مخاطر الأفكار ، بين إدغار موران و طارق رمضان
نشر في 23 أكتوبر 2017 وآخر تعديل بتاريخ 09 نونبر 2022 .
نظم في صيف سنة 2013 بأحد فنادق مدينة مراكش الفاخرة بالضبط في حدائق المامونية ، حوار شيق بين ثلاثة مفكرين ، واحد مدير للنقاش و الآخرين أطراف له ، و هما "إدغار موران Edgar MORIN" الفيلسوف و عالم الإجتماع الفرنسي ، و الآخر هو "طارق رمضان Tariq RAMADAN" أستاذ الفكر الإسلامي المعاصر بجامعة أوكسفورد ، أما مدير جلسة الحوار فكان هو الكاتب و المفكر الفرنسي "كلود هنري دي بور Claude Henry Du BORD" ، فمن شدة جمالية الحوار و رصانة طرحه و عمق أفكاره ، اقترحت فكرة جمعه و استكتابه على شكل كتاب ، تحت عنوان "في مخاطر الأفكار، الأسئلة الكبرى لزماننا au péril des idées - les grands questions de notre temps" ، و هو ما كان حيث طبع أول مرة بباريس سنة 2014 تبعا لدار نشر Chatelet ، كما تكررت طبعاته مع دور نشر آخرين كـArchipoch سنة 2015 ، نشير أيضا إلى أن الكتاب ترجم من طرف "محمد صلاح الشياضمي" و صدر عن دار "افريقيا الشرق" سنة 2015 .
الكتاب يتجاوز 300 صفحة ، كما يتوزع على 9 أقسام تناقش موضوعات بحيالها و من مرجعيات فكرية مختلفة ، نظرا لاختلاف ثقافة أطراف النقاش و كذا طبيعة الأفكار الذي عقد حولها الحوار و التي تأبى الإجماع عالميا حول إن هي على جهة الإفادة أو على جهة الضرر ، عموما فقد يمكن تكثيف خلاصة عامة حول الكتاب في أسطر كالآتي : " أنه احتواء لنقاش ساخن بين مسلم و لاأدري في موضوعات خلافية و شديدة التعقيد كالله و الدين و العلمانية - منزلقات الديموقراطية -التشدد - الأصولية - الإنسان - المرأة - القضية الفلسطينية - الأخلاق - اندماج و حقوق المهاجرين ... أي إعادة التفكير في العالم من منطلق التفكير العقلاني و البحث عن سبل حلحلة أسئلته و أزماته الكبرى " .
ثم استهلال الحوار بتأصيل فلسفي لمعنى الحوار من طرف "كلود هنري دي بور" ، و كما توضيح طبيعة النقاش الذي لا يعرف سقفا و لا خجلا أو خوفا من طرح الأسئلة أو عرض أفكار كيف ما كان نوعها للنقاش النقدي الراديكالي ، كل ذلك و في توجيه للمتحاورين من أجل الإبتعاد عن لغة الخشب أو المداهنة ، في قالب ينئى عن التعقيد دون فقدان للعمق و الرصانة .
ما إن تحددت الخطوط الكبرى للنقاش ، حتى انطلق الحوار في أول أقسام الكتاب الذي أخد عنوان "Dieu et les hommes .. et les femmes" أي "الله الرجال .. و النساء" ، حيث اعترف "دي بور" بأن إدغار موران يعتبر مفكر كبير و مرجعي و يحضى باحترام كبير في أوربا ، عكس طارق رمضان الذي يعاني من تشويه متعمد لسمعته و فكره نظرا لعدة أسباب من بينها ، كون والده "اسماعيل رمضان" كان أحد أهم عملاء "الإخوان المسلمين في سويسرا أو أوربا بشكل عام ، و هو ما ورث لإبنه طارق نظرة مهما علا قدره الأكاديمي يبقى غير منفك عن سطوتها أو سلطتها الرمزية ، لعل ذلك ما يساهم في عدم الإعتراف به كمفكر بل كأستاذ بسيط ، بل وصلت الوقاحة بـ"مانويل فالس Manuel Valls" رئيس الوزراء الفرنسي أن رفض سنة 2012 الجلوس مع طارق رمضان على طاولة نقاش واحدة ، و هو ما جعل "دي بور" يجد نفسه ملزوزا إلى طرح سؤال العنصرية ؟ على المتحاورين .
يعلق إ.موران مستنكرا لهذه الظاهرة ، التي شجبت من طرف المفكرين و الأدباء ، غير أن السياسيين ظل نفر منهم لم ينسلخ بعد من عجرفته اتجاه الآخر الغير أوربي ، فطارق رمضان كما يوضح موران أن أفكاره الإسلامية التحررية ، البعيدة كليا عن التطرف أو الأصولية لم تشفع له بأن يُناقش في أفكاره ، من أجل التأسيس لتيار ثقافي إسلامي أوربي بعيدا عن تشدد إسلام الشرق ، و هو ما يمكن أن يخفف من غلواء التطرف في أوربا ، بدل ذلك راح الصحافيين و بعض الفاعلين الإجتماعين و السياسيين يعملون على إقصاء الرجل ، و استبعاده عن النقاش العام بدل الإستفادة من فكره المعتدل .
أما من جهته فقد أكد ط.رمضان أنه يُشَيطَنُ بالفعل في فرنسا و تعرض لعدة مواقف محرجة ، و يدلل عدم إحضائه بالإحترام و الإهتمام الكافي بالقياس إلى إ.موران ، هو أن هذا الأخير يقدم فكرا يمتاز بالعالمية ، أما رمضان فيقدم فكرا عالميا كذلك غير أنه ذا خصوصية إسلامية ، و هو ما يعتبر معه فكرا قاصرا عن امتلاك مجال يتوفر على الظروف المناسبة لإنبثاق الإندماج و القبول بالآخر والتعايش معه ، نظرا لهذه الخصوصية التي تجاوزها عالم اليوم ، يضيف ط.رمضان بأن اختلافه في الدين ، و تشبثه بإمبريالية أوربا كتهمة غير قابلة للتفنيد ، و بعض مواقفه السياسية المعارضة الأخرى ، كلها عوامل تعمق الفاصلة بينه و بين مثقفي أوربا و سياسييها .
بعد ذلك انتقل "دي بور" بالنقاش إلى موضوع العلمانية و الأديان في أوربا ، حيث عبر إ.موران عن كون العلمانية جزء مشرق لا يتجزء من مكتسبات الإنسان في القرن 20م ، إذ حفظت السلم الإجتماعي خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية أو وفق ما يسميه الفرنسيين بـ les trente glorsieux أو الثلاثون سنة الذهبية ، كما يشير إ.موران بأن العلاقة بين المسيحية و الدولة تطورت في اتجاه إيجابي ، ذلك بعض أن فهم الناس أن الدين مسألة شخصية "affaire privée" و مرجعية للأفراد و ليس للمجتمع أو الدولة ، و لكن تفسير العلمانية في السنوات الأخيرة أصبح حماسي وطائفي لأنه فقد المحتوى ، بحيث يتم التركز على الشكاليات ، دون مناقشة جذور العلمانية ، و هذا ما يعيدنا -حسب موران دائما- إلى فكر عصر النهضة ، أي لذلك الفكر المسكون بالتسائل الذي بدأ بالتشكيك و إعادة التفكير في الطبيعة ، العالم ، الله، المجتمع ، الحقوق و الثقافة ، بل حتى العقل نفسه الذي يعتبر أداة التفكير أصبح و يجب أن يبقى موضوعا للتفكير ، يقول موران : "se rend compte qu’il n’y a pas seulement le monde à interroger avec la raison, mais que la raison elle même est l’instrument qui doit être interrogé" . ما يعني أن العلمانية كانت تتأسس على ثقافة إنسانية غنية جدا ، أما اليوم في أوربا فالعلمانية تمارس دون خلفية ثقافية رصينة كما كان في السابق ، و هذا ما يفسر تفجر الحقد و العنف و العنصرية ، و بالتالي فالعلمانية مؤخرا أفرغت من محتواها ، لكي تغرق في نقاشات شعبوية حول بعض الظواهر كالحجاب و غيره .
من جانب طارق رمضان فهو الآخر استنكر ردة العلمانية إلى أصولية جديدة ، حيث أن مبادئها سامية كما حددها عصر النهضة ، تتجسد في فصل السلط ، حتى لا يكون للديني الكلمة النهائية على السياسي ، من أجل ضمان وجود فضاء تتقبل و تتنوع فيه المعتقدات ، و بالتالي الحفاظ على حرية التفكير و الإعتقاد ، وبذلك فإن مسألة حماية الفضاء العام تستند إلى قبول التنوع والعالمية حسب العلمانية و هذا مبدأ يجب الدفاع عليه . لكن مع مرور الوقت ، تحور جوهر العلمانية بشكل سلبي ، إذ يعتبر رمضان بأننا تحت هذه الظروف أمام نوع من غطرسة الفكر الفلسفي والسياسي العلماني المعاصر . من جانب آخر -وقد يبدو هذا غريبا- أن رمضان يعتبر أن الإسلام عرف فصل السلط و العلمانية قبل أوربا ، هذا ما يدعمه الفيلسوف "آلان دي ليبيرا Alain de Libera" بطريقة معينة ، و بذلك لا يوافق على الفكرة القائلة بأن الإسلام يخلط بين السلطات ، و أن النظام السياسي الإسلامي ثيوقراطي في طبيعته ، هذا ما يجعله مناصرا لهذا المبدأ الذي انتزعه رمضان من "جون جاك روسو" و أرجعه إلى فقهاء القرون الوسطى . أي أن رمضان بشكل عام يرى في العلمانية ضرورة معاصرة لكن في حدود معينة ، يشجب تحول العلمانية إلى "أداة نفي" لا "أداة فصل" فقط ، إذ يؤكد أن المشكلة ليست في الأديان و لا المتدينين و إنما في فهم مشوه للعلمانية ، و هنا نقتبس بالحرف ما يلي : "La source du problème n’est ni l’islam, ni la chritienisme, ni même les religions, mais une mauvaise compréhension de la laïcité " .
بعد ذلك ينتقل الحوار إلى المرأة و حقوقها بين الخصوصية و العالمية ، حيث عبرا المفكرين معا على كون حرية و استقلالية المرأة حقوق غير قابلة للتفويت، من أجل ضمان مشاركة فعالة من طرف المرأة بإزاء الرجل في المجتمع المعاصر .
يمتد النقاش إلى القسم الثاني حول عدة موضوعات كالعلم و الوعي - الإيمان و العقل - التوقع و المعرفة أي "SCIENCE ET CONSCIENCE, FOI ET RAISON, INTUITION ET SAVOIR" .. حيث عرف هذا الجزء من الحوار مشاركة زوجة إدغار موران في النقاش السيدة "صباح أبوسالم" و هي مغربية الأصل ، إذ أثارت إشكالية عويصة جدا ، و هي تلك المتمثلة في التعارض بين القانون الديني الكلاسيكي و مكانة و فاعلية المرأة المعاصرة ، لعل من بين مظاهر هذا التعارض مسألة حرية و حقوق المرأة ، و "الإرث" الذي يعلي فيه الإسلام نصيب الرجل على حساب المرأة ، فكيف كان رد طارق رمضان ؟
رد رمضان ، جاء تأكيدا على أن الخطاب الإسلامي التقليدي يدعوا إلى المساواة في الكرامة "l’égalité à la dignité" و أمام الله و يشير إلى مفهوم "التكامل" على المستوى الاجتماعي ، أي أن الإسلام ينظر للمرأة و الرجل على أنهم كائنات تكاملية ، لكن يجب تعديل فهمنا للنصوص الذي يعتقد أنها تسقط مساواة الرجل بالمرأة ، حيث يؤكد رمضان نداءه إلى السير في هذا الإتجاه ، أي اتجاه إعادة قراءة النصوص على ضوء مستجدات الزمان ، عبر دعوته إلى: المساواة الاجتماعية، المساواة في القانون، المساواة السياسية ، المساواة في الأجر ، بين الجنسين في زماننا المعاصر . و هذا هو ما يجب الدفاع عنه و الترويج له حسبه ، وليس التفسير الظاهري للنص ، كل ذلك مع مراعاة سياق الرسالة الإسلامية و مقاصدها ، أي بما لا تعارض هذه المساواة و في نفس الوقت بما لا يحرف مقصد الشرع . كما يدعوا طارق رمضان في هذه المسألة إلى بادرة جميلة ، و هو المتجسدة في تكوين "فقيهات نساء" حتى يعملون على إنتاج تفسير أو تأويل أنثوي للقرآن Interprétation féministe du coran ، و هو ما سيكون مختلف كثيرا عن القراءة الذكورية للفقهاء ، و هذا ما سيفتح باب المقارنة و بالتالي تأسيس فقه جديد مأخوذة عناصره من تفسير الفقيهات و الفقهاء معا ، و هو ما بإمكانه حلحلة مسائل عديدة فيما يخص سؤال المساواة بين الجنسين في الإسلام .
هذا ما قاد الحوار إلى الحديث عن ظهور "وعي أنثوي" جديد ، تجسد في جمعيات حقوقية ، و حركات إجتماعية أنثوية ، و اقتحام المرأة لعدة مجالات كانت لوقت قريب ممارستها وقف على الرجل حصرا ، كل ذلك يتغيى تحقيق المساواة الكاملة ما بين الجنسيين ، و الوصول إلى الإستقلالية و الحرية المنشودة . هنا يدخل "إدغار موران" و بحسه السوسيولوجي ، يحلل ظهور هذا الوعي كنتيجة لعدة تغيرات و تحولات عرفها العالم الحديث ، لعل عوامل مثل تعميم التعليم -انتشار العلم و سهولة الحصول على المعلومة- خروج المرأة للعمل - سن قوانين تكفل هامش كبير من الحرية للنساء - وسائل الإتصال الحديثة التي تكثف التثاقف ما بين نساء معظم المجتمعات... كلها عوامل دفعت باتجاه انبثق هذا الوعي و هو ما ترتب عنه الدعوة إلى "الإعتراف Reconnaissance" بدور و قيمة المرأة ، و كذا النداء إلى كسر كل الخطوط الحمراء التي تعيق مسار تطور مكتساباتها .
بعد ذلك تطرق المتحاورين إلى ظاهرة انفلات المعايير في المجمعات الحديثة ، فطرح سؤال الأخلاق ، الذي شدد كل من موران و رمضان على ضرورة تعزيزه في نفوس الناس ، من جانب آخر حلل موران سلبية استعمال "تقدم العلم" ، الذي يستعمل ليس في الخير أو تطوير إنسانية الإنسان أو محاربة الأخطار الصحية التي تحدق به ، و إنما من أجل تطوير أسلحة الدمار الشامل و الهيمنة و إذلال و استغلال الضعفاء ، و كذا السيطرة على الطبيعة و استنزاف مقدراتها الباطنية ، ذلك ما يؤثر بشكل كارثي على البيئة و المناخ ، و هو ما يجعل الإرتهان إلى الأخلاقي و الإنساني و العقلاني سبيلا للإعتناق من مأزق العولمة و الماكروأزمات المعاصرة التي تهدد مستقل الإنسانية .
تلى ذلك الإنتقال إلى القسم الثالث المعنون بـ "LE SENS DES MOTS : histoire, identité, réforme, éthique, popilisme" أي "معنى الكلمات:تاريخ-هوية-إصلاح-أخلاق-قومية" ، حيث عاد "دي بور" لتسيير الجلسة ، ذلك إذ طرح سؤال اللغة ؟ حيث وضح مدير النقاش تطور التفكير في اللغة في المجتمع الغربي ، الذي وصل إلى حد فهمنا معه أن اللغة "ربط لمدلول بصورة ذهنية" ، الشيء الذي يجعل موجودات ميتايزيقية مثل "الله" مجرد صورة ذهنية بشرية تفيد التمني و التوق إلى المطلق ، أما وجودها الحقيقي من عدمها فيعتبر محل جدل غير قابل للتوقف ، في نفس السياق يؤكد "طارق غمضان" أن اللغة حاملة لقوة المعنى والتعبير ، و الوحي بقدر ما تنغلق على سر ، مثل ذلك الذي يمتلك الصمت أيضا ، أي لا يضاهي شيء اللغة في سرها أكثر من الصمت ، كما يلاحظ أن زمن الإتصالات كسر حاجز التواصل الذي يصنعه اختلاف لغة الشعوب ، إذ ثم تجاوز هذا الإشكال مع تطبيقات الترجمة الفورية ، يضيف الدعوة إلى تطوير مستوى اللغة و جمالياتها عن طريق الشعر و الفن بواسطة المؤسسات التعليمية ، ذلك بعد أن اندحرت جمالياتها بين ثنايا الإستعمال الروتيني للغة ، إذ أن جمالية القول تأثر على جمال الفكر و بالتالي على صلاح الفعل .
أما "إدغار موران" فقد أبدى من جهته دور اللغة في تطور الإنسان بشكل عامه ، ثقافته و رؤاه و تمثلاته و معتقداته و هويته بل و حتى علمه و سلطته ، كل ذلك تطور بإزاء تطور اللغة ، وهذا ما يميز الإنسان على باقي الكائنات الحية ، يشير موران كذلك أن اللغة نفسها تتطور عن طريق الكتابة و الإبداع ، أي تتطور من طرف من يستعملها ، و هنا يتقاطع مع رمضان في الدعوة إلى تطوير اللغة عبر تجميلها و أنسنة عباراتها عسى أن يتأنس المستعمل لها ، إذ أن في ارتقائها تجسيد لإرتقاء الإنسان . من جانب آخر يمتد الحديث إلى الثقافة و الهوية و التاريخ ، حيث يرى موران التاريخ عبارة عن "سيرورة تحول processus de métamorphose" ، تحول الإنسان من وضع حضاري إلى آخر ، من حلقة تطورية بيولوجية إلى أخرى ، من مستوى ثقافي إلى آخر ، و بالتالي من نسق قيم و منضومة قيم إلى أخرى ، أي من هوية إلى أخرى ، ما يعني أن هذه العناصر الإنسانية تتحول حسب تحول الإنسان في كبرى أسقاعه الوجودية حسب مسار التاريخ ، تجدر الإشارة هنا أن موران يرى حدوث تحول métamorphose و ليس وقوع ثورة révolution ، لأن الأولى سيرورية جبرية الإنتقال إلى الأرقى ، عكس الثورة التي تعرف سيرورة ارتدادية إلى الخلف .
الحصيلة أن كل ذلك يستدعي حصول "الإصلاح Réforme" ، حيث يتفق كل من رمضان و موران أن العالم و الإنسان كانا و لا يزالا في حاجة إلى إصلاح ، في المعايير و الأخلاق و التصورات و السياسة و التعليم و التفكير ، من أجل صياغة مجال عالمي يتوفر على الشروط الممهدة و السامحة لإنبثاق شروط التعايش و قبول الإختلاف ، من أجل ضمان عالم يقوم على الإعتراف بالآخر و بالتالي جعل مسالمته و التعايش معه حتمية غير قابلة للإسقاط و لا للتجاوز .
يتمطط الحوار في القسم الرابع و الخامس إلى الحديث عن منزلقات و سوء فهم الديموقراطية Les mésaventures de la démocratie ، في علاقتها بالحميم أو الخصوصي l’intime و العالمي l’universel ، يشير طارق رمضان أن الديموقراطية تمارس شكليا -كالعلمانية- و لا تعكس مبادئها الكبرى خصوصا في اسياسة الخارجية للدول الديموقراطية ، التي لم تستنكف عن اجتياح معظم العالم المتخلف و استغلال ثرواته و مقدراته الطبيعية ، ذلك أن العامل الإقتصادي و هاجس التضخم الرأسمالي للدول الإمبريالية ، لا يبقي أي معنى سامي للديموقراطية في ممارستها العالمية أو الخارجية مع باقي دول العالم ، حيث لم تعد تعكس الديموقراطية دولة القيم و إنما دول المال و الإقتصاد ، هنا نقتبس عبارة جميلة لطارق حيث يقول :" On voulait un État libéré du contrôle de la religion, le voici sous contrôle de la nouvelle Église de l’économie et de la finance" أي: أردنا دولة متحررة من سيطرة الدين ، و ها نحن أصبحنا تحت سيطرة كنيسة الإقتصاد و المالية الجديدة " .. أي أن الديموقراطية تمارس في الدول الغربية "داخليا" فقط حيث لا تتجاوز الممارسات الديموقراطية حدود بلدانهم ، أما "خارجها" فيمارسون الفاشية . و هنا يطرح سؤال خصوصية و عالمية الديموقراطية و الثقافة و الفكر الأوربيين ، ألهم صلاحية التطبيق العالمي أو الخصوصي ؟ و على هذا الغرار تتحتم معيارية عملية تبني و تطبيق باقي منتجات الغرب الفكرية و العلمية و السياسية و الفنية و الإقتصادية .
أما من جانبه فقد أبدى كذلك "إدغار موران" تحفضه عن صلاحية الممارسة السياسية الخارجية للدول الديموقراطية ، بل حتى داخليا حيث يحيل على التجربة السوفييتية و الفاشية و النازية بالإضافة إلى ديكتاريات أوربا الشرقية ، حيث يؤكد "موران" أن الديموقراطية في أوربا تطورت بسبب منزلقات تطبيقاتها ، حيث يعبر موران عن أن الديموقراطية : " Elle a pu se développer à travers des épisodese en raison de leurs applications déviantes " ، أما عن صلاحية تبني و ممارسة الديموقراطية في الدول التي لم تعرف سيرورة إنتاج فكر و ثقافة ديموقراطية ، يرى "إدغار" أنها يمكن أن تأتي بنتائج عكسية كما حصل في دول الربيع العربي من جانب ، حيث يقصد "عدم التوفر على ثقافة ديموقراطية يحول هذه الأخيرة إلى ممارسة إستبدادية" ، أما من الجانب الآخر فيرى موران أن تبني الديموقراطية كثقافة من شأنه أي يهدم التقاليد المحلية و بالتالي الهوية الشخصية ، إذ هنا تتقاطع خصوصية المُتبنِي مع عالمية المُتبنَى ، حيث يضرب المثل هنا بنموذج المغرب الذي يرى أنه يفقد بعض تقاليده شيئا فشيئا بسبب التأثر بالآخر و كذا عبر سطوة الإقتصادي أو هاجس الربح ، و هو ما يجعله يقترح أن تبني الحداثة بما يحبل بها كالديموقراطية ، لا يمكن أن ينجح إلا عبر موافقته و استدماجه بالخصوصي ، حتى تصبح مسائل مثل "الديموقراطية" ليست فقط نماذج سياسية دخيلة ، و إنما "ثقافة تشاركية" تواكب خصوصية المحلي ، نقتبس هنا لموران اقتراحه بأنه إذا أردنا إنجاح الممارسة الديموقراطية في الدول غير الغربية فــ : " je dirais qu’il tient à l’équilibre entre tradition et modernité, tradition et développement " ، أي بشكل عام تتحتم ضرورة تحقيق التوازن بين الخصوصية و العالمية .
أشير كذلك بأن الحوار تجاوز تعيير الديموقراطية بما هو خصوصي و عالمي ، إذ تجاوزه إلى الأديان و الثقافات بشكل ، فاختياري تلخيص مواقف المتحاورين حول الديموقراطية بالذات ، حصل بسبب قيمتها في حاضرنا -العروبي الإسلامي- الثقافي و الإجتماعي و السياسي الذي يتميز بالإستبداد و التوتاليتارية و الداعشية .
ينتقل موضوع الحوار بعد ذلك إلى القضية الفلسطينية la question palestinine ثم البحث عن سبل/طرق جديدة à la recherche de nouvelles voies ، حيث أكد "طارق رمضان" أن موقفه من القضية الفلسطينية قد سبب له عدة مشاكل مع أنداده في أوربا و أمريكا ، فهو يعتبر إسرائيل "مشروع استعماري une entreprise coloniale" نشأت بدعم أور-أمريكي كرد اعتبار لشعب الهولوكوست ، الذي أجرم في حقه الأوربيين فردوا له الحق و الإعتبار لكن على حساب الفلسطينيين أرضا و شعبا و ثقافة ، حيث وضح رمضان أن "الدعم غير المشروط" للطبقة السياسية الأوربية لإسرائيل تعزوه أسباب تاريخية ، حيث يشعر الأروبيين أن لهم دينا يجب دفعه لليهود ، و هو ما ثم عبر المشروع الإستيطاني ، يضيف "طارق" أن ما سماه بـ« conspiration du silence - مؤامرة الصمت» ، حيث يسكت الإعلام و الرأي العام الغربي عن جرائم دولة الإحتلال في حق الفلسطينيين ، أما عندما يحدث عمل إرهابي قامت به مجموعة إسلامية صغيرة ، فإن الإعلام و الأكاديميين الغربيين يقيمون الدنيا و لا يقعدوها و يحملون المسؤولية للأمة العربية و الإسلامية بشكل عام ، أما الحصار و المجازر و جرائم الحرب التي يرتكبها الإسرائيليون فلا أحد يتحدث عنها ، و هذا ما يضرب في العمق قيم أوربا و يبين زيف وقوفها مع المظلومين في العالم ، ينتهي "رمضان" في البحث عن طريق جديد للتعايش مشددا على "حل الدولتين" على الأقل من أجل حفظ كرامة و كفل حقوق الفلسطينيين .
أما من جهته ، فقد عبر "إدغار موران" على أنه يهودي الأصل ، لكنه تجرد من يهوديته و أصبح "لاأدريا Agnostic" ، يتذكر بأن العرب عندما حشدوا جيوشهم من أجل اقتحام إسرائيل في حرب "الأيام الستة" ، اعتقد أن العرب سيمحون اسرائيل من الوجود ، لكن من بعد ذلك تأكد العكس و انتصرت اسرائيل ، يشجب "موران" كذلك الغطرسة الإسرائيلية و الجرائم التي ترتكبها في حق الفلسطينيين ، كما يتأسف على وضع الفلسطينيين في المخيمات المؤساوية كما استنكر انقسام و تشتت مواقف و استراتيجيات الحركات السياسية الفلسطينية ، من جانب آخر يشير إدغار إلى أن الصراع معقد حيث احتُبِل السياسي بالديني و التاريخي ، حيث يكاد البعض يخفق في تحديد طبيعة الصراع أهو ديني أم سياسي من الجانبين ، حيث يرى اليهود أن هذه الأرض عطية من الرب ، ما يدفع موران إلى القول : "Or quand Dieu entre en scène dans une guerre, aucune conciliation n’est possible, surtout lorsqu’il s’agit de dieux ennemis qui sont pourtant le même Dieu " ، أي ما إن يدخل الله في الصراعات حتى تتعقد و يصعب فهمها و بالتالي حلها ، يذهب موران إلى أن إسرائيل تتقوى أكثر كلما تضاعفت و تفككت الدول المحيطة لسوريا و العراق ، تاليا يستعير موران -بلهجة تمحذرية- قولة لفيكتور هيغو يقول فيها :« Dans l’opprimé d’hier , l’oppresseur de demain » ، أي "مظلوم الأمس ، هو جلاد الغد" . أخيرا يذهب موران و يتفق مع طارق رمضان في أن الحل الأقرب و المنصف جزئيا ، هو حل الدولتين ، في استقلال شبه تام و دون همنة إسرائيلية .
في باقي أجزاء الحوار من هذين القسمين ، شجبا كلا المفكرين كل من جهته تغول الآيديولوجيات الشمولية و بعض اتجاهات الإقتصاد السياسي الجديد ، كالليبرالية المتوحشة التي تفرق على جزء من العالم الرفاهية و الترف و توزع على باقي العالم الفقر و الإملاق ، ما يجعل رمضان و موران يعتبرون قيم كالتضامن و التعاون بين شعوب الأرض شيء ضروري من أجل وقف هيمنة النهابين -كما سماهم جون جيغلر- ، كما يجعل كلا المفكرين الأنسنة و العقلانية رهان لا محيد عن تبني قيمه من أجل الإنعتاق من أزمات الإنسانية . في ركاب نفس الموقف يحرض "دي بور" على أن الفكاك من هيمنة السوق و السياسة يستدعي وعي بمهالك الإنخراط في هذا الإتجاه ، و هو ما يحتم كسر ما يفرق الشعوب و يذهب الوداعة و الأخوة بينهم ، وهنا يستعير قولة مؤداها أن : «Le Dieu donne les noix, mais il ne les casse pas» أي أن الله يمنح جوز الهند لكن لا يكسره للإنسان ، إذ على هذا الأخير تكسيره بنفسه إذا أراد تدوق طعم الفاكهة اللذيذ ، نفس الشيء ينطبق على وضعية البشرية أمام الهيمنة الإقتصادية و السياسية ، حيث يجب عليها كسر فاعلية هذا "الإستعباد الجديد Nouvel asservissement" بالإعتماد على قواها الإجتماعية العالمية .
يتمطط الحوار إلى أحد أهم موعقات العالم الحديث و القديم ، و هو إشكالية "الأصولية أو التعصب الديني - Fondamentalisme" ، من جانب "إدغار موران" يرى أن الأصولية من أكبر أعراض أحد أمراض البشرية المتفاقمة ، حيث يأشر إلى عودتها حتى في أوربا و إن في أشكال جديدية ليست بالدينية أساسا ، ذلك إذ نرى في أوروبا اتجاهات تراجعية ، خصوصا سياسية تحن إلى الماضي و تتطلع إلى انقطاع سبل التعايش مع العالم الخارجي ، أما في العالم غير الغربي خصوصا الإسلامي ، فإن المرض يُرى تعفنه ليس فقط داخليا بل حتى خارجيا ، في شكل تنظيمات متطرفة و إرهابية تعتدي على كل من تستطيع الإعتداء عليه ، حيث لا يوجد في عرفها سوى لإنغلاق المجتمع ، و رفض الآخر الأجنبي، و المختلف ... و من نتائج ذلك نجد استبعاد الأقليات من السلطة ، السخط و البطالة و البؤس و قلة الإمكانيات ، لعل هذا ما يغذي النزعة الأصولية ، إذ كلما شعر الإنسان بقصوره عن تلبية حاجياته تقوقع أكثر عن ثقافته و ماضيه ، و صارت لديه حساسية اتجاه الآخر ، تعبر عن نفسها عبر المواقف الحدية التي تترجم إلى عدم القبول بالآخر أو الإختلاف . ما يزيد في الطنبور نغمة حسب موران هو الأديان حيث تعزز المواقف الرافضة للجديد كما تغذي التطرف و التشرنق داخل المحلي فقط ، يقول موران: " Cette idée d’une guerre de religions, ou plutôt cette composante religieuse d’une guerre de civilisations est ce qui favorisera de part et d’autre le pire et le radical " .
من جانبه أيضا فقد أظهر "طارق رمضان" أن الأصولية طاعون الماضي و الحاضر ، غير أنه يدعوا إلى تحديد دقيق إلى ما ندعوه أصولية حتى لا نتيه فيما سماه "حوارات الصم dialogues de sourds" ، ذلك حيث وضح أنه حسب التقليد الإسلامي ، هناك تيار حرفي و إصلاحي . الأول هو تيار السلفيين الذين يعود إلى المصدر ، ولكن بطريقة حرفية ، بدلا من السلفيين الإصلاحيين الذين يرتؤون العودة كذلك إلى المصدر، و لكن بهدف العثور على الإبداع من الأصل ، أي من أجل البحث عن ما يحرر لا ما يقيد ، إن التيار الحرفي السلفي هو من له الخصائص الرئيسية لما يقصد أو يعني ضمنيا بـ"الأصولية" ، و هو تيار يتمدد و يتعاظم باستمرار خصوصا مع توالي سقطات و أزمات العالم العربي من جانب ، و اكتساح الأحزاب الإسلامية للمجال السياسي من جهة أخرى .. في سياق آخر يتحدث طارق رمضان عن كون الأصولية في أوربا انتقلت من الدين إلى السياسة ، حيث يناقش ما أسماه تبعا لبعض المفكرين الغربيين بـ"الأصولية العلمانية l'intégrisme laïque " ، حيث يرى أن بعض مناصري العلمانية في شكل بعض ممارساتها المعاصرة ، يجددون الروح العقائدية الإنغلاقية ، ما جعلهم يحولوا العلمانية إلى كنيسة جديدة قائمة الذات ، لها عقائدها كذلك و دوغمائياتها ، التي تتحدد خارج الثقافات و الحضارات الأخرى ، و هو ما يتسبب في النهاية ، إلى العودة إلى منطق الإنغلاق: وصم الآخر، وتحديد موقعه كعدو لي، ثم إغلاق الفضاء العام و إلغاء أشكال تواجد الدين عن طريق اللعب على مخاوف و عواطف الناس . ما يعني حسبه اندمال ضفتي الأبيض المتوسط بأشكال التعصب و الأصولية ، حيث في الجنوب تكتسح الدين و الثقافة و في شمال تكتسح السياسة .
في آخر أقسام مواضيع النقاش ، الذي دار حول قيم مثل الإعتذار و الإندماج ، القانون و التجاوزات ، l'intégration-la loi-la transgression-le pardon ، فقد أكدا المفكرين معا ، على ضرورة -كما اقترح رمضان- احترام القانون ، و التشبع بثقافة البلد كمعرفة تاريخ و لغة البلد و هو ما يوفر إمكانية "الإندماج" في المجتمع الأم ، أو المجتمع المستقبِل في حالة "الهجرة" ، أيضا الإيمان بالولاء للدولة الحاضنة - ولاء لا بد منه ، لأنه هو الذي يتيح إطار المواطنة الذي يمكن في رحابه الدفاع عن العدالة و قيم المساواة و الكرامة ، غير أنه ليس ولاءا أعمى للدولة وأعمال الحكومة ، و إنما ولاء عقلاني لا يناصر ما يراه ضار و غير صالح . و هو ما يحقق "التكامل" ما بين الذات الفردية و ذات المجتمع . من جانب "إدغار موران" فقد أشار إلى مشكلة "الزواج المختلط le mariage mixte" ، الذي يثير مصاعب و غالبا لا يكتمل ، لأنه زواج مصلحي ، حيث أن المشكل يتعاظم إذا كان هناك إنجاب ، ففي هذه الحالة يتعرض الأطفال إلى الحرمان و سوء التربية ، من المشاكل التي تتفرع عن ذلك هو اضطراب هؤلاء الأشخاص و توفرهم على "هويات مشتة" لا يعرف هل هو فرنسي-ألماني(...) ، أو مغربي-جزائري(...) ، و هو ما لا يساعد على الإندماج في المجتمعات الأوربية ، و بالتالي غياب شبه تام للتكامل بين خصوصيتهم و عمومية المجتمع الذي يعيشون فيه ، و هو ما ينتج أشخاصا يعتدون و يقومون بعمليات إرهابية في المجتمعات الأوربية المستقبلة للمهاجرين . و بالتالي يدعوا موران إلى إعادة التفكير في موضوع الزواج المختلط و بشكل عام في قضية "الهجرة" ، حيث ينتهي إلى ضرورة دمج المهاجرين عن طريق التعليم و العمل و كفل حقوقهم و ضمان استقرار أسرهم ، الذي سيحتوي ضمنيا على استقرار و تجانس المجتمع المستقبل لهم .
في الختام أعبر عن أن الكتاب أكثر ضخامة من أن تختزل أفكاره في مقال صغير مثل هذا ، فهذا مجرد تكثيف لجزء فقط من أهم أفكار الكتاب ، ذلك حيث طال و تمدد النقاش كما هو حال النقاشات التي تدور بين مثقفين أو مفكرين لهم من القيمة ما يستأثر بالتتبع و مطالعة و الإستمتاع بأفكارهم ، بهدف "الفهم" كغاية أسمى لأي قراءة أو بحث .
________________________
الكتاب pdf 👇
https://drive.google.com/file/d/1J_TcwG0K_CKQAcCneXIwiVj3-_89yO8G/view