الشك عند ديكارت و الغزالي - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الشك عند ديكارت و الغزالي

فلسفة الذات

  نشر في 23 يوليوز 2019 .

عالمٌ نحرير قلّ نظيره في تاريخ الإسلام، وجهبذ من جهابذة العلماء، عاش في زمن دولة السلاجقة وعاصر الحروب الصليبية، وكان له منهج إصلاحي متفرد من خلال تشخيصه لأمراض المجتمع ووضع منهاج للتربية والتعليم وبناء العقيدة الإسلامية ومحاربة التيارات الفكرية المنحرفة ، وإصلاح الفكر، إنه حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي.

إن التعرف على حياة هذا العالم الجليل ومعرفة أسباب نبوغه وعلمه، هو استشفاف لنموذج فريد لرجل أنجبه الإسلام العظيم

ولما كان للحقيقة سحرا فقد انجذب لحبها ذوو العقول الثاقبة وانصهر عشقا في هيامها كل ذي نهية ولب، تاركين وراء ظهورهم إرث الآباء وتقاليد الأسلاف حتى وإن كان ذلك تحت طائلة التهديد والعقاب. نمثل بالفيلسوف سبينوزا الذي ترك دينه اليهودي طلبا للحقيقة التي غازلها بقوله: “الحقيقة معيار ذاتها كالنور يعرف بذاته”.

وكتشبيه للمختلط من الأفكار والمعتقدات والأحاسيس نذكر المثال الآتي: مثل الذي يعرف الإيمان نظريا ولـمّـا تخالط بشاشته شغاف قلبه كمثل الغني يسمع عن الجوع ولم يطعمه: أنّى للمشبَّه أن يتلذذ بالأنس بالله تعالى، وأنّى للمشبه به أن يحس بآلام الجوعى.

حيث يرى الغزالي أن الشك في جميع المعارف التي يتلقاها المرء أمر ضروري لبلوغ الحقيقة. يقول في كتاب ميزان العمل: "الشكوك هي الموصلة إلى الحق فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال"، (ميزان العمل، ص 409). والبصر هنا دليل على القدرة على رفض المعرفة الخاطئة كيفما كان مصدرها، لذلك يقول في المنقذ: "ومن قلد أعمى فلا خير في متابعة العميان" (المنقذ، ص 77) ويقول في ميزان العمل: "انظر ببصرك فإن كنت أعمى فما يغني عنك السراج والشمس" (ميزان العمل، ص 228). والشك الذي يقصده الغزالي ليس ارتيابيا، وإنما منهجي لأنه يؤمن بوجود حقيقة. وما دفع الغزالي للتعاطي للشك هو كثرة المذاهب والطائف واختلافاتها وادعاءها جميعا بامتلاك الحقيقة. يقول في "المنقذ من الضلال": "... أتفحص عن عقيدة كل فرقة وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق وباطل" (المنقذ، ص 64). واتضح له أن سبب الآفة هو التقليد والتلقين، لذلك وجب الشك في ما ينتج عنهما من معارف، وهو لم يشك في العقيدة، وإنما شك في طرق تلقينها وتعليمها. فهو يقول من جهة: "رأيتُ صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام" (المنقذ) ويقول من جهة أخرى: "كان قد حصل معي إيمان يقيني بالله تعالى، وبالنبوة وباليوم الآخر. هذه الأصول الثلاثة من الإيمان كانت رَسَخَتْ في نفسي بأسباب وقرائن وتجاريب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلُها" (المنقذ، ص 125)

و يهاجم الغزالي الحواس بسبب خداعها، ويقدم عدة أمثلة على ذلك في كتابيه "معيار العلم" و"المنقذ من الضلال". وهكذا يتضح منذ البداية أن التخلص من التقليد والتلقين والتسلح بالشك الموصل للحقيقة ليس كافيا، فظهر أن عدو الحقيقة الآخر هو الحواس. يقول الغزالي في "المنقذ": "من أين الثقة بالمحسوسات وأقواها حاسة البصر، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفا غير متحرك وتحكم بنفي الحركة؟... هذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيبا لا سبيل إلى مدافعته. فقلت قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضا" (المنقذ ص 71)

ثم يتأمل الحقائق الرياضية التي تمثل المعارف العقلية خير تمثيل فيحدها هي بدورها غير يقينية، ويتصور حوارا بين المحسوسات والعقليات جاء فيه: "فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات، وقد كنت واثقا بي، فجاء حكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر في تصديقي" (المنقذ، ص 72). ويضيف موضحا هذا النقد وضرورته: "ولعل وراء إدراك العقل حاكما آخر إذا تجلى كذب العقل في حكمه، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحي في حكمه. وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته" (المنقذ، ص 72).

بل يذهب بعد تفنيده للحواس والعقل، إلى افتراض وجود من يضلنا ويغوينا (وهو ما يذكرنا بالمضل الديكارتي سواء كان إلها أو شيطانا). يقول في كتابه "الاقتصاد في الاعتقاد": "فهب أنهم رأوا الله تعالى بأعينهم وسمعوه بآذانهم وهو يقول: (هذا رسولي ليخبركم بطريق سعادتكم وشقاوتكم)، فما الذي يؤمنكم أنه أغوى الرسول والمرسل إليه، فبمَ نعلم صدقه، فلعله يُلبِّسُ علينا ليغوينا ويهلكنا" (الاقتصاد في الاعتقاد، ص 102)

يشبه ديكارت، كما فعل الغزالي، من لا يتفلسف، بالإنسان الذي لا يستخدم عينيه وهو يمشي، فيسترشد بشخص آخر ويغمض عينيه. كما بدأ ديكارت بنقد ورفض التقليد والعادة كمصدرين للمعرفة. يقول في المقال عن المنهج: "تعلمت ألا أعتقد اعتقادا جازما في شيء ما بحكم التقليد أو العادة، وكذلك تخلصت شيئا فشيئا من كثير من الأوهام التي تستطيع أن تخمد فينا النور الفطري" (المقال عن المنهج)

هدف ديكارت، مثله في ذلك مثل الغزالي، إلى بلوغ الحقيقة، وهذا يجعل شكه منهجيا. يقول: "كانت رغبتي شديدة دائما في أن أتعلم كيف أميز الحق من الباطل" (المقال عن المنهج). لم يتنكر ديكارت للعقيدة ولا للقواعد الأخلاقية، كان يريد بلوغ الحقيقة بقوة العقل الفطرية (وهو ما أسماع الغزالي حقيقة الفطرة الأصلية). وبعد رفضه للمعارف الناتجة عن التقليد والعادة، هاجم ديكارت الحواس، وطالب بالتخلص من جميع المعارف التي يحصل عليها المرء "من الحواس أو بواسطة الحواس" (التأملات). ويضيف قائلا: " كل ما تلقيته حتى اليوم وآمنت بأنه من أصدق الأشياء وأوثقها، قد اكتسبته من الحواس أو بواسطة الحواس، غير أني جربت هذه الحواس في بعض الأحيان فوجدتها خداعة، ومن الحكمة ألا نطمئن كل الاطمئنان إلى من خدعونا ولو مرة واحدة" (التأملات – ص 54). وبعدما عبر عن ثقته في المعرفة العقلية مقارنة مع المعارف الناتجة عن الحواس التي تبين خداعها، عاد ليشكك في المعرفة العقلية نفسها. يقول في "التأملات": " ومع ذلك فإن معتقداً قد رسخ في ذهني منذ زمن طويل، وهو أن هناك إلهاً قادراً على كل شيء، وهو صانعي وخالقي على نحو ما أنا موجود، فما يدريني لعله قد قضى بأن لا يكون هناك أرض ولا سماء ولا جسم ممتد ولا شكل ولا مقدار ولا مكان، ودبَّر مع ذلك كله أن أحس هذه الأشياء جميعاً، وأن تبدو لي موجودة على نحو ما أراها؟ بل لما كنت أرى أحياناً أن أناساً يغلطون في الأمور التي يحسبون أنهم أعلم الناس بها، فما يدريني لعله قد أراد أن أغلط أنا أيضاً كلما جمعت اثنين إلى ثلاثة، أو أحصيت أضلاع مربع ما"‏ (التأملات ص 57)

حدث المفكر العربي المعروف د/‏‏ زكي نجيب محمود في بعض كتبه عن فلسفة الإمام ورؤيته تجاه العديد من القضايا الفكرية والفلسفية، ومن أهم الأفكار التي أشار إليها الغزالي وسبق بها الفيلسوف الفرنسي (رينيه ديكارت)، الذي يتم نعته بأبي الفلسفة الحديثة، المقولة الشهيرة التي تنسب للأخير (أنا أفكر، إذن أنا موجود)، لكن العديد من العلماء والفلاسفة يرون أن الإمام الغزالي سبق ديكارت في هذه الرؤية الشهيرة للوجود الإنساني، لكنها بصيغة (أنا أريد، إذن أنا موجود قادر)، وتذكر الموسوعة الحرة أن بعض العلماء «تمكنوا من إثبات أن ديكارت قد سرق من أفكار أبي حامد الغزالي وخاصة من كتابه (المنقذ من الضلال)، ولا يقتصر ذلك على تأويل التشابه الواضح مع أفكار الغزالي الذي سبق زمن ديكارت بما يقارب الخمس قرون، بل يقول الباحث التونسي الراحل عثمان الكعاك أنه عثر على نسخة من كتاب المنقذ من الضلال للإمام الغزالي، مترجمة إلى اللاتينية، في مكتبة ديكارت الخاصة بمتحفه في باريس، وفي إحدى صفحاتها إشارة بالأحمر تحت عبارة الغزالي الشهيرة «الشك أولى مراتب اليقين»، وعليها حاشية بخط يد ديكارت بعبارة «تُنقل إلى منهجنا». ذلك رغم أن ديكارت لم يُشر إلى الغزالي في أي من مؤلفاته» ويعلق د/‏‏ زكي نجيب محمود في كتابه «رؤية إسلامية» على مقولة الإمام الغزالي في مسألة الإرادة فيقول: «لا بد أن تكون هذه الصيغة التي اخترناها لنصب فيها الوقفة الغزالية. قد ذكرتك بالصيغة الديكارتية المعروفة «أنا أفكر،إذن أنا موجود» (وديكارت بعد الغزالي بستة قرون) وحقيقة الأمر هي أن الشبه شديد من حيث «المنهج» -وليس من حيث المحتوى- بين الغزالي وديكارت وأقرأ عن خطوات المنهج الذي يؤدي بالإنسان إلى اليقين في كتاب» محك النظر» للغزالي، تجد نفسك على وشك أن تتساءل: ماذا بقى بعد ذلك لديكارت؟ إذ ربما كان ركن الأساس في المنهج عندهما واحداُ، وهو ضرورة البدء بحقائق لا تحتمل أن يشك فيها بحكم طبيعتها المنطقية ذاتها ثم هناك بين الرجلين شبه آخر، لا يقل أهمية عن ركن الأساس الذي ذكرناه لتونا. وذلك الشبه الآخر هو أنه بالرغم من أن المبدأ الديكارتي يبدو وكأنه استدلال نتيجة من مقدمة، ففي كلمة «إذن» التي بين طرفين ما قد يوحى أن الطرف الثاني أخذ مستدل من الطرف الأول، إلا حقيقة الأمر عنده هي أن طرف «التفكير» وطرف «المفكر» وجهان لحقيقة واحدة، وكذلك الأمر بالنسبة للإمام الغزالي، فإذا كانت الإرادة هي بمثابة الأمر «كن» فتأتي الاستجابة فهاهنا كذلك يكون الطرفان وجهين لحقيقة واحدة.»(ص132)

وأتصور أن تكون الإرادة الإلهية العليا التي علي الإنسان أن يلتزمها مع تفصيلات سلوكية تترك له الحرية فيها، وتقع عليه المسؤولية فيما يترتب عليها، هي أن يسير الإنسان علي النهج العام الذي يسير عليه الكون العظيم، كما خلقه الله وكما “أراد له أن يسير.. فالأساس إذن هو: نظام لا فوضوي، تعمير لا تخريب، بناء لا هدم، نماء لا ضمور، ازدهار لا ذبول، قوة لا ضعف، تعاون لا تناحر، خير لا شر.. الخ.على أن الله ـ سبحانه وتعالي ـ قد أنزل في رسالته السماوية مجموعة من الأوامر والنواهي، تتجه كلها نحو أن تعين علي إقامة ذلك الإطار المبدئي العام، فالكون تحكمه قوانين، وعظمة الله إنما تتجلي في أن القوانين مطردة لا خلل في اطرادها، وحتى إذا ظهرت ظاهرة قد يظن أنها قد شذت عن القانون، كانت حقيقة الأمر قيها هي إنما خضعت لقانون آخر أعم أشمل. ومدى ما يستطيعه الإنسان إزاء تلك القوانين إذا أراد معرفتها – ولابد له أن يريد ذلك طاعة لأمر الله في كتابه الكريم -أقول- إن غاية ما يستطيعه الإنسان في هذا السبيل، هو أن يحاول قراءة الظواهر الكونية -أي فهمها- بالكشف عن قوانينها. فهنالك “ضوء” يراه، فما هي القوانين التي تنظم مسارات الضوء؟ وها هنا يمكن أن يكون للعلماء في كل عصر طريقة يختلفون بها عن علماء العصر الذي سبق عصرهم، وذلك حين يتكشف لهم أن فهم السابقين لظاهرة الضوء لا تغطي كل الحالات التي شهدها الإنسان في مجال تلك الظاهرة، فتبدأ محاولة جديدة نحو قراءة جديدة، لعلهم يقعون علي ما يفسر جميع الحالات التي صادفتهم في ظاهرة الضوء وهكذا يتقدم العلم، لكنه في كل خطوة من خطوات تقدمه، لا يستغني عن افتراض مبدئي ضروري، هو أن هنالك “نظاما” ما.. ونحن البشر نبحث عن ذلك النظام، ولا يعقل أن يجد الإنسان مدفوعا نحو البحث عن قوانين الكون، أي البحث عن “نظامه”، ثم يكون هذا الإنسان قد بني علي الفوضى بغير أهداف، وبغير وسائل يحقق بها ما استطاع من تلك الأهداف». ولهذا فان الإمام الغزالي كان السباق إلى طرح منهج الشك إلى اليقين،بما يجعله أول من أسس هذا المنهج وليس الفيلسوف ديكارت الذي يسمى أبو الفلسفة الحديثة.



   نشر في 23 يوليوز 2019 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !


مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا