هل فعلا المغلوب مولع بتقليد الغالب؟!
نشر في 09 فبراير 2021 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
يفسر ابن خلدون الانهزام الثقافي أمام الآخر والتقليد الأعمى له بأن "المغلوب مولع أبدا بتقليد الغالب لأن النفس تعتقد الكمال في غالبها" حسب ما ورد في مقدمته الشهيرة، وهي عبارة كثر الاستشهاد بها كلما طُرح السؤال حول أسباب انجرارنا وراء الثقافات الأجنبية الذي قد يصل إلى درجة "الاستبدال" وتراجع الشخصية الثقافية المحلية لصالح تلك المستوردة، في تجاوز لحدود "التثاقف" العادي في عصر الانفتاح الإعلامي الذي نعيشه ..
ابن خلدون عالم وكلامه درر ، ولعل تفسيره كان مطابقا للزمان الذي عاصره، لكن تحليله هذا رغم أنه كتب منذ ستة قرون، تحول في زماننا الحاضر إلى مجرد شماعة نعلق عليها حالة الضحالة التي وصلنا إليها، ويجعلها حتمية لا مفر منها لا تتطلب إعادة النظر فيها ، وواقعا مرا لا مجال لتغييره أو تجاوزه !
هناك سؤال ينبغي أن يطرح فيما يخص التاريخ الحديث والمعاصر، حول المقصد بالغلبة هنا، فإن كان المغزى منها هو الغلبة العسكرية، فماعلاقة التقليد الأعمى بمعركة بلاط الشهداء أو معركة نافارين،أو سقوط الجزائر سنة 1830، أو اتفاق سايكس بيكو، والنكبة والنكسة معا وغزو العراق وافغانستان؟!
ما علاقة هذا الانهزام الثقافي بالتفوق الصناعي والحربي وصناعة الطائرات والأسلحة؟
هناك سؤال آخر ، لماذا كان النبلاء الروس يتكلمون الفرنسية كلغة رقي اجتماعي ويتبنون الثقافة الفرنسية في عهد القياصرة؟ لم يكن هناك وقتها أي حرب لا هزيمة ولا انتصار، وحدث ذلك قبل أن يولد نابليون ويفكر بغزو روسيا أصلا ؟ لا بل إن النبلاء الروس توقفوا عن تقليد الفرنسيين بعد دخول نابليون إلى موسكو عام 1812!
وعلى ذكر الروس بما أنهم منتصرون ومتفوقون عسكريا أيضا ، لما لا نجد أحدا في بلادنا العربية "المهزومة" يقلد الروس ولباس الروس ومشية الروس ولغة الروس؟! الأمريكيون لديهم الإف 35 ، حتى الروس لديهم السوخوي 57 ، هيا بنا إذن نرتدي القلنسوة الروسية ونرحب بكل من نلتقيه قائلين " زدراستفويتي" !
الجواب سهل، لأنهم لايمتلكون أي تأثير ثقافي أو إعلامي علينا، ولا يقومون بتصدير ثقافتهم على الطريقة الغربية! إنهم يمتلكون ترسانات أسلحة ولا يملكون ترسانة إنتاج ثقافي موجهة نحونا ولا حتى إلى العالم، وفي هذا الصدد لا مناص من ذكر برامج "روسيا" اليوم التي لا تسوق في الأغلب سوى للسلاح الروسي!
اليابانيون تعرضوا لهزيمة نكراء في نهاية الحرب العالمية الثانية، لكننا لم نرهم يوما
يغيرون لغتهم وقيمهم اليابانية ويتحولون إلى أمريكيين بين ليلة وضحاها. بل على العكس تماما، تعد الثقافة اليابانية من أرسخ الثقافات في العالم، والشعب الياباني من أكثر الشعوب محافظة على تقاليده وعاداته وثقافته، بل إنه يصدرها إلى العالم ويحرز في ذلك نجاحا باهرا..
حتى هنا في الجزائر، حين كنا مهزومين على كل الأصعدة ولمدة 132 عاما، لم تغير المرأة الجزائرية من لبسها ولا من لغتها .. وحتى الرجل الجزائري لم يغير هويته أبدا .. لقد عرف أجدادنا كيف يطوروا مناعتهم الثقافية، ويحافظوا على التمايز بينهم وبين المحتل دون تداخل ولا رضوخ ، حتى في أحلك الظروف، ومع أبشع طرق التنكيل والقتل..
وإن كانت الغلبة اقتصادية أوصناعية أو علمية ، فلمَ تشيع بيننا اللكنة الانجليزية الأمريكية أكثر من اللكنة البريطانية أو حتى الاسترالية؟ لما لا ننطق كلمة ألمانية واحدة في حياتنا اليومية ماعدا في بعض الأحيان كلمتي فولكسفاغن ومارسيدس ؟
أعتقد أن ابن خلدون تناول الموضوع من منطلق نفسي-اجتماعي بحت ، وتطرق إليه من مستوى العلاقة الثنائية غالب-مغلوب.. في حين أن الأمر من نفس المنظور لا يستلزم وجود الانتصار والهزيمة.. بل على العكس تماما الهزيمة هنا قد تكون عائقا منيعا أمام التقليد ، لأنها تنشئ حواجزا نفسية بين المغلوب والغالب تحول دون حدوث الإعجاب والانبهار وبالتالي التقليد(كما حدث في احتلال الجزائر مثلا).
النجاح المحايد ( غير المرتبط بهزيمة او انتصار) هو وحده المحفز الجيد للتقليد دون أن يكون المقلِّد مهزوما أو خارجا لتوه من معركة خاسرة .. وحتى في هذه النقطة النجاح وحده لا يكفي، لابد من حدوث تصدير لنجاح المُقلَّد و تفوقه إلى الآخر المقلِّد وتسويق صورته لديه كمتفوق في شتى المجالات، أو في مجال محدد من أجل إحداث عملية التقبل ومن ثم الانبهار ومن ثم تبني القيم المستوردة الجديدة لدى المقلِّد ..والدليل على هذا أن هناك نماذج عديدة ناجحة ومتفوقة (تم ذكرها سابقا) ولكنها لا تحظى بالتقليد والسبب هو غياب عملية "التصدير الثقافي" إلى الآخر..
مع عملية التصدير هذه فقط، يبدأ عمل الإعلام والتسويق لصورة المتفوق.
لو ننظر إلى واقع الحال فسنجد أن شعوبنا العربية قد تقاسمتها الأنماط الثقافية الإعلامية الأمريكية، والفرنسية، والتركية، وحتى الكورية، واليابانية، بالمناسبة لم تكن بيننا وبين اليابان وكوريا الجنوبية أي معركة أو مواجهة هزمنا فيها أمامهما ..ورغم ذلك ستجد مراهقين يحيونك بالكورية وآخرين باليابانية ! فأين يكمن الخلل؟!
الخلل باعتقادي، لا علاقة له بالعامل الحضاري من هزيمة وانتصار او تفوق بقدر ما يرتبط ارتباطا وثيقا بالثقافة والإعلام والتسويق، فتركيا مثلا تمثل نموذجا للمهزوم تاريخيا ومع ذلك استطاعت أن تفرض ثقافتها إعلاميا، وتسللت الى أسواقنا بموضة الملابس التركية وإلى ألسنتنا بموجة الكلمات التركية عن طريق الإنتاج الدرامي الغزير..
الخلل داخلي كامن فينا في ظل الفراغ الثقافي-الإعلامي القائم، غياب البدائل والنماذج الثقافية التي يمكن أن نواجه بها الاجتياحات الثقافية التي تترصد لنا في الشاشات مهما صغرت، مع انعدام "المناعة الثقافية" التي نستطيع أن نصمد بها في وجه كل ريح تريد اقتلاعنا، والخلل خارجي أيضا بارتباطه مع قوة السطوة الإعلامية للآخر مهما كان، التي تفرض علينا نماذجه الثقافية عنوة، وتمكنه من الترويج لهويته ومخرجاتها على أحسن ما يكون..
الأمر لا يحتاج إلى صناعة أول مقاتلة عربية أو إسلامية ولا بتحقيق التفوق الحضاري سواء كان اقتصاديا أو علميا سياسيا أو عسكريا.. كما لايحتاج إلى معارك ضارية ننتصر فيها لنتشبث بمقومات هويتنا ووجودنا..ولا يحتاج إلى ترسانة حربية أو مخابر عالية الجودة أو معاهد راقية .. الأمر له علاقة مباشرة بالإنتاج الثقافي من أدب وإعلام ومسرح وموسيقى ودراما وسينما وحتى النسج والطبخ !
المسألة منوطة بقوة التأثير الإعلامي الناعم والمضاد المدعوم بجسارة الإنتاج الثقافي النافذ، والقدرة على التصالح مع ثقافتنا، وعلى إعادة تشكيل نظرة أفضل عن أنفسنا ومساحاتنا المكانية ، وإثارة الاعتداد بخصوصياتنا وتمايزنا، ومن ثم تصديرها إلى الآخر لضمان التوازن، أو على الأقل لتحقيق الندية أمامه..
نحن ببساطة بحاجة إلى إعلام قوي وذخيرة ثقافية غزيرة وراسخة من أدب وفكر و انتاج فني تعبر عنا وتغنينا عن ثقافات الآخرين.. حتى نستطيع ترسيخ ثقتنا بثقافتنا والاعتداد بها..هذا كل ما في الأمر..
لهذا أعتقد أنه لا مجال لاستشهاد بهذه المقولة مجددا، لأنها فعلا قد فقدت مؤداها التاريخي في سياقاتنا الحالية، ولأنها تبرر أكثر مما تفسر. بل وتؤجل محاولة استعادة الزمام إلى حين تحقق الغلبة السياسية والتفوق الحضاري، وهذا أمر بيننا وبينه عقود وربما حتى قرون..وهو ما يحبط العزائم و يلجم الهمم ..
-
فاطمة بولعناناليوم حرف وغدا حتف