقيبة والدها معها، وبعد العشاء بدأت في تفقد محتوياتها كما طلب منها.

أخرجت ظرف به كمية من الجنيهات الإسترليني.

حسابات والدها في البنك الفرنس اللبناني توضح وديعة بمبلغ ثلاثمائة ألف جنيه إسترليني

حساب جاري به خمسمائة وسبعون ليرة لبنانية.

البنك العثماني الخرطوم حساب جاري نصف مليون جنيه مصري.

بنك طوكيو المركزي حساب جاري بالإسترليني مئتين ألف جنيه.

بنك مصر مئة ألف جنيه مصري.

فتحت الظرف وجدت به مئتين جنية إسترليني. رفعت ليليان راسها بعد المراجعة "وضحكت" وقالت لي:

- يبدو لي ان ابي يا خالد اغنى من حكومة السودان.

- اعتقد ذلك ما شاء الله على والدك من المؤكد انه كان يعمل بجد.

- لابد من اخطار امي بما حصل ولا بد من تحديد مكان اخي ليعلم بوضع الوالد ... الاعمار بيد الله. وماذا افعل إذا رحل والدي عن الوجود.

- لا ... لا يا ليليان ابوك بخير الان بعد العملية. علينا الاتصال بخالك وتوضيح ما صار اليوم، وبدوره يمكن اخطار أمك بطريقته. اما اخوك فسأعمل المستحيل مع مكتب الاستخبارات في القاعدة ليساعدونا في تحديد مكانه وعنوانه.

رديت على التلفون وكانت محاسن:

- الو

- اهلا محاسن

- طمئني يا خالد كيف حالة الحاج الشاهر؟

- الحمد لله العملية تمت بسلام ... اترك ليليان لتكلمك.

استلمت ليليان سماعة التلفون:

- حبيبتي محاسن الحمد لله كل شيء على ما يرام. لم يسمح المستشفى لي بالمبيت لكن تركناه بأحسن حال.

- الحمد لله رب العالمين ... ربنا يطمئنك يا ليليان. بالله ارجوك مروا على الصبح عشان أزوره.

- انشا الله ... كيف هاديه.

- بخير لكن لم تعد تحب الذهاب الي المدرسة.

- اكيد ستحب المدرسة يوما ما. لا تخافي عليها ... كلنا كنا مثلها... كان وبها ... لك الشكر حبيبتي محاسن.

حرصت على ان تنام ليليان بعد تعب هذا اليوم العاصف، خاصة وهي الآن حامل. تحسبا لقيامنا في الصباح وزيارة والدها في مستشفى السلام، تركتها في حجرة النوم ونزلت لمكتبي في الدور الأرضي لمراجعة برنامج عملي في الجامعة والانتهاء من ترجمة طلبها المركز الامريكي لمقالة كتبت في الاهرام المصرية "حرب البترول". اتصلت أيضا بمحمد خميس في الصومال ولم اجده في المستشفى. اتصلت بالأستاذ بكري لمعرفة ما تم في موضوع محمد، فقرأ لي على التلفون التقرير التالي الوارد من مكتب المحامي عبدي حرسى:

- " الي حضرة الأستاذ المحامي بكري الجعلي، بعد التحريات التي قام بها مكتبنا بالتعاون مع النيابة والشرطة، اتضح ان ابن عم الانسة حليمة، كان هو المتهم الأول وتم اعتقاله واعترف بجريمته من منطلق الدفاع عن الشرف، مدعيا ان حليمة خطيبته لكنها خرجت عن الطوع وبدأت الارتباط بشخص أجنبي وهو المجني عليه "محمد خميسط" وبما ان الطعنات كانت قاتلة والقصد منها موت المجني عليه. والتقرير الطبي اثبت ان احدى الطعنات اتلفت الكلية اليمنى للمجني عليه. نحن هيئة الدفاع نطالب نصف دية لصالح المجني عليه، وقدرها سبعين بعيرا. الرجاء ارسال مبلغ ألف جنيه إسترليني لحساب القضية لحين النطق بالحكم. وحسب اتفاقاتنا السابقة سيكون نصيب مكتبنا عشرون المئة من مجمل الدية بعد خصم الرسوم والمصارف الإدارية. مع شكرنا والله الموفق. المحامي عبدى حرسي.

- شكرا أستاذ بكري على مجهودك. سأرسل لك شيك بالمبلغ مع السائق غدا. يعنى ذلك ان محمد الان بخير ونتوقع وصوله هنا في الأسبوعين القادمين!!؟

- نعم يا دكتور إذا سارت الأمور بشكل طبيعي. ألف سلامه على أبو ليليان. اخبرتني محاسن بالموضوع.

- نعم وسنكون جميعنا غدا ومعنا محاسن في المستشفى. هنالك موضوع مهم جدا وهو ان الحاج الشاهر سلم ابنته ليليان أوراق اعمال ومستندات وحسابات البنوك التي يتعامل معها وهو طريح الفراش في المستشفى. فلا انا ولا ليليان لا نعرف ما هي الصفة القانونية التي يمكن ان تترتب على ليليان بهذه المسؤولية الضخمة. للرجل ارصدة ومدخرات مالية تفوق المليونين جنيه إسترليني.

- يا دكتور مرت علينا مثل هذه الحالات. الموقف يدل على ان الحاج الشاهر له شعور بدنو اجله وكما تعلم هو فوق الخمسة والثمانين سنة. إذا سلم ليليان المستندات طوعا، معناها تفويض قانوني يجب على الحاج الشاهر التوقيع عليه لصالح ابنته نيابة عنه في كل الجهات التي يتعامل معها. إذا لا قدر الله ورحل قبل التوقيع، فهنالك طريق آخر لكنه أطول ومكلف. وربنا يجيب العواقب سليمة.

- شكرا على المعلومات وسأخبر ليليان بالتفاصيل.

- من جانبي سأخبر أحد العاملين بمكتبي لتحضير التفويض، خاصة ان صور بطاقة وجواز ليليان عندنا في المكتب منذ تسجيل الزواج المدني لكما قبل أسبوعين في مكتب البلدية. وسأرسلها لكم.

- ألف شكر، ارجو الا تفهم ليليان ان الوثيقة طمع منى في أموال ابوها.

- لا اعتقد ذلك يا دكتور. ليليان شابة متفتحة وقوية وواقعية كما عرفتها. لا تهتم فانت لك من المال ما يغنيك عن أي مطامع.

- أمسي على خير أستاذ بكري، والى اللقاء غدا.

بعد انهاء محادثاتي التلفونية وارسال الترجمة بالفاكس الي المركز الأمريكي، صعدت للطابق الثاني ودخلت لحجرة النوم بحذر شديد، خوفا من ازعاج ليليان وهي تغط في نوم عميق. تسللت الي السرير دون ازعاج. كان نومي متقطعا وانا استعرض شريط مزعج من تراكم الاحداث وضخامة المسؤوليات امامي وفوق كل ذلك، ليليان حامل.

في الصباح فقت من نومي متأخرا ووجدت ليليان قد سبقتني للمطبخ وهي تراجع محتويات حقيبة ابوها وامامها كوب من القهوة. جلست بجانبها وضممتها الى صدري وقبلتها. شرحت لها ما دار بيني وبين الأستاذ بكري. وجدتها على وفاق معي. وبعد خمسة دقائق جاءت ام محمد وهي تحمل الوثيقة التي أرسلها الأستاذ بكري مع سائقة إسحاق حسب اتفاقنا ليلة البارحة. قرأت ليليان الوثيقة وقالت:

- هذا منطقي يا خالد، لكن يصعب على ان أقدمها لوالدي، ماذا يقول!!!؟

- انا مدرك لموقفك يا ليليان. مادام هذا شعورك، ليس من الضرورة ان تقدميها له، وربنا يحفظ ابوك.

- ادعو الله ان يظل ابي بصحة جيدة وعمر أطول ليرى ابنتي الجميلة القادمة.

تلمست بطن ليليان الضامرة من تحت روب النوم وقبلتها وقلت:

- انشاء الله.

رجعت ليليان الي حجرة خزانة الملابس لتحضير نفسها للذهاب الى المستشفى وجلست لوحدي في المطبخ اتناول قهوتي التي أعدتها ام محمد. يرن التلفون وكانت محاسن:

- الو محاسن

- يا خالد أسرع ولا تكلم ليليان بالتفاصيل. اتصل المستشفى الآن برقم ليليان الخاص، ويقولون ان الحاج الشاهر حالته متأخرة جدا ويريدون حضور ليليان فورا.

- لا حول ولا قوة الا بالله ... ما هذا الخبر!!!؟ فورا سأكون في المستشفى.

- انا سأحضر بسيارتي.

- مع السلامة وربنا يستر.

دون اخطار ليليان بالخبر، لبست بسرعة. خرجنا سويا للبوابة حيث انتظرنا السائق. احضرت ليليان معها حقيبة والدها الخاصة. في اثناء المشوار كانت ليليان تتكلم بتردد في موضوع الوثيقة والتي من المفروض ان تعرضها على ابوها. وافقتها بعدم تقديمها لعلمي ان الحاج بحالة متأخرة.

وصلنا واتجهنا سويا لحجرة العناية. تفاجأت ليليان بوقوف الدكاترة حول سرير ابيها لكنه كان صاحيا. عرفت منهم ان حالته تحسنت نسبيا بعد ضخ دم إضافي. رفع الحاج الشاهر يده وامسك بليليان وقال:

- الاعمار بيد الله يا بنتي. احضري ورقة وقلم واكتبي ما امليه عليك.

نيابة عنها احضرت الورقة لأنها كانت في قبضة ابيها. بلغة قانونية رصينة وبسوط محشرج، أملى الحاج الشاهر وصيته وانا اكتب نيابة عن ليليان. كانت الوصية بنفس المعنى الذي صاغه مكتب الأستاذ بكري. بعد الانتهاء طلب قلم للإمضاء عليها، فكت ليليان يدها من قبضة ابيها، وفي عملية ذكية وسريعة وبدون تردد فتحت شنطة ابيها الخاصة واخرجت ختمه الخاص وسلمته الوثيقة المطبوعة والمحضرة من جانب المحامي بكري بدلا عن التي املاها وكتبتها انا بالنيابة عنها. ختم عليها في المكان المطلوب، وبعد ذلك وقع بقلم سلمته له ليليان كان في حقيبته. وقال بصوت متقطع:

- الثلاثة عمارات في سوق الخرطوم مسجلة باسمك، وعمارة الخرطوم بحري وبورتسودان مسجلة باسم اخيك.

- الله يطول عمرك يا ابي، ويحفظك لنا.

- اتصلي بأمك وخبريها اليوم. اخوك الله يهديه ساعديه يا ليليان في الابتعاد عن الخرافات الدينية التي يعيش فيها.

- انشاء الله ... اعدك يا ابي.

- اهتمي يا بنتي بخطيبك الدكتور خالد... انه رجل شهم وكريم ومهتم. وانا اسف على ما قلته عنه واستغفر الله لعله يسامحني.

- نعم يا ابي ... هو بجانبي الآن يستمع لكلامك.

احضر السائق والدي وامي من الفندق. حضرت أيضا محاسن ومعها الأستاذ بكري. في حجرة الاستقبال في المستشفى عرفت امي بالأستاذ بكري وبوالدي الذي يعرفه بكري منذ ان كان طالبا بالجامعة. نظمت الدخول واحدا تلو الآخر لمواساة ليليان ومشاهدة والدها المريض. ظل الجميع يدعون ويصلون لشفائه.

عندما دخلت مع ابي، ووقفنا سويا في جانب السرير، وليليان تقف من الجانب الآخر، بدأ الحاج الشاهر يردد فضائل ابي عليه، وكيف ساعده في توسيع عمله، وتسهيل استيراد الأقمشة لملابس الشرطة، في السودان لكل المناقصات السنوية، التي تطرحها وزارة الداخلية.

لاحظت امتعاض ابي وهو يستمع له، كأن سرا خفيا كان يربط ابي وكيل وزارة الداخلية بهذا التاجر النافذ. لم اهتم كثيرا الا عندما قال:

- سيادة العقيد إبراهيم، يشرفني ارتباط ابنك الدكتور خالد مع بنتي ليليان وارجوك تأخذ بالك منهم، والزمن ما معروف، والاعمار بيد الله.

- يا حاج الشاهر اطمئن وربنا يجيب العواقب سليمة.

يا الله، ابي ينافق وابوها حاج الشاهر ينافق أيضا في هذه اللحظات. يا له من عالم لا يستحى، اين الإسلام وأين الوقار في هذه السن!!؟ لا انتظر الإجابة من أحد. كدت ان أقول للحاج الشاهر: الم تصفني وتوصف ابي بالعبيد أيها المنافق!!؟ في تلك اللحظة كان على ان انافق مثلهم بأضعف الايمان وان اتظاهر بالأدب والزم الصمت.

حتى الخطة التي وضعتها مع ليليان، لمكاسب شخصية، سعينا لها معا وحققناها، هي أيضا نوع من النفاق. يا الله ... مجتمع مسلم ومنافق، لا يعرف الشفافية من غريب او بعيد. بالرغم من نبل ليليان الشفاف، وبالرغم من نبلي المصادم. انا وليليان جزء من نسيج تاريخ كاذب. سكت عليه الذين خلفونا ونحن الآن لا نستطيع السكوت عليه.

ألم نتعلم في الصف الأول من ابجديات الإسلام!! "إذا بليتم بشيء فاستتروا" او "اقضوا حاجاتكم بالكتمان" بدلا عن "إذا بليتم بشيء فتكلموا وابحثوا عن العلاج" او " اقضوا حاجاتكم بالشفافية والوضوح" فليس غريبا في ظل مجتمع كهذا ان تعشعش العنصرية والعبودية مثل التي عاشتها جدتي "مستورة" في حوش جدي الناير مستهانة محقرة ورحلت قسرا ونزع من حضنها طفلها الوحيد وهو ابي.

بينما انا ساهيا اتجول بفكري مستهجنا المجتمع وفهمه الخاطئ للممارسات الحياتية، جذب ابي يدي وهم بالانصراف. اخذته خارج الغرفة واشرت للسائق ان يوصله وامي الي الفندق. امي اعترضت وطلبت الذهاب الي فلتي لكي يراها ابي. وفعلا اتجهت العربة الي حي جونيا. اتصلت بأم محمد لتستقبلهما وتهيئ لهما الطابق الثالث بأكمله.

وفي طريقي بعد المحادثة التلفونية راجعا الي حجرة والد ليليان المريض من مكتب الاستقبال، قابلت عرضا مدير المستشفى الذي تفادى الحديث معي. لم اهتم بأمره وانا مثقل بهموم لا يعلم بها الا الله، لكن تأكدت ان ثمة اساءة عنصرية بخصوصي تفوها بها هذا الغذم امام ليليان. شعرت فجأة بدافع قوي يقودني لمكتب مدير المستشفى لتصفية حسابي معه بدون مشورة ليليان وبدون معرفة الاسباب، اقتحمت بقامتي الفارعة مكتبه وبدون اذن. تب واقفا من الخوف امامي. وتظاهرت بالشر والانتقام، وكأني عرفت من ليليان ما دار بينه وبينها، وقلت له بصوت عدواني أشر:

- لماذا ... لماذا !!!؟

- انا متأسف يا دكتور ... لا والله لم اقصد أي شيء ... تقبل اسفي يا دكتور.

- لماذا اتقبل اسفك !!؟ لماذا تكلم زوجتي بهذا الأسلوب الفج !!؟

- ليس لي ما أقوله أكثر من انني متأسف.

- ان لم يرق لك لوني الأسود، فستعلم من انا الآن. ماذا تريد منا غير دفع شيك

- انا متأسف ولا اريدكم ان تدفعوا المبلغ ارجوك يا دكتور.

- يحق لي ان اصفك بالجبان والحقير والندل ... لا تتفضل على بمالك ... فانا يمكنني ان اشتريك ايه الغذم

في تلك اللحظة دخلت سكرتيرتة، ويبدو انها سمعت صوتي. وامامها بصقت على وجهه وخرجت. بعد خروجي من مكتب المدير، وجدت ليليان في الكريدور تبحث عني. اخبرتها بما حصل. طلبت مني تحرير الشيك واخذته معها واستأذنت مني ودخلت مكتب المدير. ومدت له الشيك، عندما احجم عن استلامه وضعته في الطولة، وقالت:

- انك غذم حقير.

خرجت من مكتب المدير، ودخلنا سويا لحجرة الحاج الشاهر وقد تحسن كثيرا بالمقارنة لوضعه صباح اليوم. قررت ليليان طلب أمها من تلفون المستشفى وتحويل المكالمة الي حجرة ابيها. وفعلا اخبرتها بما حصل واعطت التلفون لأبيها الذي استمر في الحديث،

خرجنا للكريدور ومن فرط التعب جلسنا في اريكة جانبية. بمبادرة من ليليان ناقشنا سويا أسوء الاحتمالات. في موضوع اخوها، قررنا طلب مساعدة المستر "كاسبر" من القاعدة ليوافينا بأخباره عبر الفاكس.

ونحن جلوس، حضرت سكرتيرة المدير، تحمل مظروفا سلمته الي ليليان، ثم انصرفت. كان داخل المظروف نفس الشيك الذي تركته ليليان في طاولة المدير.

قررنا ارسال تذاكر لام ليليان السيدة "ليلي الخاشوقي" ولابنها يوسف ولخالها محمود وزوجته "فتحية" للحضور في طائرة الشرق الأوسط غدا.

ولعدم التفرغ بالنسبة لي ولليليان قررنا إيداع التوكيل الذي أصبحت ليليان بموجبه وكيلة عن ابيها، لدى المحامي بكري لدراسته ومخاطبة البنوك والوكالات التجارية والأسهم نيابة عن ليليان، في تغيير التوقيعات والملكية.

قررنا القاء حجز جناح والد ليليان في بيروت هيلتون وتخصيص الطابق الأول بالفلا له ولزوجته، معهم يوسف ابن ليليان أيضا. اما خال ليليان محمود وزوجته فتحية، خصصنا الطابق الثاني. منذ يوم أمس قرر ابي وامي عدم الرجوع للفندق. وسأكون معهما في الطابق الثالث، ليليان مع ابنها في حجرة واحدة في الطابق الأول ومعها والدها وامها في حجرتا نوم لكل واحد منهما.

تم المخطط بأكمله، واحضر الإسعاف والد ليليان للفلا برفقتنا، ومعه ممرضة خاصة تتابعه أربعة وعشرون ساعة تسكن في حجرة مجاورة له. جلس في المساء كلنا في صالون الطابق الأول نتناول الشاي والمرطبات لنشارك الحاج الشاهر على سلامته. فتحية وزوجها محمود خال ليليان كانا دائما أروع المستأنسين بالنكات والضحك. انا وليليان نشرف على الخدمات المقدمة لضيوفنا وحسن أداء خدم الفلا.

في اليوم الثلث من إقامة الجميع في الفلا، طلبني ابي وهو جالس بجانب الحاج الشاهر وقال:

- يا خالد انا وعمك الحاج الشاهر قررنا مباركة زواجك بليليان.

ثم أردف الحاج الشاهر قائلا:

- يا ابني الله يوفقكم. ليليان امانة في رقبتك وكذلك ابنها يوسف. سامحني فيما قلته في حقك.

تدخلت بكل ادب وقلت:

- مع شكري واحترامي، انا لا اوفق الا بموافقة ليليان أولا. فهل يمكن ان اناديها الان؟

فقال والدي والحاج الشاهر بصوت واحد:

- نعم. دعها تحضر الآن.

دخلت ليليان وهي تعرف ما دار وقالت:

- انا لا أوافق الا بحضور كل الاسرة هنا.

في اقل من خمسة دقائق دخلت امي وفتحيه وام ليليان وهزت الزغاريد ارجاء الفلا ثم دخل محمود واقترح فورا:

- لنقرأ الفاتحة الآن، وألف مبروك.

رفع الجميع أيديهم لله وقرأت الفاتحة، ووزعت ام محمد ومسيلة الشربات على الجميع. الحاج الشاهر، على السرير وبجانبه ام ليليان. ابي وامي يتهامسان بارتياح وهما جلوس على اريكة قريبة من سرير الحاج الشاهر. تركت ليليان في وسطهم ودخلت مكتبي وطلبت الأستاذ بكري ليسعفنا بمأذون شرعي بأسرع ما أمكن. فتحت الخزانة واخرجت الدبل الذهبية المرصعة بالماس التي لبسناها انا وليليان في زواجنا المدني السابق واضطررنا لإخفائها عند زيارة والدي ووالد ليليان.

رجعت لمكاني وجلست بجانب ليليان وكانت دموع الفرح تنهمر من مغلتيها وهي تحتضن ابنها يوسف. قامت امي وأطلقت زغرودة مدوية وقبلت ليليان وقبلتني، ثم تبعتها ام ليليان بزغرودة اخرى. قمت من مكاني وجلست بجانب امي وسلمتها الصناديق المخملية وبداخلها الدبل.

الحالة الصحية التي اقعدت والد ليليان، لم تسمح لنا بأعداد حفل عشاء حول المسبح في السطوح كالعادة. قام متعهد بعمل ما يلزم في حديقة الفلا. حضر بكري ومحاسن ومعهم المأذون. تمت المراسيم ولبسنا الدبل ووقعنا علي عقد الزواج الشرعي بشهادة ابي وشهادة الحاج الشاهر. أحاطت الزغاريد بنا من كل الاتجاهات وخاصة فتحية التي سيطرت عليها الفرحة أكثر منا جميعا.

في التاسعة مساء اضطررنا بحمل سرير الحاج الشاهر الي حجرته، وباشرت الممرضة الفحوصات اليومية والجرعات المقرر له من الطبيب. واصل الجميع الفرح والغناء والرقص بعد وصول صونى وجستن ومريم الصومالية وخطيبها. انا وبكري كنا نشرب سرا مع ضيوفنا خوفا من ابي، في الحادية عشر استأذن ابي وانصرف لحجرته واحلوت لنا الجلسة والرقص والشرب حتى مطلع الفجر. تشاورت ليليان بصوت خافت مع خالها محمود وسألته:

- بعد الفاتحة التي قرأناها جميعنا، هل تعتقد يا خالي اننا إسلاميا زوج وزوجة!!؟

- نعم أؤكد لك ذلك وهذه ليلتك يا ليليان.

- اتقصد ليلة الدخلة.

- نعم ... لك الحرية فيما تريدين.

- اتسمع يا دكتور خالد!!!؟

حان الانصراف وكانت الساعة الثانية صباحا. اقترح الأستاذ بكري ان ارافقه مع ليليان وقضاء بقية الليل في الطابق الثالث بفلته، والمعد أصلا للضيوف. كذلك اقترح جستن وصوني نفس الشيء لكن اعترضت ليليان لأسباب اعرفها. استقر الراي تحت إصرار ليليان ان نذهب لشقتي في نصف البلد، لكن محاسن لفتت نظرها ان عليها التواجد في الفلا ساعة الإفطار على الأقل، وبعد مسافة الشقة لا يتيح ذلك.

استقر الرأي أخيرا ان يظل كل واحد منا في مكانه، وارجاء قصة الدخلة ليوم آخر. ذهبت ليليان ونامت بجانب ابنها يوسف. دخلت مكتبي لمراجعة بعض الأشياء واضافة بعض الفقرات الهامة لقصة جدتي "مستوره" جهاز الفاكس جمع كمية من المواد للترجمة، بدأت في فرزها، وجدت بين الأوراق، رد المستر "كاسبر" من فرع المخابرات بما يخص استفساري عن أخو ليليان فوجدت:

الاسم – ناصر

اسم العائلة – الشاهر

الجنسية -سوداني

تاريخ الميلاد 51 مايو 1940

مكان الميلاد -الخرطوم

الوضع الاجتماعي – متزوج.

التحق بجماعة التكفير والهجرة في بكستان ثم انتقل الي أفغانستان.

وجد مقتولا في معسكر التجنيد.

تاريخ وفاته غير معروف.

صورة من شهادة الوفاة مرفقة.

تطلعت على شهادة الوفاة وشعرت بصدمة بالرغم أنى لا اعرف ناصر ولم اقابله في حياتي. كيف يمكنني نقل الخبر لأخته ليليان ولامه ولأبيه، وهذا يوم زواجي؟ لا مفر من كتمان الخبر على الأقل في هذه الأيام، والجميع ضيوفي ويحتفلون بزواجنا.

في البريد المكتوب وجدت تقرير مرسل من مكتب المحامي بكري بخصوص محمد خميس المتواجد حاليا بمدينة هرجيسة في الصومال، مرسل من مكتب المحامي عبدي حرسي. وصدمت صدمة ثانية وانا اقرأه:

السيد المحامي بكري الجعلي. أورد اليكم التقرير الأول بعد الجلسة الأولى في قضية المجني عليه محمد خميس.

وبما ان القضية تحاكم في المحكمة الشرعية في هرجيسة، فقابلتنا إشكالية قانونية شرعية مفادها:

مقادير ديات النفوس:

1-دية الرجل المسلم الحر: مائة من الإبل.

2-دية المرأة المسلمة الحرة نصف دية الرجل: خمسون من الإبل.

3-دية الكافر سواء كان كتابياً كاليهود والنصارى، أو غير كتابي كالمجوس وعباد الأصنام، نصف دية المسلم: خمسون من الإبل.

4-دية نساء الكفار نصف دية رجالهم: خمس وعشرون من الإبل.

5-دية العبد الرقيق قيمته، أي سعره الذي اشتري به او يحدده السوق، سواء كان ذكراً أو أنثى، وسواء كان كبيراً أو صغيراً.

وعلى ضوء هذه القوانين الشرعية الملزمة، فان المحكمة تنتظر منا صكا مختوما من المحكمة الشرعية في البلد الذي جاء منه محمد خميس يبين قيمته المادية او سعره كرقيق مملوك، من مالكه الشيخ الشمهري.

افادتكم لنا ضرورية لكي نواصل الترافع في القضية.

مع الشكر المحامي عبدي حرسي.

يا للحسرة ... شعرت بعبرة تخنقني، وقصة عميقة جارحة رجحت بكفة النصر الذي حققناه انا وليليان امام اهلي وأهلها ومحت الفرح والبهجة داخل اعماقي. لا اصدق ان الدين قد فرق بين الناس حتى في الممات ناهيك عن الحياة. لابد ان هنالك خطأ ما.

تناولت ملف قصة جدتي بعد ان راجعت بعض الشرائع الدينية الموثقة، وقمت بإضافات جدلية لقصة جدتي "مستورة" تربطها بمعاملة المحكمة الشرعية في الصومال حيال المجني عليه المملوك محمد خميس. بذلك تكون قصة جدتي في بابها الأخير ومجهزة للنشر في نهاية هذا الأسبوع. جلست لمدة نصف ساعة اراجع واتأمل الاحداث البركانية، التي مرت على برامجي في هذا الشهر. تسللت بهدوء الي الطابق الثالث حيث ينام ابي وامي، ونمت متوترا حتى الصبح.

تقابلنا جميعنا في مطعم الطابق الأرضي. امي كانت تراغب الخدم وتدير عملية فطور العريس كما تتبع في العادات السودانية. والدة ليليان كانت طيلة الوقت تتعامل بأدب الضيفة والنسيبة. فتحية كانت المساعدة النشطة لأمي، لم تتوقف عن الطبخ وتحضير الاطباق السودانية الخاصة. والد ليليان بدأ الجلوس على الكرسي المتحرك وبصحبته الممرضة. ابي لا يزال في دهشته وعدم تصديقه لما هو حاصل امامه، لا يتكلم كثيرا ولا يعلق ابدا. خال ليليان "محمود" كان الدنمو المحرك للجميع، كان المشجع لي ولليليان بممارسة حقوقنا المشروعة كعريس وعروس بدون خجل او اعتبار للعائلتين.

اعدت امي اطباق خاصة لي ولليليان واصرت على جلوسنا لصق بعضنا، وبخور الصندل يعطر الجو بعبق يفوح بالفرح والبهجة. شعرت ليليان بعدم تركيزي لكنها استمرت في أداء دورها كعروس دخلت قفصها الذهبي ليلة أمس. اما انا لازال أعيش هول ما علمته عن موت اخيها في أفغانستان، ومأساة قضية محمد خميس. بالرغم من ذلك، تجاوبت مع ليليان بالقدر المستطاع وضممتها بساعدي الايمن بمرأى من ابيها وامها ووالدي. انضم محمود لجانب ليليان الايسر لتشجيعنا على الاكل.

بعد الإفطار دخلت مكتبي على انفراد واتصلت بالأستاذ بكري وأوضحت:

- صباح الخير أستاذ بكري.

- اهلا يا عريس ... أرسلت لك تقرير بخصوص محمد خميس وما تم في الجلسة الأولى.

- نعم وصلني وقرأته. من رأيي ان لا نصعد الموضوع.

- انا اعتقد كذلك لا لزوم للمطالبة بالدية ... وممكن ان يقوم محمد بالعفو عن الجاني ونخرج عن موضوع الدية.

- أخاف ان ترفض المحكمة الطلب مالم يكن صادرا عن الشيخ الشمهري الذي يملك محمد خميس كأحد ارقائه حسب الشريعة. ما يهمني حقا هو حضور محمد لبيروت. حتى شقيقة مريم ليس بالضرورة ان يتزوجها، امامه فرص كثيرة.

- دعني أفكر يا دكتور في الموضوع. لا تهتم، انت عريس ضع همك كله في ليليان.

- ضحكت ... اكيد أستاذ بكري، لك الشكر.

على أبواب عطلة الجامعة وقرب أعياد الكريسمس، اصطحبت ليليان في الصباح الي مكتبي بشعبة الرياضيات لأنهاء بعض الأمور الادارية. في الطريق طرحت عليها فكرة تعيين خالها وزوجته فتحية في إدارة مكتبنا الذي سميناه "الشبكة الدولية لتحرير الرقيق" "Free Slaves International Net” واختصارها "F.S.I.N" " الذي قررنا تأسيسه في شقتي القديمة. استقبلت ليليان الاقتراح بالفرحة ووافقت ان تقوم بنفسها بعرض الوظيفة.

وعلى مبدأ الصراحة المتفق عليه بيننا وعدم كتم الاسرار، ونحن في السيارة بعد تردد، ضممت ليليان بزراعي. بمقدمة موجزة عرضت عليها الوثائق التي توضح موت اخيها في أفغانستان. بكت المسكينة حتى بللت دموع الحزن ملابسها، وطلبت مني الرجوع للبيت. برغم من حزنها العميق، اتفقت معي على عدم اخطار أمها وابيها بالخبر في هذه الايام.

رجعت على الفور معها الى الفلا. وهندمت وجهها وملابسها وسلمنا على الجميع ثم دخلنا المكتب. وجدت رسالة صوتية من صديقي "مايكل جيير". طلب منى تحضير السيدة مسيلا والدة ماجدولين للسفر لأمريكا بعد ان اكتملت كل اوراقها. وأوضح ان مستر كاسبر في القاعدة سيتصل بي لمقابلتها وتسليمها وثائق سفرها. ظلت ليليان صامتة على شجنها في فقدان اخيها. لم أجد الكلمات المناسبة لا ساعدها، لكن دخول خالها محمود وزوجته وفتحيه للمكتب غير المشهد.

يتبع ____8

محمود رجل واسع الأفق ذو تفكير حر وطرفة لا تفارقه، لم يعرف بعد عن موت ابن اخته قال لي بطريقة عفوية وهو يضحك:

- يا دكتور خالد ... من اين لك هذا!!!؟

ابتسمت ليليان وقالت:

- اتريد يا خالي ان تكون لك ثروة أيضا مثل خالد!!؟

- يا ريت ... لقد تعبنا من الكدح والتقشف مع الكادحين في السودان.

- هل تقبل انت وفتحيه في العمل معنا؟

- نعم ... وفتحيه اراها ملت حياة الفقر الذي نعيشه.

ضحكت فتحية وضحكنا كلنا معها، وقالت:

- يا ليليان شوفوا لينا طريقة، لا نملك بيت حتى الان، غير حوش اهلي وعائشين معهم.

تدخلت وقلت:

- يا ريت لو ناس مثلكم وبمستواكم يعملون معنا.

قال محمود:

- نحن على استعداد

فقلت له:

- ستقوم ليليان بعرضنا لكما اليوم. وانا وليليان ممتنون لدعمكم المعنوي لنا والوقوف بجانبنا.

بينما كانت ليليان تكتب العرض على مكينة الطباعة، يرن جرس التلفون وكان المتكلم الأستاذ بكري:

- الو

- بكري معك يا دكتور.

- اهلا ... كنت في انتظار مكالمتك.

- موضوع محمد خميس تمت تسويته وقبلت المحكمة عفوه على الجاني ابن عم حليمة.

- الحمد لله

- الطريف في الموضوع ان والد حليمة وجد في محمد الرجل الأنسب لبنته خاصة بعد ان أعلن عفوه عن الجاني، وبذلك توقع وصوله قريبا بعد انهاء مراسيم الزواج.

- يا الاهي ... رُبْى ضارة نافعة، وانا سعيد بالنتيجة.

- قبل حضوره اقترح ان يُحجز له جناح في الهلتون لقضاء شهر العسل، وبعد ذلك له الخيار مع زوجته في اختيار السكن المناسب لهما.

- فكرة رائعة وسأكون عندك في المكتب غدا للتسوية المالية ... مع الشكر ومع السلامة.

بعد الانتهاء من محادثتي مع الأستاذ بكري، انتهت ليليان من طباعة عقد العمل وسلمته لخالها ونسخة أخرى لزوجته فتحية. لم يصدق محمود ان يكون مرتبه الشهري ألف جنيه إسترليني ومرتب فتحية ألف جنيه أيضا زايد السكن والسيارة. زغردت فتحية وضمت ليليان الي صدرها.

يرن تلفون آخر من بكري:

- الو دكتور خالد ... وصلتني موافقة البنك الفرنسي ببيروت بخصوص تغيير توقيع الحاج الشاهر الي ابنته ليليان. إذا أمكن حضورها فورا لان المدير في انتظار اجراء تغيير التوقيع. وإذا كانت هنالك أي ايداعات تريد القيام بها اليوم.

- لا مانع، دعني اسأل ليليان أولا.

- في انتظارك على السماعة.

اخبرت ليليان ووافقت على المقابلة، واقترحت أيضا اننا في طريقنا للبنك، يمكننا اصطحاب خالها وفتحيه لمعاينة الشقة التي سوف تكون مكان سكن لهما والمكتب المقترح. رجعت لبكري وقلت:

- عفوا أستاذ بكري، لنتقابل فورا في البنك الفرنسي. مسافة الطريق.

ركبنا كلنا مع السائق، واخذت ليليان حقيبة والدها معها، بها مئتين ألف إسترليني ووثائق وسندات مالية. تركنا محمود وفتحيه في السيارة ودخلت مع ليليان البنك. تمت كل الإجراءات اللازمة واخذت دفتر شيكات جديد وبطاقة بنكية جديدة ووضعت المسندات الهامة في صندوق خاص في البنك. اتفقنا مع بكري علي المقابلة غدا للتسويات المالية بيننا وبينه.

توجهنا لشقتي التي ادهشت محمود وفتحيه. قرر محمود انه يمكن ان يبدأ فورا في عمله من يوم الغد. سلمته الملفات الخاصة بمحمد خميس الموجود الان في الصومال قادما من الخليج مسقط رأسه. والسيدة مسيلة والدة مجدلين، وملف الانشاءات التي يقوم بها عمي في السودان وملفات خدم البيت والسائق والعربات والتأمينات.

وقررت ليليان من جانبها تسليم محمود اعمالها التي آلت لها من والدها المريض لإدارتها لكي تفرغ نفسها للدراسة. وأول شيك تحرره في دفترها الجديد ألفان جنيه إسترليني كمقدم لخالها وزوجته فتحية.

رجعنا للفلا وكان الجميع في انتظارنا. امي كانت في منتهى الزعل وقالت لليليان ولي:

- يا أولاد، العريس والعروس فيهم الملائكة ... لازم عليكم الراحة في البيت. لا اريد أحدا منكما ان يخرج من هذه الحجرة بعد اليوم.

اخذتنا امي وتصحبها والدة ليليان الي حجرتنا الواسعة في الطابق الثاني، الحجرة زينت بستائر جديدة وفرش خاص من الحرير. بخور الصندل يسيطر برائحته على الطابق بأكمله. فركة من القرمصيص الحريري غطت سطح السرير الدبل. الزهور تناثرت على طاولات الطابق بأكمله.

قال محمود، اسمحوا لي ان ارجع مع فتحية للشقة. لم أوافق على فكرته، وطلبت منهما البقاء مع المجموعة وأكدت ليليان نفس الشيء. بأمر من محمود تحت إصراره، ليهيئا لنا يوم الدخلة وبداية شهر العسل، دخل السائق وحمل حقائبهما بأكملها. أصبح الطابق بأكمله متاح لنا الاثنين وظل يوسف مع جدته في الطابق الأول. استمرت امي تحاضر ليليان عن واجبات العروس وكيف تجعل من يوم الدخلة بهجة لها ولعريسها. احتفظت ام ليليان ببنتها في داخل الحجرة الثانية والبستها قميص نوم احمر شفاف اختارته من حجرة الملابس الملحقة. قامت بتسريح شعرها وتدليكها بالعطر والصندل.

بعد ساعة انصرفت امي وام ليليان، واقدمت ليليان لحجرة النوم وكأنها نجمة متوهجة نزلت من السماء في تلك الليلة الحميمية. ضحكنا في بداية اللقاء، لكن ليليان تذكرت آخاها المتوفي فبكت ولم تستطع ان تفك جسمها المنكمش ليشرح اطرافه امامي. لها العذر ولم أكن انانيا شبقا ونامت على زراعي بعد تملل طويل على السرير المهول وتغطينا فركة القرمصيص المشبعة بالعطور السودانية.

في الصباح كنا اول من دخل المطبخ. بعدنا دخلت امي متعجبة من سلوكنا وامرتنا بالرجوع الي السرير. لم نرضخ لطلبها وجلسنا معها نأكل ما لذ وطاب من فطور العريس الذي قامت بأعداده شخصيا. حضر الجميع الا والد ليليان. عرفنا من الممرضة ان حالته تدهورت ولا بد من ارجاعه للمستشفى بأسرع فرصة.

قام البواب بطلب الإسعاف الذي نقل طاقمه الحاج الشاهر بمساعدتي. تحركنا بسرعة ومعي ليليان والممرضة. ابي وامي وام ليليان رافقوا السائق، واتجهنا الي مستشفى السلام. زحمة الطريق لم تمكننا من الوصول الي المستشفى بالسرعة المطلوبة، باشر الطاقم اسعفاته الأولية بعناية كاملة، ولكن لفظ الحاج الشاهر أنفاسه الأخيرة، وانا ممسك برأسه. لم تتمالك ليليان نفسها وصرخت بأعلى صوتها "ابي لا تتركنا ابي لا تذهب" الممرضة وطاقم الإسعاف قاموا بكل ما لزم من التدابير في الطريق، ولا حراك للحاج الشاهر. قمت بتغطية وجهه، ودخلت ليليان في غيبوبة كاملة.

وصلنا المستشفى واتجهت مع الممرضة الى العناية المركزة حيث تم التأكد بواسطة الدكتور المناوب من موت الحاج الشاهر. اعتنت احدى موظفات الاستقبال بليليان واخذتها في حجرة لوحدها. بعد عشرة دقائق، وصل والدي ومعه ام ليليان وامي. نقلت لهم الخبر بعناية. لم تكن ام ليليان مرعوبة لشعورها بقرب اجل زوجها منذ شهور. سألتني عن ليليان واخذتها ممسكا بكتفها. بدأت ليليان باستيعاب الحدث وهي أيضا كانت لها نفس شعور أمها. استمرتا سويا في بكاء وحزن وذهول. راودني شعور مفاجئ بالإرهاق اهتزت له عزيمتي وعيل صبري على التراكم المستمر للأحداث. امي لم تكتمل فرحتها بكل اسف. ابي ظل متشائما بوضوح من تعليقاته وضجره المستمر.

حضر الأستاذ بكري ومحاسن. تم اصدار شهادة الوفاة بحضوره وقام مكتبه بكل الإجراءات اللازمة لتحضير الجثمان وترتيب نقله للسودان. اتصلت بمحمود خال ليليان ونقلت له الخبر. لم يكن مستغربا لأنه يعلم الحالات المرضية الصعبة التي مر بها الحاج الشاهر في الشهور الأخيرة. وصفت له عنوان المستشفى وحضر بعد نصف ساعة ومعه فتحية. احتضن أخته وليليان وكان متماسكا في تصبيرهما. فتحية اجهشت في البكاء وهي تحتضن ليليان. اخذ الجسمان للثلاجة وانصرفنا جميعنا الي الفلا بوجوه حزينة وحيرة مؤلمة.

جلس معي محمود في مكتبي، قمنا بالحجز للجميع في مساء نفس اليوم على الخطوط السودانية. قرر محمود البقاء مع فتحية في بيروت لمواصلة العمل نيابة عني وعن ليليان بجانب الاشراف على الفلا اثناء غيابنا. حررت له شيك بمبلغ عشرة ألف إسترليني للتصرف في أي طارئي، وأمرت السائق، وبقية خدم الفلا في التعاون معه. قام محمود بالاتصال ببقية اسرته ونقل لهم الخبر والتحضير للمأتم.

دخلت علينا ليليان في المكتب، بعد ان لبست فستانا اسود وغطت رأسها. تمكن الحزن من وجهها وكأنها هرمت عشرة سنين في ذلك اليوم المؤلم. كانت كعادتها واقعية تتماسك سريعا بعد مرور الفاجعة. أخبرناها بالإجراءات التي قررناها انا وخالها محمود. لم تعترض على شيء بل قررت إضافة اخطار خالها بوفاة اخيها في أفغانستان، وسلمته شهادة الوفاة. وطلبت منه إيصال الخبر الي أمها. ترحم محمود على الفقد وحضن ليليان الي صدره، ولكن طلب ارجاء الخبر الي حين الوصول للسودان وسيرسله في شكل تلغراف اثناء أيام المأتم.

بعد انصراف محمود وليليان، دخل والدي لمكتبي وقام باتصالات مطولة بمكتبه وطلب مقابلة الجثمان بالمطار، وطلب من مدير مكتبه مقابلة الحاج نصار أخو المرحوم الشاهر، والاتفاق معه في صياغة عزاء المرحوم، ونشره في كل من جريدة الأيام والصحافة والراي العام، بمساحة صفحات كاملة بتوقيع عائلة الشاهر، ودفع التكلفة من جانبه.

في التاسعة مساء قام "أبو اياد"، والأستاذ محمود بتنظيم الترحيل الي المطار، وقام مكتب الأستاذ بكري بتخليص الجثمان من المستشفى واكمال الإجراءات القانونية مع السفارة السودانية والمطار. ودعنا خالد وفتحيه وبكري ومحاسن. ركبنا جميعنا في الدرجة الأولى. ليليان بجانب أمها في ملابس سوداء ومعهما يوسف المسكين الذي لم يستوعب الموقف. امي بجانب ابي. جلست في مقعد خلفي لوحدي وشغلت نفسي بكتابة مذكراتي. مر شريط الاحداث امامي منذ جلوسي في نفس المقعد رقم 9 وبجانبي ليليان منذ شهور وتعارفنا وما كان من المفاجئات والخطط والمشاريع وحب وامل وتطلع للحياة وحتى هذا اليوم.

فجأة أحس بطبطبة على كتفي. رفعت رأسي وكانت ليليان تجلس بجانبي وتقول:

- أ تذكر هذا المقعد يا خالد!؟

- آه ... كيف لا اذكره يا حبيبتي.

- ماذا يخبئ القدر لنا !!؟ يا لله. لا طعم للدنيا في هذا اليوم.

- علينا قبول الواقع وعلينا التماسك يا حبيبتي.

- يوم عبوس ... اسرتي العنصرية واسرتك العنصرية سيتقابلان في المطار.

- لا تهتمي فلقد انتهى كل شيء وها نحن الان امام الجميع متزوجان.

- نعم يا خالد ... سنصمد سويا ... عفوا ... سأرجع لمقعدي فلقد أعلن وصول الطائرة.

رجعت ليليان لمقعدها، وربطت الحزام. وصلت الطائرة ونزل الجميع، وكان اللقاء مهيبا. استقبلني اهل ليليان وخاصة عمها نصار بأحسن مما توقعت. بعضهم يبكي والبعض يهنأني ويهنئ ليليان بالزواج. من الواضح ان محمود مهد للقائنا مع اهله بتوضيح كل ما هو إيجابي. ربما طالبهم باحترامي وشرح لهم اثناء وجود المرحوم وزوجته ومواقفي المشرفة معهم. سلم الرجال على والدي بكل احترام واهتمام بصفته وكيل وزارة الداخلية وكنسيب. شعرت ليليان براحة نفسية عندما ضمها عمها وبارك لها ثم ترحم على أخيه.

تم استقبال والدي ببرتوكولات وزارية رسمية، بجانب أصدقاء ابي وعمي أبكر ومعه بعض طلاب الجامعة. توجهت عربة من وزارة الداخلية خاصة لحمل الجثمان وعربات فارهة اخري حملت اهل ليليان واهلي الي بيت المرحوم الضخم المطل على النيل الأزرق. نصبت سرادق كزام وقفل الشارع بأكمله. في الواحدة صباحا، أصر عم ليليان على والدي بالانصراف. اما انا فقد قضيت ليلتي نائما مع بعض شباب عائلة ليليان على الابسطة في السرداق. تم الدفن الساعة التاسعة صباحا بحضور ابي وكبار رجالات وزارة الداخلية ومدير مكتب ابي، بعد ان صلوا على المرحوم في جامع فاروق.

ظل المأتم ثلاثة أيام، حسب عادة اهل ليليان التابعين للطريقة الشاذلية. قضيت الأيام الثلاثة معهم دون انقطاع. في اليوم الرابع كما هو متفق، أرسل محمود تلغراف خبر وفاة أخو ليليان. بالنسبة لي ولليليان كان الخبر عاديا ولكن كان لابد لنا من مواصلة الحزن. اما والدته، اغمى عليها ونقلت للمستشفى بعد سماع خبر وفاة. أشرف عليها أحد زملائي "الدكتور حسن عبيد" اخصائي بمستشفى الخرطوم، وبحمد لله رجعت للبيت في نفس اليوم.

دخل المأتم في اليوم السادس. كنت اثنائها أقوم مع ليليان كل صباح الاتصال بخالها مدير مكتبنا ببيروت. في اليوم السابع اصطحبت ليليان بسيارة ابي الخاصة الي منزلنا بحي المطار. لأول مرة اجلس مع عمي أبكر الذي حضر لمواساتي في وفاة نسيبي ومباركة زواجي في المطار. تعرفت علية ليليان أيضا، واعجبت بذكائه وبالطريقة التي شرح بها ما تم في مشروع "عد الفرسان".

في جلستنا تلك وبحضور عمي اهدت امي لليليان عقدا من الذهب، عرفت انه كان ضمن مقتنيات المرحومة امنه زوجة جدي الناير، السيدة التي تربى ابي على يدها. العقد عبارة عن منظومة جنيهات ماريا تيريزا النمساوي من الذهب عيار واحد وعشرين. برغم أيام الحزن والالم فرحت ليليان بالهدية وتقبلتها بكل حب وامتنان وحضنت امي وقبلتها وقالت:

- انا سعيدة جدا يا ام خالد ولك الشكر على هذه الهدية التاريخية القيمة. ويسعدني ان اعرف عن صاحبة هذه العملة الذهبية، لأني أجهل التاريخ تماما.

قالت امي:

- انا أيضا لا اعرف. اشرح لنا يا دكتور.

فقلت:

- انا والله لا اعرف، فتناول الكلام عمي أبكر وقال:

- كل ما اعرفه باختصار عن صاحبة هذه العملة هي ماريا تيريزا حكمت الامبراطورية النمساوية من العام 1740 ــ 1780، عندما ورثت العرش عن والدها تشارلز السادس، وتزوجت من حبيبها منذ أيام الطفولة فرانسيس ستيفان الذي انتخب كإمبراطور الرومان المقدس. وقد أنجبت ماريا تيريزا من زوجها ستة عشر طفلا أصغرهم ماريا انطوانيت التي اصبحت فيما بعد ملكة فرنسا.

لبست ليليان العقد الثمين، وتجولت معي في حديقة المنزل الكبيرة، وحضرت امي مشروبات باردة وشاي. واثناء تواجدنا حول الطاولة مع امي وعمي أبكر، احضر أحد خدم المنزل التلفون، وكانت مكالمة من بيروت، السيد محمود خال ليليان:

- الو

- اهلا يا دكتور كيف الأحوال وكيف ليليان.

- الحمد لله بخير، كيف اخبارك واخبار المكتب؟

- اتصلت بي سيدة اسمها شرين وقالت انها مديرة مكتب الشيخ الشمهري من الخليج، وتريد مقابلتك لان الشيخ موجود في بيروت ويصر عل مقابلتك.

- الرجاء عدم إعطائها أي معلومات غير إنني خارج بيروت فقط.

- وفعلا هذا ما قلته لها. ولكنها تتصل يوميا لتعرف اين انت.

- لا تهتم بها ولا تقابلها ابدا.

- الموضوع الثاني هو توقع حضور محمد خميس من الصومال مع زوجته حليمة بطائرة اليتاليا الخطوط الجوية الايطالية القادمة من روما يوم الأربعاء أي بعد يومين.

- في موضوع محمد اتصل بالمحامي بكري الجعلي ليقوم باستقباله في المطار بمرافقتك، وهو يعلم بموضوعه. احجز له جناح فندقي خارج بيروت لقضاء شهر العسل وقدم له كل الخدمات الممكنة، من جانبي أيضا سأتصل ببكري حالا. ليليان تريد التحدث معك.

- قبل الحديث مع ليليان، حسب تعليماتك قامت فتحية بترجمة كل المواضيع التي وصلت بالفاكس وارسلناها في نفس اليوم الي المركز الامريكي.

- حسنا وألف شكر، ليليان معك.

سلمت السماعة لليليان:

- خالي لك التحية والشكر على مساعداتك القيمة. تم استقبالنا هنا بصورة جيدة.

- نعم لقد اخبرت عمك نصار بمواقف الدكتور خالد وشهامته وكرمه. فلا غرابة ان يحسن أهلنا مقابلتكم. على فكرة، احضر لي مكتب السيد بكري نصوص موافقة كل البنوك على توقيعك. وصلتني أيضا، قوائم الأرباح على الودائع ومجمل الأرصدة.

- شكرا يا خالي ... كيف اخبار فتحية انشا الله مبسوطة؟

- مبسوطة خالص خاصة بعد ان عرفت انها حامل.

- ألف مبروك. وسنتصل بك غدا انشاء الله.

استمرينا في الجلوس مع امي وعمي، وليليان تتفحص عقد جنيهات مريا تريزا بأعجاب. لحسن الحظ لم تهتم باستجوابي عن الاخبار التي وردت من خالها. ولا خبر وصول الشيخ الشمهري الي بيروت ومعه شرين، وأيضا توقع وصول محمد خميس وعروسته لبيروت، كل ما ورد اليوم، يحتاج منى الى بصيرة وتخطيط. تعمدت بعدم الانشغال باي شيء يهز اهتمامي، وليليان وامي يجلسان معي. فهما كل شيء يهمني في الوجود الآن.

حضر سائق المرحوم الشاهر، ومعه مدير الاعمال الأستاذ مرجان، لان ليليان طلبت المرور على المكتب لمراجعة الحسابات، وأيضا المرور على العمارات المسجلة باسمها. أصرت على ان أكون معها.

مدير المكتب "مرجان مبروك" رجل يكبرني سنا، اسود اللون من سكان حي الموردة. عمل مع المرحوم منذ تخرجه من معهد التجارة بامدرمان. كان والده كبير الخدم الذين عملوا مع الشاهر منذ فتح متجره القديم في امدرمان. كان فخورا بنفسه ينظر الى بأعجاب واستغراب في آن واحد كزوج لابنة المرحوم الشاهر البيضاء ولي نعمته.

اثناء مراجعة الحسابات امام ليليان وانا بجانبها اتصفح جريدة الايام، ورد اسم ابي على لسان مرجان اثناء المراجعة مرتين. المرة الاولي: بخصوص منزل في امدرمان بيع للعميد إبراهيم الناير قبل سنتين بمبلغ الفين جنيه لم تسدد. المرة الثانية: عمولات دفعت لكبار المسؤولين بوزارة الداخلية تساوي الفين جنيه إسترليني للحصول على عطاء الوزارة في السنة الأخيرة لتوريد ملابس لبوليس السودان، عندما سمعت ذلك فضلت الخروج من المكتب وانتظار ليليان في مكتب الاستقبال. خرجت ليليان وتجولنا في منتصف الخرطوم وشاهدنا العمارات الثلاثة المسجلة باسمها. طلبت ليليان رأيي في اخلاء عمارة المحطة الاوسطي وتغييرها لمعهد مهني باسم والدها لتأهيل السيدات المطلقات والارامل وأيضا كفرع ل "الشبكة الدولية لتحرير الرقيق" "Free Slaves International Net”. فقلت:

- فكرة عظيمة، لكن يجب ان تتم دراسة قبل بداية المشروع.

- من المؤكد يجب عمل الدراسة. فهل لك أحد المعارف ليقوم بهذا العمل.

- دعيني أفكر.

- على فكرة أوكلت ادارة اعمال مكتب ابى لمرجان مبروك وهو رجل امين ويعرف إدارة المحلات وفروعها.

- حسنا ... انا أيضا اشعر بانه رجل كفؤ من الطريقة التي نظم بها الحسابات.

- وأيضا اعطيته صلاحية امضاء الشيكات نيابة عني. وسأقابل معه غدا البنوك التي نتعامل معها.

- الا تعتقدين استشارة أمك ضرورة في مثل هذه الحالات !؟ وربما يكون عمك أجدر بالإدارة.

- امي يا خالد توافق على أي شيء من عندي ولكنني أيضا سأخبرها. اما عمي بكل اسف ليس الرجل المناسب لأنه كان في خلاف دائم مع ابي، بجانب ان له مصالحه الخاصة.

وصلت العربة لبيت ليليان، وبما ان والدتها في الحبس الشرعي لإتمام العدة، كان لزاما عليها ان تكون بجانبها. اوصلني السائق الي بيتنا. اعدت امي الغداء وحضر الوالد وعمي أبكر ومعه بعض طلاب الجامعة، ومع ابي بعض كبار رجالات الداخلية. ابي كعادته قليل الحديث. يكثر التفكير ولا يدلي باي رأى سياسي. تكلم الضيوف عن الجلاء واستقلال السودان والبرلمان والانتخابات والصراع بين حزب الامة بزعامة السيد عبد الرحمن المهدي، وحزب الاشقاء بزعامة السيد على الميرغني. انتقدوا ما شاء لهم الجبهة المعادية للاستعمار، ورئيسها عبد الرحمن عبد الرحيم الوسيلة، ونائبها في البرلمان الانتقالي حسن الطاهر زروق.

لأول مرة تتضح لي يسارية عمي. اعجبني دفاعه عن الجبهة المعادية للاستعمار، واعجبني منطق زملاءه في تلك الجلسة. كان مستوي النقاش حضاريا، لم يتفه او يستفذ احدا الاخر، رغم صغر سن عمي وزملائه الطلاب المرافقين له بالنسبة للحضور عدى مدير مكتب ابي الذي ابدى تطرفه الديني وسب الزعيم عبدالناصر. كان الاحترام المتبادل سيد الموقف. حانت صلاة العصر. توضأ الجميع وصلى بنا مدير مكتب ابي. رجل لم ارتاح له ابدا دون أسباب معينة. لاحظت انه بعد الانتهاء من الصلاة، واصل الركعات بالرغم من وضع كوب الشاي امامه حتى برد. كنت اشعر ان تصرفاته استعراضية، يكثر الاستدلال بالأحاديث والآيات في كل نقاشه.

خرج الجميع في الساعة الخامسة. احدى سيارات ابي اخذت عمي وصحبه للجامعة وسيارة اخري أخذتني الي بيت ليليان. كانت مقابلاتي معها في المكتب الخاص بالمرحوم في داخل منزلهم الضخم. شربنا سويا القهوة وفاتحتها في موضوع ابي وما ورد عنه في كشف الحسابات الذي استعرضته مع مدير مكتبها صباح اليوم. فقلت:

- بصراحة يا ليليان، لنا اجندة واسعة ومواضيع لا تعد، لكن ما ورد عن ابي في دفاتر حساباتكم صباح اليوم، يحتم على ان اناقشك فيه. وانا لست راضيا عن والدي إذا اتضح انه مرتشى.

- لا تقل هذا يا خالد، انا اعرف مدى الاحراج الذي اصابك في صباح اليوم ولكن بعد خروجك اتضح من الحسابات ان والدك سدد قيمة منزل امدرمان بشيكات شهرية، لكن والدي لم يقدمها للبنك حتى الان. اما بخصوص عمولة رجال الداخلية فعرفت من الأستاذ مرجان انه سلمها لمدير مكتب ابيك، ولا توجد صلة لوالدك بها بتاتا.

- موضوع الشيكات فأرجوك اخطار مرجان بتحصيلها فورا وبدون تأخير. اما مدير مكتب الوالد وصلته بهذه الرشوة الكبيرة، لا ينقذ ابي من المسؤولية الا إذا تمت التحريات اللازمة ومعاقبة مدير مكتبه فورا.

- موضوع شيكات بيت امدرمان، ليست هي غلطة ابيك وانما هي غربان لتقرب والدي المرحوم اليه. اقترح ان ننسى هذا الموضوع، في النهاية البيت ملكك وانا يا حبيبي ملك أيضا. موضوع الرشوة يمكن ان تتسبب في سقوط الحكومة يا خالد. دعنا نجنح للسلم.

- لا ... لا ... يا ليليان، لا أوافق ابدا. اريد ان اطمئن على كرامة ابي.

- هل يمكن ارجاء الموضوع لحين، حتى تمر هذه الأيام الصعبة.

- اعذرني يا ليليان،

- يا حبيبي ارجوك ... ربما يكون هذا اول خلاف أسرى يقع بيننا. عشاني يا خالد. نترك الموضوع.

- لا اريد ان أخلق مشكلة لاحد، لكن انا شخصيا أعيش في مشكلة. اسمحي لي ان أحلها بالطريقة التي تحفظ كرامة اسرتي ... ونحن الان اسرة واحده يا ليليان، دعينا نتعامل بالشفافية التي عهدتك من أنصارها ... اليس كذلك!!؟

- لنترك الموضوع ليوم الغد، اسمح لي يا خالد ... سأذهب الي امي واجلس بجانبها الآن.

- حسنا ... اراك غدا حبيبتي.

ودعت ليليان بقبلة على جبينها، وتوجهت لمنزلنا. كنت اغلي من الغضب. لم تطاوعني اعصابي في إدارة غضبي واستحال على ارجاء الموضوع ليوم الغد. دخلت البيت وجلست على انفراد مع ابي وسردت له بالتفصيل:

- عرفت من حسابات مكتب الشاهر أنك يا ابى لم تدفع سعر بيت امدرمان وأيضا موضوع عمولة دفعت من شركة الشاهر للفوز بعطاء وزارة الداخلية. سلمها مدير مكتب الشاهر لمدير مكتبك.

بدون انفعال استمع ابي لحديثي، وبرهن لي ان له المقدرة الفائقة في إدارة غضبه. وقال بهدوء:

- بيت امدرمان سلمت شيكاته في وقتها تماما. المرحوم الشاهر كان مراوغا ولم يقدم الشيكات للتقرب مني. فمن الناحية القانونية موقفي سليم. سلمت الأقساط في وقتها بشيكات لمكتب الشاهر ورصدت ما يعادلها في البنك حتى الان. بعثت بمذكرات متوالية للشاهر وعندي نسخ منها بان يصرف الشيكات ولكنه لم يستجب. بخصوص العمولة أوضح لك يا ابني انني لم استلم عمولة في حياتي. لكنني الآن عرفت من استلمها، وسترى حالا ما سأفعله.

بعد الانتهاء من كلامه قام ابي ودخل مكتبه الخاص في البيت، رايته يكتب مذكرة على عجل، ولكنني لم اعرف فحواها. خرج مع السائق بهدوء ومعه المذكرة وبعض الدفاتر دون ان يستأذن مني. غاب لمده ساعتين ورجع. لم يجلس معي. توجه لمكتبه الخاص يرتب أوراق ويكتب ويدون. فضلت عدم الكلام معه، جلست مع امي نتبادل فكرة إقامة حفل عرسي في الدامر بعيدا عن الخرطوم، اذ لايزال الحزن يحيط بآل الشاهر.

في الصباح وجدت ابي في الحديقة يشرب الشاي ويقرأ الجرائد اليومية. لم يذهب كعادته للمكتب. جلست بجانبه وتناولت جريدة الأيام، وقرأت على صفحتها الاولي منشية بالخط العريض:

"وكيل وزارة الداخلية اللواء إبراهيم الناير يستقيل من منصبه" التفاصيل في صفحة ثلاثة.

صدمت للخبر وابي يجلس امامي. سألته:

- ما هذا يا ابي !؟ هل فعلا استقلت؟

- نعم

- ولماذا ... هل انت المعني بما قلته لك أمس؟

- نعم، ما ذكرته لي كنت أحس به ولم أجد الدليل. ومع ان المرتشي هو مدير مكتبي، هذا المتأسلم الحقير "وقيع الله الخير" والذي شاهدته يصلي وعلى جبهته ذبيبه السجود، ما فعله هذا المرتشي، لا يعفيني عن مسؤوليتي الحساسة في هذه الوزارة.

- لكن استقالتك تدينك يا ابي.

- لا يا خالد... انا رجل قانون واعرفه جيدا. لكي تأخذ العدالة مجراها، لابد لي ان اتنحى أولا.

- وبهذه السرعة يا ابي!؟

- نعم ...ذهبت بعد التأكد مما قلته لي، الي وزير الداخلية في منزله وقدمت استقالتي وشرحت له الملابسات. وبعده فورا ذهبت بنفسي لجريدة الأيام وسلمتهم نسخة من الاستقالة.

- مهما تكن النتيجة، فان موقفك يدل على نزاهتك واحترام اسمك. هنالك من يتصيدون في الماء العكر من السياسيين يا ابي.

- لا يهمني ما دام هنالك قضاء عادل ومستقل في السودان. وربك اعلم يا ابني.

على كتفي مشكلة جديدة اضفتها، وبالصدفة. لكنها برهنت لي رجولة وقوة ابي. تأكدت انه رجل نظيف ولا يمد يده للصغائر. زاد ميزان ثقتي به. في المساء حضر عمي أبكر يحمل معه جريدة الأيام وجريدة الميدان السرية التابعة للحزب الشيوعي. كتب عليها " فضيحة رشوة في وزارة الداخلية ... الإنجليزي الأسود الرائد إبراهيم الناير يستقيل من منصبه". طلبت من عمي عدم عرض جريدة الميدان لابي.

انشغلت صحف الخرطوم لمدة أسبوع كامل، في موضوع استقالة ابي. كانت هنالك اقتراحات صحفية بطرح صوت ثقة في الحكومة. قامت النيابة بالتحقيقات وقدم "وقيع الله الخير" مدير مكتب ابي للمحاكمة بتهمة ثابته لم يستطع انكارها "استلام رشوة" حكم عليه بالسجن لمدة خمس سنين وغرامة خمس ألف جنيه. وكما وصل فورا خطاب رسمي لمكتب الشاهر من وزارة الداخلية، مفاده عدم التعامل مع شركات الشاهر وفرضت عليها غرامة عشرة ألف جنيه تحت جناية "تقديم رشوة لموظف حكومة". كل ذلك اشعرني بالفخر من جانب ابي ومن جانب حكومة السودان.

انشغلت مع ليليان في تنظيم اعمالها وحساباتها، ومتابعة اخبار بيروت، ووصول محمد خميس وزوجته وسفر السيدة مسيلة الي اتلانتا جورجيا. موضوع استقالة ابي وما قابلها من زخم سياسي داخل أروقة الدولة وما كتب عنها في الصحف اليومية، لم يؤثر على علاقتي مع ليليان او اسرتها. بل أصبحت فخورا جدا بابي خاصة بعد رفض وزير الداخلية لاستقالته، وإصرار ابي على الاستقالة حتى بعد نقاشي معه ومحاولات امي المستمرة. بذلك تحرر ابي من الروتين والقيود الحكومية، وأصبح حرا طليقا.

قررت شراء فلا ضخمة لا تبعد عن بيت آلـ الشاهر لأنقل فيها امي وابي قبل ميعاد اخلاء بيت الحكومة، لكن ابي رفض رفضا باتا بحجة "ماذا يقول الناس" وتم الاتفاق على اصلاح بيت امدرمان وبأسرع ما أمكن. اوكلنا الموضوع لعمى أبكر الذي وفر مبلغا كبيرا من مشروع "عد الفرسان" يكفي لترميم البيت.

وجود محمود وفتحيه في بيروت حمل عني وعن ليليان اثقالا معقدة، مما شجعنا على مد اقامتنا في السودان، خاصة وان عطلة الجامعة لم تنتهي بعد. قمت مع ابي وامي بزيارة الي الدامر لتنظيم ممتلكات العائلة. تفرغت لمقابلة اصحابي القدامى. سألت عن النور الجيلي وعرفت انه قد توفي بالسل العام الماضي. ذهبت مع اصحابي لمنزل عمه لتقديم العزاء.

الحلقة المفقودة في قصة جدتي، ستظل كما هي، بوفاة زميل طفولتي الحاقد النور الجيلي. الذي استفذني قبل أشهر وهو في حالة سكر، عندما قال موجها الكلام الي في جلسة مع نفس المجموعة من أصدقائي "نحنا نبيع والعبيد يشتروا" كنت اريد مواجهته. الحقيقة ان مندوب ابي اشترى كل أراضي آلـ الجيلي وغيره من اسرياء الدامر. لم يعد موضوع المرحوم النور الجيلي مهما في اجندتي وانا منشغل بما هو أكبر. بل أرسلت معونة مالية كبيرة لعائلة الجيلي مع مندوب الوالد مساهمة مني في العزاء.

ظل ابي في كل صباح، يقابل الفقراء والمحتاجين بصالون منزلنا بالدامر، وبمساعدة مندوبه يوزع العطايا والأموال. من بين هؤلاء، جاءت عجوز طاعنة في السن تطلب المساعدة. قالت لابي انها كانت ملك يمين لجدي الناير، لكنها هربت لفترة من الزمن الصعب، عرضت اوراقها وهي تبكي،

بوجود تلك العجوز المسنة امامي، عادت قصة جدتي بكل تفاصيلها المؤلمة. طلبت من أحد الخدم ان يوصل العجوز لتنتظرني في حجرتي. وبعد عشرة دقائق دخلت حجرتي. كانت العجوز تجلس على الأرض. طلبت منها الجلوس على الكرسي لكنها رفضت. والحيت عليها ورفعتها بالقوة واجلستها على كرسي. طلبت لها شاي وافطار. اكلت بنهم وهي تردد الشكر لآلـ الناير. بعد ان انفرجت اساريرها واطمأنت، سألتها:

- اسمك شنو يا حاجه؟

- أسمي الشول كنت من خدم الشيخ الجيلي الله يرحمه. لكن في سنة الفيضان، اشتراني جدك الناير. لكن يا ولدي ما حجيت ... اللهم اوعدني يا رب.

- انشاء الله تحجي السنة دي. وانا بكلم عبدالعال يقوم بكل ما لزم. ولا يهمك

- الله يبارك فيك يا ولدي. انا واختي "مستوره" حبوبتك نمشي الحج مع بعض كان الله هون.

- انت بتعرفي حبوبتي كويس!؟

- كيف... يا ولدي انا وحبوبتك بنات اعم لزم، كنا صغار، تربينا في بيت الجيلي. اشترانا من تجار جلابة جو من الغرب وكان الله يرحمه اغنى راجل في الدامر. لكن جدك الناير الله يرحمه، اشترى حبوبتك بعد ما بقت فته. انا حملت من الجيلي بي بت جميلة سموها "هديل" ذي بنات الحور. الدامر دي كلها كانت تتكلم عنها، والشعراء كتبوا فيها أغاني، الهمباته قالوا فيها المسادير. لكن قبل ما تبلق، الجيلي باعها لي تجار ما بعرفن من وين!! النور الله يرحمه، ولد الشيخ الجيلي، قبال ما يموت بي سنه، جاب لي منها جوابات كتيره لكن كانت بالإنجليزي وما لقينا واحد في الدامر يورينا الفيها.

- عرفتي أي حاجه من الجوابات؟

- بكره بجيب ليك الجوابات، واظنها بتي عايشه في مصر.

- تتذكري كيف كانت حبوبتي أيام صغرها!؟.

- حبوبتك وين مشت يا ولدي؟ والله مشتاقه ليها ولي زمن ما شفتها. والله البعرفه الشيخ الجيلي "فتاها" قبل ما يبيعه لي الشيخ الناير.

"فتاها باللغة العامية معناها أزال بكارتها" وهو تقليد متبع عند اسياد الرقيق".

في تلك اللحظة وانا امام "الشول" بنت عم جدتي، اكتملت الحلقة المفقودة لقصة المرحومة جدتي "مستوره" عندما قالت "فتاها الشيخ الجيلي". وصدقت توقعاتي التي لم أتمنى يوما ان تصدق. يا للهول جدتي كانت حامل قبل ان يشتريها جدي الافتراضي "الناير" وهو رجل عاقر ولم ينجب من زوجاته الأربعة ...

يا للهول ... لماذا سمحت لنفسي ان اغور في عمق الاحداث والتاريخ!؟ ماذا أقول لابي؟ ماذا أقول لأمي؟ انقلب التاريخ امامي ولا مجال لترميمه وانكاره او إصلاحه. ولا مجال لتغيير قصة جدتي التي طبعتها، ومن المفروض ان أقدمها في الشهر القادم امام الكتاب والصحفيين في المركز الثقافي الأمريكي ببيروت. الحقيقة الجديدة، ان جدتي حملت بابي من الشيخ الجيلي وليس من الشيخ الناير، والمفروض ان يكون اسم ابي "إبراهيم الجيلي" وليس كما يعرف الآن "إبراهيم الناير"

نعم تجلت الحقيقة. جدتي المرحومة مستورة هي جدتي بدون شك. لكن الناير ليس جدي. ابي إبراهيم هو ابي بدون شك. لكنه ابن الجيلي. هديل هي عمتي وبنت الجيلي الغير شرعية وهي أيضا اخت غير معترف بها لزميلي الحاقد المرحوم النور. والنور هو عمي لان والده الشرعي هو الجيلي. معادلة نسبية صعبة، لا يحل طلاسمها احد من الذين يعشون الآن في الدامر. كدت ان يغمى علي لكنني تماسكت، لم استغرب. هذه حياة الارقاء، فرضت عليهم. لا حول ولا قوة لهم.

بكت الشول عندما علمت بوفاة جدتي وبكيت معها وحضنتها بجسمها الهزيل الي صدري. ندهت لعبدالعال وطلبت منه فتح الحجرة الواقعة في الركن الغربي من الحوش الخلفي لمنزل جدي الناير الفسيح. الحجرة التي عاشت فيها جدتي. دخلت مع الشول وهي تتوكأ على عصاة مهتريه. كانت الحجرة كبيت الاشباح لها شباك صغير واحد بني عليه العنكبوت، أقرب الي الثقف منه الي أرضية الحجرة. لا يوجد بها أساس او إثر لأساس قديم.

على الركن الأيمن من الباب، لاحظت كمية من الجنازير الحديدية الصدئة المثبتة بأحكام على أرضية الحجرة. رفعت طرف واحد من تلك الجنازير. انفصلت منه ثلاثة حلقات من شدة الصدأ. لفيتها بمنديلي ووضعتها في جيبي. خبرتني الشول انها الجنازير التي كان يقيد بها رئيس الحرس والد عبدالعال الجواري في الليل ويقفل عليهن الحجرة. حكت لي كيف تم كسر الجنازير ذات ليلة وهربت هي وجدتي مستورة بحثا عن ورقة الحرية من الضابط الإنجليزي بالدامر. وكيف دفع والد عبدالعال الثمن.

منذ ذلك اليوم اعتبرت الشول رمزا لجدتي الراحلة. طلبت من عبدالعال مدير اعمال ابي باصطحابها للسوق وشراء الكسوة التي تريدها استعدادا لحج البيت وتحضير وإصلاح تلك الحجرة القديمة لتعيش فيها الشول، وذكرته أيضا باستلام الخطابات التي وصلت للشول من بنتها.

لا مجال لذكر ما سمعته من الشول امام ابي او امي. هو عين المسكوت عليه، لكن هل يمكنني السكوت امام ليليان؟ لا اعتقد.

بعد نقاش مقتضب بيني وبين ابي، اتفقنا على هدم منزلنا في الدامر، وتغييره الي مستشفى للولادة اقوم شخصيا بتمويله. عدا المكان المخصص للشول يترك ويتم اصلاحه. كانت تلك خطتي لمحو آثار الناير بعد معرفة الحقيقة. لم يعد جدي ابدا. تم تعيين مقاول ليقوم بالهدم والبناء الجديد تحت اشراف زميلي المهندس بشرى الطيب. قبل رجوعي للخرطوم حرصت بتذكير عبدالعال، لتجهيز جدتي الرمزية الشول، لقضاء مناسك الحج على حسابي الخاص، وربط مرتب شهري لها ولخادمة ترعاها. اقترحت على ابي إدارة مستشفى الولادة الذي ننوي انشاءه، لكنه رفض بحجة ان كل أصدقاءه من كلية غردون يتمركزون في امدرمان والخرطوم، إضافة لذلك كنت اشعر بعدم ارتياح ابي في الدامر لأسباب اعرف بعضها.

رجعنا الي الخرطوم. وجدت ليليان منشغلة بممتلكاتها واموالها الهائلة التي ورثتها من ابيها. لاتزال في لبسها الأسود مع القناع الحريري الأسود الشفاف على رأسها وتلازم أمها طيلة ايام الحبس. كل المخططات تسير بهدوء وعيد الأضحى على الأبواب.

منزل امدرمان وتحضيره أصبح الشغل الشاغل لابي وخاصة بعد استقالته الشجاعة كوكيل لوزارة الداخلية، وقرار امي ان نُعيد هذا العام في امدرمان. مشروع عمارة ليليان في المحطة الأوسطي لم يبدأ، وذلك لرفض بعض المؤجرين الاخلاء. اما دراسة المشروع تسير بمهنية. كان دوامي اليومي مع ليليان بمكتبها في عمارتها بشارع الجمهورية أحيانا لمراجعة الحسابات مع مدير مكتبها مرجان، او الجناح الذي استأجرناه في "فندق السودان" لممارسة حياتنا الزوجية حين آخر. الاتصال بمحمود وفتحيه والأستاذ بكري كان شبه يومي.

حمل ليليان جاوز الشهرين الآن، وعليها بمراجعة الطبيب للاطمئنان على صحتها وصحة الطفل. اوكلت المهمة لزميلي الدكتور حسن عبيد الذي صارحته بكل شيء وتاريخ احتمل الحمل الذي يتعارض مع قسيمة زواجي الشرعية. وسارت الفحوصات بشكل طيب.

قبل الوقفة بيومين، تم رحيل اسرتي لامدرمان. وتم تسليم منزل الحكومة الذي عشنا فيه سبعة سنين وثلاثة أشهر. لم أكن فرحا بالرحيل، لبعدي عن ليليان، لكن مجاملة لأمي واصراري على مشاركتها الفرحة بالرحيل لبيتنا. ليليان شاركتنا كل خطوات الرحيل بل خصصت فريق كامل من عمال شركتها في نقل الأثاث، اداره مرجان مدير اعمالها بالرغم من انشغاله في التحضير لزواجه المزمع ثالث أيام العيد.

لم تنتهي احزان اهل الشاهر ولا تزال والدة ليليان في الحبس لإكمال عدتها. خطط والدتي في الاحتفاء بزواجي ظلت مؤجلة. استلم والدي استحقاقاته من الحكومة وقام بشراء سيارة جديدة صالون ماركة "هلمن" وأودع الباقي في البنك العثماني بامدرمان. وكان معاشه الشهري وما يرد له من زراعة أراضي الدامر كافي لمعيشته هو وامي وتغطية مصاريف عمى أبكر.

ترحالي بين الخرطوم وامدرمان يوميا، كان بسيارة ابي الجديدة او سيارة ليليان احيانا. كتبت في مدوناتي الشخصية بالقلم الأحمر:

كنت اسوق سيارة ابي الهلمن الجديدة في شارع الأربعين. استوقفني شرطي مرور علي وجهه شلوخ الشايقية، وقال:

- عندك رخصه؟

- نعم.

- شغال سواق مع منو؟

- هذه سيارة والدي.

فقال الشرطي بحدة:

- هو الشبهك دا، ابوه عندو عربيه ذي دي!!؟ اطلع برا العربيه، ووريني رخصة العربية.

تمالكت أعصابي، من المزلة العنصرية التي تلقيتها، من ذلك الشرطي البسيط. قررت عدم التهور. وإعادة السناريو العنيف الذي انتهجته في بيروت، مع العضو البرلماني "توني فنار". انا اواجه سوداني يؤدي وظيفته دون ضوابط تكبح جهويته. ممارسته العشوائية، لا تتعدى أسلوب الجهل الذي اكتسبه من التعامل الطبقي في المجتمع السوداني.

ترجلت من السيارة وسلمته رخصتي ورخصة السيارة. اطلع عليها. فجأة اظهر الانضباط وجاء صوته مهزوما مؤدبا وقال:

- متأسف يا الاخو. عربية وكيل وزارة الداخلية. تفضل.

كان لابد لي ان القنه درسا عمليا. كتبت اسمه من شارته الشرطية ورقمه، وقلت له:

- سنتقابل امام قاضي المرور. انت لا تصلح لهذه الوظيفة. ولا تصلح لرعي الغنم يا جاهل.

- والله انا متأسف وما كنت عارفك ولد وكيل وزارة الداخلية. ما تقطع علي عيشي.

- انت كلب. والكلب افضل منك. ولا تستاهل المعاش الذي تأخذه من الحكومة.

في تلك اللحظة تجمع جماهير الشارع حولنا وسمعوا الشتاءم التي كلتها علي الشرطي. وترددت أصوات الاجاويد "يا ناس العنوا الشيطان"

ادرت السيارة. تركت مشهد التجمهر، وواصلت مشواري الي بيتنا في ام درمان. وفي الطريق تذكرت جدتي. كيف قابلت الاهانات والزلة في حياتها، وسط مجتمع جاهل. حينها، اقتنعت بانني اعطيت الشرطي الدرس اللازم. ولم اصعد الامر اكثر من ذلك.

منذ تاريخ رفع الفراش، عن مأتم الحاج الشاهر وابنه، اصبح الجناح بفندق السودان، هو الأنسب لمواصلة اعمالنا بدلا عن مكتب ليليان. نتقابل يوميا من الساعة الحادية عشر حتى الثالث ظهرا وبعدها اصحبها لمنزلها بسيارة ابي الجديدة بينما يتبعنا سائق سيارتها المرسيدس الى منزلها. وبعد قضاء فترة وجيزة معها أتوجه لمنزلنا في امدرمان. كنت حريصا لتناول الغداء مع امي وابي وكنت أحيانا اصطحب معي ليليان الي امدرمان.

كانت ضيفة امي في يوم الوقفة، جارتنا السيدة عزيزة والدة محاسن. صديقتنا في بيروت. كنت سعيدا بلقائها وتجاذبنا الحديث عن بيروت وعن بكري، لكننا لم نتطرق عن زواجها او طلاقها. بعد انصرافها، علمت من امي ان محاسن ستتزوج بكري ابن عمها، وأنها صرفت النظر عن الرجوع لزوجها السابق. لأنه هاجر الي الحبشة. وتزوج واقام هناك.

في مساء يوم الوقفة، كنت اتسوق مع ليليان، في محلات مرهج بالمحطة الوسطى. اشتريت عقد من الذهب، هدية لها. وسبحة محلاة بالفضة لامها. كما اشتريت ستة غويشات من الذهب لأمي. ومررنا بمحلات زكي. تناولنا المرطبات والايس كريم. وبعد ذلك أوصلت ليليان لمنزلها. أخبرني البواب بان امي اتصلت. تريد التحدث معي. دخلت مع ليليان في الحجرة المخصصة لنا في الطابق الثاني. اتصلت بأمي. عرفت منها، وصول تلغراف من بعثة الحج السودانية، يحمل نبأ وفاة الحاجة الشول في مكة. ودفنت هناك. ترحمت عليها وتوجهت حزينا لمنزلنا.

في طريقي لام درمان تذكرت ان عبدالعال وكيل ابي في الدامر لم يسلمني الخطابات التي اوعدتني بها المرحومة الشول. بعد الغداء اختليت بنفسي في حجرتي واتصلت بعبدالعال واخبرته بوفاة الشول وطلبت منه ان يقام لها مأتم يليق بمقامها، كما طلبت منه القيام بالواجب نيابة عنا في الدامر، وسألته عن الخطابات، أوضح لي ان الخطابات سلمها لأمي. في مظرف داخل كيس، قبل سفرنا من الدامر في نفس اليوم.

اسرعت الى المطبخ حيث لاتزال امي تعد الشاي. طلبت منها الكيس الذي استلمته من عبدالعال. استلمت الكيس. به ظرف مغبر داخله عشرات الخطابات المكتوبة باللغة الإنجليزية وبعضها بالإيطالية. أرسلت في فترات متباعدة بعضها من القاهرة وبعضها من روما ومعظمها من مدينة تورونتو عاصمة إقليم اونتاريو بكندا. خطابات ارسلتها ابنة الشول هديل المباعة، لتجار رقيق أجانب، قبل عشرات الاعوام.

بدأت بنهم شديد قراءة الخطابات المرسلة من "هديل" بنت المرحومة الشول. واخت ابي الغير شقيقة. الشيخ الجيلي والدها ووالد ابي البيولوجي. لذا تكون هديل في الحسبة هي عمتي،

قصةً عمتي هديل، اسطورة لا تصدق. أقرب الي الخيال من الحقيقة. قصة قرأتها بين سطور تلك الخطابات. كأني اقرأ سردا يحبس الانفاس للكاتب الروسي تولستوي. ليتني لو استجبت لطلب المرحوم النور الجيلي في دفع العشرين جنيه التي طلبها مني، وليتني لو ترجمت له الخطابات، الخطابات التي كانت ستغير فقرات هامة من قصة جدتي، في طبعتها الاولى. انها الآن بيدي. ولقد هزت كياني وتاريخي.

"عمتي البروفسورة هديل كلوني" إضافة هائلة لقصتي. لكن لا مجال للإضافة بعد ان طبعت القصة. الاتصال بهديل، واخطارها بوفاة أمها غير مناسب الآن،. لابد من مقدمات وتعارف طويل. اجلت كل ذلك حتى رجوعي لبيروت لأكتب ملف تاريخ شامل لأعرف نفسي بهديل أولا، وبعد ذلك دعوتها هي وزوجها الي بيروت لحضور تقديم قصة جدتي "الجنازير المقدسة" في المركز الثقافي الأمريكي في الشهر القادم والتشاور معها في ترجمة القصة الي الإنجليزية مع اضافتها في الطبعة الثانية.

سبحان الله، اكتشفت لي عمة، حالفها الحظ وهي جارية صغيرة مجنزرة تحت رحمة النخاسين. اشترتها ارملة إيطالية ثرية كانت تعيش في القاهرة. عاملتها كابنتها ونقلتها معها الي إيطاليا بعد الثورة المصرية في ثلاثة وعشرين يوليو 1952. علمتها أحسن تعليم في جامعة ميلانو حتى اصبحت محاضرة في نفس الجامعة. تزوجها زميلها من الجامعة، شاب كندي من أصول إيطالية. سافرت معه الي تورونتو ليتولى اعمال والده "كلوني" وهو من اثرياء تورونتو. هديل واصلت مهنتها في التدريس وأصبحت محاضرة ورئيسة قسم الدراسات الافريقية بجامعة تورونتو. لها بنت وولدين.

كل الخطابات التي أرسلتها لامها كانت عن طريق وكيل البوسطة والتلغراف بمدينة الدامر موجهة الي الشيخ الجيلي. من الواضح ان النور وجد الخطابات بعد وفاة والده، لكنه لم يهتم بتسليمها للمرحومة الشول، الا قبل وفاته بسنة. وبالتالي لم تتسلم هديل أي ردود عبر السنين من أمها الشول.

مر العيد وانتهت أيام العدة لوالدة ليليان. أقمنا حفلا مختصرا لزواجنا بالنادي السوري في الخرطوم، حضره العديد من زملائي واهلي واهل ليليان، تحدثت عنه صحافة الخرطوم. حاولت مع ليليان اقناع أمها "ليلي الخاشوقجي" بالسفر معنا لبيروت، لكنها كانت مصرة على الإقامة في بيتها ولن تفارق بلدها السودان مهما كانت الأسباب واشترطت علينا بقاء يوسف ابن ليليان معها لمواصلة تعليمه في السودان. لكنها طلبت مني مساعدتها في احضار زوجة ابنها المتوفي من باكستان لتعيش معها في السودان.

مرجان المسكين، بكل اسف لم يتم زواجه في ثالث أيام العيد كما كان مخططا له، خطيبته ليلى التي اختارها كانت بنت الجيران، احبها منذ أيام الطفولة. تخرجت من معهد الالة الكاتبة في امدرمان. اتفق معها على كل التفاصيل وعينها كاتبة منذ سنتين بمكتب المرحوم الشاهر. عرفت من ليليان اسباب رفض والد العروس بحجة ان ابن عمها وصل فجأة من البلد ويريد الزواج منها، ولكن كما قالت ليليان السبب الحقيقي، العنصرية. مرجان سليل زنوج الموردة المنحدرين من بقايا جنود الفتح السودانيين الذين دخلوا مع الجيش المصري الانجليزي. العروس ليلي أهلها من الهاشماب الذين يعتبرون أنفسهم من العرب ولا يريدون الاختلاط بالزنج. تم رفضه لأسباب مسكوت عنها في العلاقات الاجتماعية السودانية برغم الفقر المدقع الذي تعيش فيه الاسرة على مرتب ليلى المتواضع. تألمت كثيرا لمرجان ولابد لي من عودة لهذا الحدث الذي يلامس مشاعري كسليل رق، ومادامت ليلي تعمل بمكتب ليليان حاليا.

لافتتاح المعهد العلمي للبنات الذي شيدناه في قرية "عد الفرسان" بكردفان تخليدا لاسم جدتي "مستورة" قررنا السفر انا وليليان وابي وعمي أبكر واثنين من زملائه في الجامعة ورافقنا وكيل وزارة المعارف ومساعده. حجزنا ثلاثة قمرات نوم درجه اولي في قطار الخرطوم الأبيض. من الأبيض استأجر عمي ثلاثة عربة لاندروفر واثنين لوري كبير نقل تحمل معنا المأكولات والعصائر والحلويات والفاكهة لحفل الافتتاح. بجانب العربة الكومر الحكومي الذي اعد لنقل وكيل وزارة المعارف ومساعده.

خرجت القرية عن بكرة ابيها لاستقبالنا، يوما مشهودا في "عد الفرسان" عندما ازاح والدي وهو دامع العينين، الستارة التي نقش عليها "معهد مستورة لتأهيل النساء افتتحه ابنها اللواء إبراهيم الناير وزير الداخلية السودانية بتاريخ 15 مايو 1955". بعد مقدمة قصيرة، ترحم ابي على روحها ورفع الفاتحة امام الحضور. تلاه وكيل وزارة المعارف بسرد طويل اثني فيه على جهد عائلة الناير وتمويلها لبناء المعهد، وان الوزارة قد تولت الإدارة وتعيين المعلمات.

تعمدت ان أكون آخر المتكلمين. وبدون تردد قرأت بعض الوثائق التي احضرتها من جامعة درم البريطانية ودار الوثائق السودانية والتي تثبت استرقاق وحرية جدتي. نزلت مني دمعات وانا اقرأ اخر وثيقة. انقلب الحفل لمأتم في لحظات. لكن عمي أبكر كان حصيفا وشجاعا وقف بجانب والده يونس زوج جدتي الشرعي المرحومة مستوره وقال "ابشركم بفجر جديد. لا عبودية بعد اليوم" وقدم ليليان امام الحضور وقال هذه ليليان زوجة ابن اخي الدكتور خالد إبراهيم.

في اليوم الثاني رجعنا الي الأبيض وبعدها للخرطوم. خلدنا للراحة ليوم كامل من عناء السفر في حجرتنا في بيت ليليان. ناقشنا موضوع مرجان ورسمنا خطة مكتملة لأقناع اهل العروس. اتصلت ليليان بمكتبها وردت عليها ليلي:

- اهلا ليلى كيف الشغل في المكتب؟

- بخير والحمد لله، وحمد لله على رجوعكم للخرطوم.

- ليلى ... انا والدكتور خالد ننوي مساء اليوم زيارتكم في البيت ... لمباركة العيد وموضوع زواجك من مرجان، ايه رأيك؟

- والله انا سعيدة وكنت عايزه اتناقش معاك في موضوع مرجان.

- طيب قولي يا ليلى.

- والله انا ما حاتجوز غير مرجان مهما عمل ابوي او اهلي.

- طيب الحل كيف.

- زيارتك لأهلي مع الدكتور خالد ممكن تغير راي الاهل. وانا متأكدة.

- طيب خلاص توقعونا الساعة سبعة ونصف.

- شكرا جزيلا ونحن في الانتظار.

- ارجوك لا تكلمي مرجان. ومع السلامة.

استقبلنا والد ليلى في الباب ومعه ابنه. في أربعة كراتين حُضرت هدايا باتفاق مع ليلي، قام سائق سيارة ليليان بإحضارها داخل المنزل، كانت عبارة عن احتياجات اسرتها الفقيرة من الملبس والاكل والحلويات والعطور. جلسنا في حوش المنزل المتواضع وقامت ليلى وامها بخدمتنا. والدها عبدالصمد كان متضايقا ولعله فهم الغرض من الزيارة. ظل يردد الشكر والثناء على كرمنا. بعد شراب الشاي واجهته ليليان بسؤال مباشر:

- يا عمي عبدالصمد ليه رفضت مرجان؟

- لا والله راجل محترم وهم جيرانا نعرفهم ويعرفونا، لكن.

- حرام يا عمى عبدالصمد، مرجان راجل متعلم ومؤدب وليلي قالت لي كل حاجه.

- كلامك صاح يا بتي لكن نعمل شنو مع راي الاهل.

هنا تدخلت شخصيا وواجهت عبد الصمد:

- يا حاج عبدالصمد، انا عارف المشكلة لأنها قابلتني شخصيا، ما فيش لزوم للعنصرية، ليليان زوجتي قدامك وانا قدامك. ابوها الله يرحمه ما رفضني. داير تعرف السبب!!؟

- لا ... العفو يا دكتور، انت فوق راسنا ومرجان ولدنا.

تدخلت ليليان ووجهت سؤال لوالدة ليلي:

- رأيك شنوا يا حاجه خديجة!!!؟ وانتى بتعرفي بنتك جيدا.

- والله الراي راي الرجال.

- يعني ليلى ما عندها راي!!؟

- عندها يا بتي لكن الاهل راين اهم. وانا والله ماشايفه أي عوجه في مرجان، متعلم ومؤدب ونعرفه مما كان وليد.

أخرجت من جيبي مئة جنيه وضعتها في الطاولة واخرجت مئة جنيه اخري وضعتها من فوقها. وقلت:

- يا حاجة خديجة دي الميه جنيه التي دفعها مرجان لسد المال وأرجعتموها. والمئة الثانية إضافة منى ومن ليليان. خلونا نبارك ونشيل الفاتحة. نريد نعمل لي مرجان أكبر عرس في الموردة ونرحل العروس لي بيتها الجديد في الخرطوم بحري قبل ما نسافر بعد أسبوع. لا نريد منكم أي حاجه. كل التكاليف الاكل والفنانين. أبو داود واحمد المصطفى.

تدخل والد ليلي وقال:

- والله انحنا شاكرين جدا جدا على زيارتكم الكريمة لكن ادونا فرصه للرد.

- طبعا من حقكم تتشاوروا. ولكم الشكر وربنا يتمم على خير.

ودعنا اسرة عبدالصمد، وتركنا المأتيين جنيه عنوة في مكانها، وبعد ركوبنا في السيارة لحق بنا الحاج عبدالصمد وارجع المبلغ بإصرار. المأتيين جنيه تساوي سعر شراء البيت الذي يسكن فيه بالإيجار. في الطريق راهنت ليليان على موافقتهم عكس توقعي. وفعلا في صباح اليوم التالي، حضرت ليلى للمكتب واخبرت الجميع بموافقة أهلها. وعند حضورنا في الساعة العاشرة انتظرنا مرجان في الباب مهللا ومستبشرا وقد وزع البارد والحلويات للجميع. باركنا له وجلسنا معه ومع ليلى ووضعنا مخطط الفرح، ومنحت ليليان عطله مفتوحة لليلى لتحضير نفسها للزواج.

وفي مساء نفس اليوم تقدم اهل مرجان مرة أخرى بالشيلة وسدوا المال برفقتنا وانطلقت الزغاريد من منزل عبدالصمد ونحرت ذبيحه للضيوف. بعد يومين، تم الزواج الذي تحدثت عنه الموردة ورحلت ليلي مع مرجان للبيت الجديد الكبير الذي اشترته ليليان لهما في مدينة الخرطوم بحري، ورحل معها أهلها البسطاء.

بعد يومين شدينا الرحال الي بيروت، حيث تنتظرنا ملفات شائكة، اهمها ملف محمد خميس، وعروسه حليمة الصومالية، وملف الشيخ الشمهري وسكرتيرته شرين. والملف الجديد "عمتي هديل كلوني". أسبوعين امامي لتقديم كتابي، "الجنازير المقدسة" امام الصحافة والكتاب العرب والأجانب، في المركز الثقافي الأمريكي.

في مطار بيروت، استقبلنا محمود خال ليليان وزوجته فتحية والأستاذ بكري الجعلي وصديقتنا محاسن بنت عمه. ومعهما كان البطل الأسطوري محمد خميس وزوجته الشابة الساحرة حليمة الصومالية واختها مريم وخطيبها الامريكي "روبرت بترسن". اخذني محمد خميس بالحضن ودموع الفرحة على عينيه، حضنت ليليان زوجته حليمة. وتشابكت الايدي بالتهاني والتبريكات والاعجاب. توجهنا جميعنا الي فلتي في حي جونيا واستمرينا في الحديث والاستئناس وسرد القصص والمفاجئات حتى الفجر وانصرف بكري ومعه محاسن الي فلته المجاورة.

قبل ان نخلد للنوم، أرسلت السائق أبو اياد ومعه محمود، الي فندق هوليدي اين في شمال بيروت، ودفع الحساب واحضار كل الأغراض التي تخص محمد وعروسه، ووضعها في الطابق الثالث ليسكنا مؤقتا معنا. وتقابلنا في الصباح في حجرة الطعام، حيث اعدت ام محمد فطور فاخر استمر لأكثر من ساعتين. راجعنا خلالها أنشطة المكتب والملفات اثناء فترة غيابنا، وودائع محمد خميس البنكية. وانفرد محمود جانبا وراجع مع ليليان ودائعها المالية. عرفت من محمود ان محمد قد قرر شراء فلا لا تبعد عنا في ضاحية جونيا وسيتم استلامها الأسبوع القادم. وتم توظيف مدرسين لتحضيره لشهادة الثانوية العامة.

موضوع عمتي “هديل كلوني” أصبح الأهم بالنسبة لي، ولا بد من الوصول اليها ودعوتها هي وزوجها لحضور تقديم كتابي الذي يحمل في صفحاته ما يهمها ويهمني. للتأكد من عنوان عمتي هديل وتلفوناتها، اتصلت بماجدولين في اتلانتا بحثا عن زوجها مايكل جير لتكليفه في إيجاد معلومات عن عمتي. عرفت من ماجدولين ان زوجها مايكل جير في مهمة خارج اتلانتا. اخذت عنوانه وهاتفه. اتصالي بماجدولين أسعدني وأسعدها كثيرا وعبرت عن شوقها للحديث معي ومع ليليان. خبرتني انها على وشك الوضع وان والدتها "مسيلا" بجوارها وفي منتهى السعادة وان المولود ذكر وسيحمل اسمي كما اوعدت سابقا.

وبعد انتهاء محادثتي ماجدلين، اتصلت بمايكل مباشرة. ووضحت له موضوع عمتي. طلبت منه التأكد من العنوان، والتعرف على هديل، وطلب رقم هاتفها بأسرع ما أمكن. وضحت لمايكل ضرورة تواجد هديل مع وزوجها في بيروت، لحضور تقديم كتابي "الجنازير المقدسة" في المركز الثقافي الأمريكي.

في صباح اليوم الثاني، وصلتني المعلومات المطلوبة من مايكل. وأضاف أيضا ان زوجها "تيري كلوني"، من أكبر رجال الاعمال في تورونتو، وله متاجر وسلسلة من المطاعم الإيطالية، وشركة إعلانات ضخمة، تعمل في كل الولايات الكندية يديرها هو وأولاده. وشريك في أكبر مكتب قانوني، ويعمل ابنه الأكبر رئيسا لمجلس ادارته.

قبل ان اخطوا أي خطوة للاتصال بهديل، طلبت من فتحية ترجمة مختصرة لقصة جدتي مستورة، مع ترجمة كاملة لكل الوثائق التي كانت معي بخصوص استرقاق جدتي. أعطيت فتحية يومين فقط. اتصلت بالمركز الثقافي الأمريكي ببيروت، وطلبت تأجيل تقديم كتابي لأسبوع، وذلك لضرورة حضور شخصيات من كندا يخصهم موضوع الكتاب. بكل اسف رُفض طلبي، لان المركز قام بدعوة رئيس نادي الكتاب الأمريكان ذوي الأصول الافريقية، وعضو من الكونجرس يرأس حقيبة الشرق الأوسط، وكلاهما له ارتباطات لا تسمح بالتأجيل.

قبلت الامر الواقع وركزت بنفسي مع فتحيه لأنهاء الترجمة في يوم واحد. وفعلا تم تجميع ملف معه خطابي الخاص لهديل، والذي ترحمت فيه علي روح أمها الشول المتوفية قبل أسابيع في مكة اثناء موسم الحج. عرفتها فيه بشخصي، وصلتي بأمها وبها. أشرت فيه على خطاباتها التي أرسلتها لامها وارسلت نسخا منها. ودعوتي لها مع زوجها للحضور الي بيروت وتشريفي بتقديم كتابي "الجنازير المقدسة" كما أوضحت لها نشاطي في محاربة العنصرية بتأسيس مكتب "الشبكة الدولية لتحرير الرقيق" "Free Slaves International Net” واختصارها "F.S.I.N". ارفقت عنواني وأرقام هواتفي. واضفت ملحوظة اقامتهما على حسابي وأيضا تذاكر السفر. اتصلت بالمستر كاسبر صديقي في القاعدة الامريكية لمساعدتي، بإرسال الملف عن طريق الحقيبة العسكرية، التي ترسل طائرة يوميا الي العاصمة الامريكية من بيروت. وفعلا أرسل كاسبر أحد الجنود لمنزلي لأخذ الملف.

قام محمود مدير مكتبنا، بترحيل محمد خميس وزوجته للفلا التي اشتراها. وتم شراء سيارة مرسيدس مطابقة لمواصفات سيارتي، وعين سائق سوداني لها. أصر محمد خميس على مريم اخت زوجته، وخطيبها روبرت بترسن بالسكن معه في الفلا. أقمنا حفل جمع كل الأصدقاء، ترحيبا بمحمد وزوجته حليمه.

بعد أربعة أيام، وفي الساعة الواحدة صباحا وانا في سرير نومي وبجانبي ليليان، وصلني تلفون من عمتي هديل كلوني، بعد تقديم نفسها بصوت باكٍ لم اسمع منها الا نشيج أقرب الي الصمت منه الي العويل. تجمدت الكلمات على شفتيها بتأوهات تاهت الجمل بينها ولم تستطع الاستمرار في الحديث معي. طلبت منها ان تهدأ قليلا ونعاود الحديث مرة أخرى، لكن زوجها كلوني اخذ السماعة وواصل معي:

- دكتور خالد لنا الشرف للتعرف عليك، رحم الله والدة زوجتي هديل، وكم كنت حريصا لرؤيتها يوما ما. وصول ملفك لهديل كان بمثابة مولد جديد لها. منذ زواجنا كانت تبحث عن هذه اللحظة.

- عظيم الشرف لي مستر كلوني. انا أيضا كرثت عمري لما تبحث عنه هديل.

- سنكون عندكم في بيروت بعد ترتيب امرنا هنا خلال أسبوع. لا تهتم بالتذاكر. وكالة سفر تابعة لأعمالي ستقوم بترتيب الحجوزات لنا. ولك الشكر.

- كم انا سعيد بقبولكما دعوتي. وكم لي من الذكريات والتاريخ للسرد عند وصولكما هنا.

- سأحاول ابني الأكبر للحضور معنا، فهو محامي ضليع وباحث في قضايا الكنديين والأمريكان ذوي الأصول الافريقية. وعمل في مكتب "مارتن لوزر كنك" كباحث في قضايا العنصرية. اعجبته فكرة "الشبكة الدولية لتحرير الرقيق" "Free Slaves International Net” ويريد موافقتكم في تبني الفكرة في أميركية الشمالية، بفتح فرع في مدينة تورونتو، وفرع آخر في مدينة ديترويت بولاية متشجن.

- هذا بالطبع أروع. وأتمنى ان تحضر كل العائلة معك.

- ها هي هديل ... قد هدأت الان، وتريد مواصلة الكلام معك.

اخذت عمتي هديل السماعة وواصلت الحديث معي وقالت:

- يا الاهي ...رحم الله امي، لا أتذكر وجهها لسوء حظي. لماذا اخذها القدر، ولا تعرف اين انا يا خالد !!؟، ما اسعد وأصعب هذه اللحظة !!، اشعر باني ولدت من جديد. كم انا حزينة بفقد امي، وسعيدة ان تعيد لي تاريخي وجزوري التي لم انساها يوما من الأيام. يا الله ماذا أقول لك !!؟. لماذا أراد الله لنا كل هذا!!؟. لماذا عملت الأديان فينا هكذا!!!؟ يا للهول. ابشرك يا حبيبي خالد اننا سنكون معك في بيروت يوم تقديم كتابك "الجنازير المقدسة"، وقررنا ترجمته فورا الي الإنجليزية، في نفس القسم الذي اترأسه في جامعة تورونتو، وهو الدراسات الافريقية. وسأوصي بتدريسه هنا من ضمن المقررات في العام القادم.

- انا سعيد جدا، ولي الشرف وهنالك الكثير من الأمور لاطلاعك عليها، اثناء الزيارة لبيروت.

- زيارتنا ستشمل السودان أيضا، إذا سمح الوقت، وبمرافقة زوجتك الجميلة ليليان. فلقد قام زوجي بإيجار طائرة خاصة، ستأخذنا الي بيروت ثم الخرطوم، ومن هناك الي الدامر، وبعدها للفاشر لزيارة قبر جدتك، ومشهادة المعهد الذي انشأته مع والدك في "عد الفرسان"

- هذا فوق توقعاتي. اكاد ان اطير من الفرح. هل انا في حلم!!؟

- هذه حقائق يا دكتور خالد. كما قرر مجلس إدارة شركاتنا يوم أمس التبرع لدعم مشاريعكم في السودان ومكتبكم في بيروت. "الشبكة الدولية لتحرير الرقيق" "F.S.I.N"

- هذا كرم لا أجد أي كلمات لوصفه. معي زوجتي ليليان تتشوق للحديث معك.

أعطيت السماعة لليليان وقالت:

يتبع___9

ا



  • 3

  • عبدالله الأسد
    من دولة السودان. حاصل علي ماجستير هندسة سباكة المعادن من جامعة وارسو بولندا عام 1967. عمل مستشار سابقا بهيئة اليونيدو التابعة للامم المتحدة. انشأ اول موقع الكتروني في الانترنت عام 1994. بعنوان al-nafitha.com/vb
   نشر في 24 فبراير 2015  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا