آخر رسالة وصلت لهذا المكان بخط اليد كانت منذ عشرين عاماً ، تلك الرسالة التي ترِدُك بإسمك على المظروف ، تقطع آلاف الأميال لأجلك حصراً ، تنتظرها بالأسابيع ربما ، وحين تصلك كأن جزءًا من روحك ارتد إليك حيث لم يكن ..
الحبر الأزرق ، رائحة العطر والمكان ، تلك الأشياء التي تبقى في حواسك للأبد ..
الشريط الذي تسمع جهة منه لتسجل على جهته الاخرى ، كل حرف منه يبقى في الذاكرة كأنه تراتيل سلام هادئة ..
مات أصحاب هذه الرسائل الآن ، ولا زالت حاضرة بكل ما فيها من ذكرى بكل الحواس ..
الآن تردنا آلاف الرسائل ، تُقرأ بلحظة وتذهب بلحظة ، تُمحى الرسائل والذكريات وأهل حروفها أحياء يرزقون ..
تدفعنا تقلبات الحياة أن نتخلص من أشياء كثيرة ، وربما أشخاص ، إلا أننا في غالب الأحيان نقف مراراً وتكراراً أمام صندوق الرسائل المغلق ، المليء بالذكريات ، بكل أولئك الذين ذهبوا ولم يعودوا ، وبنا حين كنا هناك ..
نحن أنانيون في اقتباس اللحظة ، صورة ، قصاصة ورق، نحتفظ بالضحكة الوحيدة المتاحة لأنفسنا ، نجمدها في إطار الزمن ، نفعل ذلك من أجل أنفسنا بكل أنانية ، ونحن نعلم أنه أعظم الإحسان ...!
نفرط بالحياة، حقيقة نهدرها تدريجياً، كلما زاد تعلقنا بمواقع التواصل الاجتماعي ، التشبث بكل شيء ، الرغبة العارمة أن نكون في كل الأماكن ، كل فرح وحزن ، حتى نصبح غير متواجدين ، قطع صغيرة في كل شيء ، وليست محسوبة لشيء!
ما هي الجائزة لكل هذا ؟! كل مرة نفكر فيها في مجمل الأشياء التي نفوتها، مع أن ذلك يتسبب لنا في تفويت أشياء جديدة، نتذكرها لاحقاً ونندم على تفويتها، إننا نعتني بالندم جيداً ..
لقد تنازلت عن المقاعد الأولى في عرض مسرحية الحياة، لم تكن المقاعد في الصفوف الأخيرة البعيدة بالسوء المتوقع، ذلك بإعتبارات شخص يريد الجلوس وحسب..!
لدي استعداد على أن أكتب لكم جميعاً رسالات بخط يدي ، اذهب للبريد لأرسلها لكم ، على أمل رد منكم بعد أسابيع ، كأم تنتظر ابنها العائد من المجهول !
إنني اريد أن أصل لتلك المرحلة ، التي لا يُغضبني تأخر رد لدقيقة ، رؤية رسالة وتجاهلها ، الردود الباردة ، والعلاقات التي تبدأ بكلمة وتنتهي بكلمة ، أقل من مسافة رسالةٍ حقيقةٍ واحدة ، تتأخر مع ساعي البريد !!
من الهشاشة التي فينا، صرنا نحب من يتابعنا، نكره من يتجاوزنا، نقدر من يرد علينا، نحقد على من يتجاهلنا، إننا نعامل هذا الوهم بجدية بغيضة ...
..أعتدت أن أختتم رسائلي بجملة:
"أرجو ألا تكون بحاجتي في أية لحظة"
ولم أكن أفهم لماذا يبدو أن ذلك تمهيد للخذلان، بالرغم من أنه هوس بالإكتفاء...!
الآن صارت مسافة إصبع أبعد بكثير ، كثير جداً من بلدان كانت تفصل المحبين ، و لا ينقص كل هذا من الانتظار والأعذار شيء ..المعلقة أرواحهم بظرف ورسالة !
د/ نورهان عزت
طبيبة أسنان وكاتبة فلسفية
https://www.facebook.com/lam3at.zomorod