زي ما أكون بتكلم جد - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

زي ما أكون بتكلم جد

بقلم / حسن غريب

  نشر في 29 أكتوبر 2020 .

دراسة نقدية

الإرهاصــــــــات

الفنية و الجمالية

فى ديوان

{ زى ما أكون بتكلم جد }

للشاعــر

{{ جمــــال حراجــى }}

بقلـــم

حســن غريـب أحمـد

عضو اتحاد كتاب مصر

------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

من قصيدة [ لازم نخرج فوراً ] ص 33

فى مكان مناسب جداً

تحت سقف الروح

تقدر ترفع صوتك بالغنا

تقدر تفاصل فى الحروف

تركب سلم المقامات

واحدة ... واحدة

و تشاور على أصعب

جملة تجيلك زحف

فى مكان مناسب جداً

تقدر تحلم

باللى نفسك فيه من زمان

وما قدرتش تبوح !!

تسهر ليلاتى

مع عواد من جيلك

و كمنجاتى بيوجع راس

الشارع طول الليل !

- بهذا الحلم المستحيل يمور وجدان المسافر فى شعر { جمال أحمد حراجى عبد الرحمن } الشاعر القدير ، ابن {{ قفط – نجع معين } } فى قلب صعيد مصر ( قنا ) فنشأ على علم عربى غزير ، أقوى ما يغذى أرضه الإيمان ، بالله قوة روحته تشمل الكون تنشق رحيقها من دفء مدينة الإسماعيلية و كذا الإنسان قوة روحية تحرك الكائنات و تدخل اسم بلده ( قفط – نجع حمادى ) التى لم ينسها فى إهدائه داخل ديوانه ( زى ما أكون بتكلم جد ) الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة سلسلة ( إبداعات ) العدد 126 لسنة 2000 م – تدخل – بلدته ( قفط ) فى هذا التكوين الإنسانى لشخصية الشاعر الإنسان فيه ( قفط – نجع حمادى ) و هذا هو الكنز الحقيقى الذى فض أسراره المصريون القدماء صانعوا أعرق الحضارات الإنسانية ، يتجسم حيا فى العمق العميق من هذا الوطن ، فى مواطنه الشعبى الرائع ( الصعيد ) ، ذلك الذى حمل سر الوطن ، و خبأه عن عيون الأعداء طوال هذه القرون و ما أكثرهم فى الماضى و الحاضر ، أنه السر الذى يجعله دائماً على طريق الوصول إلى ( خرايط للتذكار ) حيث ( زى ما أكون بتكلم جد ) و مقاطع ، يمكن تكون البقعة دم ، حد الحصار ، مشغول ع الآخر ، يمكن ترجع تانى ، بروفة أخيرة ، يدوب رسمه ، لازم تخرج فوراً ، طاقة ، روح خفيفة جداً ، لحظة واحدة يمكن نتقابل النهاردة أنت عريس ، ليلة سرية جداً ، عيل ميت من قبل ما ييجى ، واحد سكران ، و تسنيم ، مؤكد ها أعملها فى يوم ، سوء حظ ، مجنون ، حاجة تقصر العمر ، تلاتين سنة و ما رجعتش ، لقطة مش للذكرى ، زى ما أنت كده ، برواز قديم ، مع إن روحه ما طلعتش ، كان ممكن أصحى ، و كأنها – بتعدى المانش ، آخر رقصة ديسكو ، باقى الأشياء - اللى أنا متعود عليها .

- و كل عناوين القصائد الشعرية السابقة هى التى وردت فى الديوان ( زى ما أكون بتكلم جد ) هو سر قدرة الشاعر جمال حراجى على هذا الاحتواء الحميم و العجيب – في آن واحد – على حب ما يزيد عن نصف كتاب مصر و مثقفيها المعاصرين ، بدءا من ( صلاح جاهين ) الذى يمثل ريادة الطريق إلى شاعر العامية الجميل ( عبد الرحمن الأبنودى ) الذى أهداه الشاعر ديوانه آملاً منه أن يقبل تجربته فى هذا الديوان الذى بين أيدينا - -

- وهذا ما يدل على الرؤية الواقعية المصرية الخالصة فى أدبنا المعاصر ، و استمراراً فى خريطة الوطن الممتدة ، فى المكان إلى آخر حدود الوطن ، و فى الزمان حتى لا يحصيه العقل من سنوات قادمة ، فإن كانت الجدية و الواقعية ثقيلة كان للشاعر قدرة أقوى على الجلد مهما حمل من آلام ، أو تحمل من معاناة ، إن سعادته ، وهى سعادة كل المبدعين الواقعيين تكمن فى اتساع رؤيتهم و رهافتها ، فهذه الدرجة من الرؤية و هى وحدها ، هى التى تمكنهم لا من إعادة تشكيل الواقع بصياغات جديدة ، بل من وضع بذرة المستقبل القادم الذى لم يعد فى الرؤية الشعرية الصادقة مستحيلاً 0والشاعرجمال حراجى سبق أن قدم نفسه للقراء من خلال ديوانه الذي صدر علي نفقته الخاصة وهو يحمل عنوان (دمع النواصي ) الصادر عام 1989 م ومن ثم ديوانه الذي كان يحمل مسمى آخرا غير المسمى الذي بين أيدينا فكان اسمه من قبل ( إزاي بخاف ) ثم تغييره بمعرفة الشاعر إلي ما هو بين ايدينا الآن ( زى ما أكون بتكلم جد ) . وهو بصدد الدراسة عنه .

كانت واقفة هناك

على ناصية شارع

مش معروف

بتعد الداخل و الخارج

من لحمى الميت

طب ح اعمل إيه

لما تسيبى روحى و أنزف

و أتبعتر كلى فى دمك

ح توافقى تلمى دموعى

من على خدك

و لا ح تسيبى لغيرك دمى ؟

مقطع من قصيدة ( مقاطع ) ص12

لقد رآها و هى واقفة على ناصية شارع مجهول رأى المستقبل الغامض متحققاً – و هو الذى رآه من قبل حلمه الباكر البعيد – و هو لم يره إلا بعد أن رآها تعد الداخل و الخارج من نسيج قطعة من لحمه الميت و خاض مغامرات و حروباً نزف خلالها جراحاً كثيرة ، و دموعاً و آهات أكثر ، و لكنه لم ييأس ، و لم يسترخ تحت دمائه و روحه التى تبعثرت حتى انه طرح عليها سؤالاً هل ستلم دموعه أم ستترك دماءه لغيره ؟

لقد راح ينفخ فى الطين ليصنع روحاً و دماً جديداً أكثر قدرة و أقوى على الاستمرار والمقاومة وجاء الإنسان ابن الإنسان من جديد ، فرأى فيه الإنسان الشاعر لا صورة وجهه ، بل وجهه ذاته لم يكن القادم مرآة مصقولة يسكنها الجمود ، لكنه حيا و فاعلاً ( ح استخبى جوا عينيكى و ما تبصيش ) لقد بعث الراحة فى وجدان الشاعر المعذب فأغفت على وجنتيه ابتسامة ، و اختبأ داخل عينيها دون أن ترنو له و جرى نافضاً ألمه ، ناسياً الدرجة المربوط عليها و هى غير ميرى - - ناسيا جهاده الطويل ممتلئا بالسعادة ، يبحث عن كل صورته المعكوسة بعيداً عن عينيها ( مقاطع ص 11 )

و لما كان الجديد الجرى على أمل فقد راح يزرع فيه ( الذكرى الدافية و الخلاص من الخوف لبكرة ) واثقاً من أن البذور جميعاً ستنمو ، و لم لا تنمو و هى تستهدف أنبل قيمتين حفظاً وجودنا المصري من الانقراض على مدى ولائنا للأحباء ، و هو ولاء حافل بكل محاولات الغزو و الفنى الصادق و بكل أدوات الوفاء الخارجى و الداخلى ، و هاتين القيمتين النبيلتين هما الوفاء و الجسارة - - و ينجلى ذلك واضحاً فى قصيدة ( حد الحصار ) ص 17 / 18 و التى أهداها إلى روح الشهيد ( عمر الفرك ) أحد شهداء الإسماعيلية فى 1967 م

ثم القصيدة الثانية ( بروفة أخيرة ) ص 27 و التى أهداها إلى روح صديقه الشاعر ( مجدى الجابرى ) و قصيدة { لحظة واحدة - يمكن نتقابل } ص 41 لمجدى حسنين ( يقى ) الشاعر جمال حراجى بعد أن ( شاهد ) و ( عمل ) ، إن أحوج ما يحتاج إليه وطننا الحبيب اليوم ( حد الحصار ) هو نفسه ، أن يستعيد إنسانيته التى ضعفت و تقلصت تحت ضغوط الواقع الذى عاشه و لا يزال ( كان النهاردة كام فى شهرنا العربى و كام من شهور الجيش و ازاى ح نحفظ الأرقام -- ما دمنا زى ما بنعيش نموت ) و يتجسم هذا التساؤل فى الحلم الواقعى نابضاً بكل عناصر فى الممكن لا فى المستحيل ، و فى الأقرب لا البعيد من نكسة 1967 و اختلاط الحياة بالموت لا فرق عنده بينهما - لكنه مع امكانه و قربه يحتاج إلى قدرة روحية فائقة على الحب ومن خجل الممات فى الحّيا تجعله – وحدها فى رؤية الشاعر جمال حراجى – لصيقا بصاحبه " عمر الفرك " فى هذه القصيدة – يمنحه متعة قضاء الوقت الممل " و أنت الوحيد سهران – مع ضى نجمة على شط القنال – تحدف جرايتك للسمك و الملح – يمكن تنفع اللقمة فى ليالى الجوع – أو تغسل الميه صديد الجرح "

نرى هنا الشاعر يمنح صديقه متعة الأمن الهاربة – و لن يتم ذلك إلا بأن يقترب الوفاء بالأمل و الإنسان من الإنسان ، الجديد بالقديم المستقبل الفذ بالحاضر القوى المحاصر ، و هنا و حين يتحقق هذا الالتقاء ، فلن تكون هناك أبداً فرصة الانفصال بل الانفصام ، هذا لأن الجديد الأخضر سيعطى الحاضر الجاف البكارة و النضارة للأرض و الوطن و الجهاد ، و كل ما يشكل (( زمان الوفاء و الإخلاص )) الذى يصنعه الشاعر ، و لذا يكون ( النفى ) ( ما أقدرش أجيلك و لا احلم وياك بسلامة نية عن ليلة تحت القمراية و سواقى بتجر دموعك لأراضى بور تخضر ) قصيدة " بروفة أخيرة " ص27

نلاحظ هنا نفيا للقريب الممكن لا صراخا فى برية و لا طلباً للمستحيل – إن انتهاء الشاعر جمال حراجى إلى هذا التحقيق لرؤيته العرفية للواقع ، بهذا الموقف التآزرى لقضية تعد من أشد قضايا العصر الحاحاً ، و هى اغتراب الإنسان و تفككه داخل الوطن ، و داخل الذات ، و داخل غيره كان التزاماً فنياً بمبدأ الحتمية المصرية ، باعتباره ضرورة ، و مقدمة أولى للتغيير ، و قد تحقق له هذا من إيمانه العميق بهذه الحتمية التى كانت – فى البناء الشعرى السابق – نتيجة فنية صادقة قويه ، أدت إليها وسائل التشكيل الجمالى التى أنبتت منها القصيدة ، فلم يعمد الشاعر جمال حراجى كما يفعل البعض من معاصريه الشعراء إلى الافتعال المتكلف للموقف ، الذى يتكفل بهدم كل بناء شعرى ، بل كل بناء إنسانى صادق – لأن تأثيره الهادم فى المتلقى للنص – إذا شدته زخرفة البناء – يكون أشد و أقسى فى درجته من تأثير الأقراص المهدئة و المنشطة يقع البعض من الشعراء فى هذا الشرك الخداعى ، دون وعى و هم لا يدركون " أن مواجهة المشكلة على هذا السخط الساذج تقطع الصلة بينها و بين جذورها الإنسانية " إن الشاعر القدير { جمال حراجى } و ربما كان هذا أهم أسراره الإبداعية – يعى هذه الحقيقة بشكل حاسم ، و يحاول – دائماً – أن يؤكد ملكيته لها ، بتثقيف نفسه بكل وسائل الثقافة ، معايشة و قراءة و احتكاكاً و عراكاً ، و هو ما ينبغى أن يكون عليه الشاعر لكى يضمن لشعره الحياة مع الواقع ، و هى التى بدونها لا يكون الشعر ، و لا يكون الشعراء و لا تكون هناك - من ثم – مواطنة أو وطن

****************

- و ينقلنا الشاعر جمال حراجى إلى الضحك الذى يصل إلى حد البكاء – رغم بعد الأحيان – من الشاعر يراه فى كل الأشياء ، و فى كل الناس يراه منتشراً فى الأرض و منساباً فى الزمن ، فيلتقطه و يحفظه ، و يجاوره حتى لو اضطر – انسانيا و أدبيا – إلى الولوج داخله – و هو يدخله بإرادته الحرة ، مختاراً لا مكرها ، ترى كيف تكون الضرورة اختياراً ؟ لنقرأ فى شعر جمال حراجى أو لتنطلق سفرتنا فى شعره ، و سنجدنا مسافرين مختارين محملين بكل ما يجذب ، و ما يثير فينا كوامن الشوق إلى هذا العريس الذى نبحث عنه فلا نجده كثيراً ، فى الشعر الذى يحاصر ما فى الصحف و المجلات و مقدمات المسلسلات الإذاعية و التلفزيونية و كل هذا الحصار مقصود به أن يبعث فينا الخمول و الترهل و الاسترخاء حتى البلادة لأننا - كما يقول الشاعر فى قصيدة ( النهادرة – أنت عريس ) ص 43 ، 44 ، 45 صورة أخرى من نفس العصر ( عصر الظلم و السخرية )

- ابتسم أنت النهاردة عريس سيب دماغك تحت اللحاف و أمشى على قد رجليك ما تمشيك ح ترسيك على بر أكيد

- أو البر يرسى عليك

- مش مهم – المهم إنك تبتسم

- و كل اللى ممكن تعمله

- إنك تفتح بقك 180 درجة

- و تطرد صف سنانك على قد ما تعود لقدام

- السخرية تصبح فى قبضته الشاعر كما رأينا فى الوحدة السابقة لكنه – فينا – يجعله أعظم من ذاته ، أنه يصير ، عريساً ذا ساحة – لا دائرة ضيقة – يدخلها الشاعر حزيناً يبتسم لأنه عريس بالرغم من كل المثقلات التى تحملها كاهله البشرى هذا الحمل الثقيل الباهظ ، هو – للأسف – كل ما يملكه الشاعر المعاصر من بضاعة ، أنه هنا يدخل ساحة الزواج لا لكى يتزوج

- فهى خاسرة بطبيعتها ، و لكن لكى يحصل على بعض الزاد من الابتسام ، و ما يحتاجه الشاعر من زاد لهذا العريس ليس سوى حقه الضائع ، و الذى يتمثل هذه المرة فى حتمية إنسانية مفقودة فى الحاضر الذى يحياه الشاعر ، و هى قيمة العدالة الاجتماعية ( ممكن تصرخ صرخة كبيرة بتجمع حواليك كل الناس – وقتها ممكن تطلب منهم و أنت بتضحك كلمة " مبروك " مش ح يستغربوا أو يقولوا عليك مجنون لأنك أنت النهاردة عريس فابتسم !! )

- أنه توظيف جيد للغة الشعر و لو لم تكن الرؤية الواقعية بالمعنى الذى حددناه هى التى يمتلئ بها وعى الشاعر ووجدانه ، لامتدت القصيدة فى بنائها إلى نحو آخر ، غير ما امتدت إليه فى صورتها المشكلة فى بنائها الراهن ، بمعنى أنه كان يمكن أن تتسع أمام الشاعر ( الذى يمثله ضمير المخاطب فى معظم قصائده الديوان ) ساحة الواعظ ، فيتحول إلى أحد المجذوبين المغيبين ، الذين غيموا رؤيتهم فى ضباب لغة المتصوفين ، و تمثلهم شريحة محدودة لحسن الحظ – من المنتسبين لشعر العامية

- ما كان لجمال حراجى أن يتحول إلى درويش شعرى فيقتل – بالتداعى اللغوى أو الصورى – الطاقة المتوهجة التى تمنح شعره هذا القدر من النضج و هى طاقة " الرؤية المبدعة " التى تعد أبداً على أن تظل صحيحة ، و لذلك نرى الشاعر من نفس رؤيته الواقعية – يكشف الزيف الذى يتخفى فيه هذا العريس بابتسامته المريرة (( كده تبقى بتضحكك ضحكة كبيرة و ما حدش يقدر يحسب عليك عدد الضحك فى اليوم الواحد و يصوروا وشك فى الجرايد و ينشروك على قزاز القتارين مش مهم يكتبوا إيه عليه المهم إنك تبان فى الصورة و أنت بتضحك ))

- هنا اكتشاف رائع للحقيقة ، لم يتم بمجرد ملامستها ، أو مشاهدتها فى ثوبها المخادع البراق ، بل الدخول المغامر إلى ذاتية العريس و هذا الدخول وحده – و هو ما نعنى به حميمية المعايشة للواقع – هو الذى يجلى هذا الزيف و يسقطه ، و تمتد القصيدة – بعد هذا الكشف الرائع للحقيقة – لتنشر الصحو فى الدنيا

- إن الشاعر لا يكتفى بما حقق من نجاح و لا يقصره على ذاته ، كما كان يفعل بعض الشعراء الدراميين بل يجد نجاحه الحقيقى فى تمليك هذا العريس لكل الجماعة الزائفة التى لا ينتمى إليها و لا يجد نفسه داخلها ، فهى دائرة مزيفة و لكنها ساحته الرحبة التى يقرر – من جديد – فى قرار صحيح ، أن يظل مكوناً رئيسياً فى تقويمها

- يتجسم الموت الجميل فى قصيدة ( يمكن تكون البقعة دم ) ص 13

طالع من الزهرة

و لا كنت فى السما

الموت مالوش قيمة

لوح تهتف

و تكسر إشارة

تحت الممر و تعدى

وسط اندهاش العسكرى

و اللخبطة فى اللون

الأحمر الدموى

فليفك الصمت القديم

و يهددك بصوتك الممنوع

و ينزعك م المعلب الأموى

فاقعد على الدكة احتياطى

و تكتم الضحكة

إن شاعرنا جمال حراجى هنا لا يلوذ إلى الفرار فى صدر الموت الجميل هرباً من مواجهة الواقع مثلما فعل الرومانسيون و لا يكتم الضحكة مهما بلغت من آلام – فالقوة مسئولية الانتباه وحدها ، بل أنه يقف فى خط المواجهة الواقعية فيبدأ بإدارة الصراع بينه و نفسه فى حالين يبدوان متناقضين

حال إساءة الظن بالموت الذى يؤدى به إلى عدم القيمة و حال الضحكة الصامتة التى أدت به إلى الخديعة ، و الحالان فى صراعهما يعكسان موقفاً شديد الحساسية و هو أن الشاعر يجب أن يتحرك من دائرة الوعى حيث يعمل الخيال الخلاق ، و فى هذه الدائرة لن يكون للروح ( و تشد روحك ) أدنى مساحة للسيطرة على معطيات التجربة الشعرية ، فالخيال الخلاق و حده هو صاحب السلطة الوحيد فى التشكيل الجمالى ، و هو الذى يمكن الشاعر من إثارة الحركة فى البناء ، بما قدم من عناصر الحكاية التى تعتمد على توظيف المعتقد الإنسانى ، فى صورة الصديق أو الشاعر نفسه ، و على استخدام التضاد خالقاً للدراما الشعرية ، و الاستفهام الانكارى فى نهاية القصيدة مفجراً – فى متلقيها على السواء – كل طاقات الصحو و النهوض

(( طالع من الزهرة و لا من قلوب الناس ؟ ))

و الشاعر جمال حراجى هنا و هو يقدم كشفه للحقيقة الراهنة و يستشرق الحقيقة القادمة ، مثل الناقد الواقعى و الدارس الموضوعى الذى يجب أن : " يبتغى الحقيقة كما تكون ، و كما ينتهى إليها ، و كما تجئ ، لا كما يريدها ، أو يتمناها ، أو يتعصب لها "

****************************************

و تحتل هذه الأدوات التشكيلية ديوان الشاعر كله – لا هذه المجموعة فحسب – و هى التى تساعد تجربته الشعرية على التشكيل فى أبنية شعرية شديدة النقاء ، و الشفافية حتى لنكاد نرى ملامحها و قسماتها كاملة فى قصائده ، و هو ما يضمن لصوته الشعرى التميز و البروز بين شعراء مصر العظماء من قصيدة ( طاقة ) ص 37

الطاقة اللى كنت بتبص

منها على العيال

و هما بيلعبوا الكورة الشراب

فى شوارع منشية الشهدا

و كنت بتشجعهم بحرقة

و أنت يدوب وشك باين

من الفتحة الضيقة و باقى جسمك

مدفون بين الحيطان القديمة

نفس الطاقة انهدمت و اتقام

مكانها " برج " سكنوه الغوانى

هذا هو ( جمال حراجى ) بشحمه و لحمه كما يعرفه محبوه الكثيرون ، صوتاً جنوبياً عذباً خارجاً من بين الأحزان يغنى على الطاقة فى شوارع منشية الشهدا و هو يشجعهم أثناء لعب الكورة الشراب يعشق أقصى جماعته الإنسانية و يبكى على أطلال الطاقة التى انهدمت و أقيم مكانها برج نرى هنا لا مبالغة فى التصوير و لا ادعاء ، بل هى الصورة الحقيقية للشاعر ، قد تبدو عليها سيماء الفخر لابن حيه القديم غير أن الشاعر يحاول أن يخفف من هذا الظن " و الحارة الضيقة أكلها الشارع فى التنظيم "

فهو كما قلنا – ضد الظن ، سيئة وحسنة و لهذا نراه يعيش الحقيقة و يؤازر بقدر الامكان الأدباء الشبان

وينفرد بنشر إبداعاتهم عبر صحيفة (( القناة )) فى باب : الأدب الذى يشرف عليه ويكشف عن المواهب الشعرية والقصصية فى شتى بقاع مدن القناة وسيناء .

ثم يأخذنا معه إلى الإسماعيلية والحى القديم الذى يقطنه )) والحارة الضيقة أكلها الشارع فى التنظيم و مفضلش منها غير كشك يبيع السجاير المستوردة و الميه المعدنية للعيال الحريفه اللى كسبوا فى آخر جولة م الكورة الشرب ))

وغيروا أرض الملعب فجأة

لحتة تانية ممنوع فيها

حد يبص عليهم

أو حتى يشجعهم

من فتحة ( طاقة ) قديمة

بتطل على شارع واسع

من شوارع منشية الشهداء

هى الحقيقة كاملة ، مجسمة ـ فى الصورة الشعرية ـ فى هذا الواحد المشطور إلى نصفين ، نصف للطاقة للحارة القديمة ونصف المستقبل الغامض للشارع الواسع الذى منع أن يبص على اللاعبين أحد من أهل الشهداء

إن الحاضر متعلق فى واجهة الريح وتغشاه الأوجاع والمستقبل مملوء بالغيب والقلق ، وهو الحب الضائع لكل جميل

ويصبح التوكيد لواو الابتداء هنا ـ توظيفا فى محله من القصيدة ، لأن الفوز فى الصراع بين هذين الجيلين مستحيل أن يكون للحاضر العاجز أن يعود لزمن الحب الصادق الجميل والألفة والعطف ، فكل معطيات الشاعر لا تؤدى إلا للمستقبل الغامض وهو الذى يراه الشاعر فى (( وغيروا أرض الملعب فجأة ـ ـ لحتة تانية ممنوع حد يبص عليهم ـ ـ أو حتى يشجعهم ))

الذى به ينسج الشاعر جسور الحب القديم ، ويشكلها فوق كل مواده الممكنة (( الطاقة القديمة ـ شارع منشية الشهداء )) وهذه المواد لا تكتمل للشاعر فى عزلته عن الشارع أو عن الواقع أو انسحابه منه بل يتم لها الحضور والاكتمال فى شكل جديد وجاف غير نابض بالحب و الألفة التى سبق أن اعتاد عليها ـ والتى يرتبط بها الشاعر بعلاقات حميمة ووثيقة تجعله معها دائماً فى حالة من التعلق بما هو تراثى جميل ورائع (( ومفضلش منها غير كشك يبيع السجائر )) .

إن الملامح الفنية فى شعر جمال حراجى يتجلى فى امتلاكه للرؤية الفنية فهو يعرف ما يريد لانه يرى الواقع بوعى فى جلاء

امبارح الضهر

وفى عز الشارع

ما هو فاضى من الناس

والسريحه وبياعين الفل

على الحبيبة اللى ما هماش

حبيبة بجد

كنت بحاول اصطاد روحى

الهربانة على الرصيف التانى

من نفس الشارع

وكل ما أحاول أمد إيدى

ألاقي ( رجليا ) بتبعد

مقطع من قصيدة (( زى ما أكون بتكلم جد )) ص 55

وهى ذات القصيدة التى تحمل عنوان الديوان

إن اختيار الشعر لدائرة الحب الصادق هو الذى يجعله قويا ، بل أقوى من كل فرسان الملاحم الشعبية القديمة لأنه يمنحه قدرة خلاقة على قدرة الإنسان الفارس على الجد فهو (( وشوارع على أسماء الزعما ـ ومحطات البنزين المغشوشة بالمية ومحلات آخر صيحة من موضة ألفين و باحاول أمد فى خطواتى وأساويها بروحى الهربانة فى (( شوارع مصر المحروسة)) زى ما أكون بتكلم جد

ويفصل بها بين المقطع السابق من خلال قدرات ـ بلا شك ـ خالقه والروح من أهم وظائف الشعر لدى جمال حراجى ، إن لم يكن أهمها على الإطلاق

ولأن هذه القصيدة واحدة من قصائد الشاعر الرائعة حيث اكتملت رؤيته وامتلكت وسائل نضجها كاملة ـ نجد الرؤية فى نهاية القصيدة تنكفئ على ذات الشاعر حيث يغلب إحساسه بانتصار النصف العاجز (( والحبيبة اللى مش حبيبة بجد )) فيه ويروح صارخاً فى آخر سطور القصيدة ـ رافضاً ما يراه وطالبا من أحبائه أن ينتشلوه من فخ هزيمة النفس الذى يحاصره وهنا تتشابه ظروف الحياة التى يعيشها شاعرنا جمال حراجى مع ظروف الشعراء المصريين ـ ولذا نجده يلح ـ خاصة فى أولياته الشعرية على العزف بأوتار شجيه على جراحه وألمه الخاصين لكنه بعد ذلك ، خاصة فى هذا الديوان يجعل من هذا الخاص خلفية باهتة للألم الواقعى العام الذى تعيشه جماعتنا المصرية من الشعراء ولعلى ألمحت إلى ذلك فى حديث الوحدة السابقة ، ولكن هذا الملمح يتجلى بوضوح فى قصيدة (( زى ما أكون بتكلم جد )) وقصيدة (( واحد سكران )) .

وفى قصيدة (( مؤكد ح أعملها فى يوم )) ص 63(( وكأنى بأحضنها لوحدى وكأن الشارع فاضى م الناس وعربيات الكارو وبياعين الكازوزة والرحالة لبلاد الله على مزلقان الثلاثينى ..

(( ما عرفش )) ليه اتخضت لما سواق التاكسي أعلن فجأة بداية الرحلة ؟؟

وطلب منها بالذات ربط حزام الأمان مع إن السرعة بطيئة جداً والناس ممنوعة من الخروج بالليل فى مدينة كلها أموات من قبل الهجرة ما أعرفش ليه طلبت منى تحديداً إنى اكتب عن سر البنت المبتسمة فى لوحة فنان ما عرفهوش مع إنى مش حاسس بيها )).

هذه الصورة الحوارية المفعمه بالشجن على ما يعانيه الشاعر من عجز ، لا يمكنه من تلبية نداء المحبوبة الرمز التى تتعرض للخوف والقهر والغموض للبنت المبتسمة داخل البرواز إنها صورة راهنة لتجربة شاعرنا جمال حراجى تأتى أكثر حملاً لمعاناة العصر

((وقعدت ساعات أبحلق فى الصورة يمكن أقدر (( ألقط )) الخيط الواصل بين الشفة المشقوفة من أثر الغيظ وبين الدمعة النازلة بغزارة من نفس الصورة..

بصراحة ما قدرتش أقاوم (( جمال )) البنت وهى بتطلب منى أفك رموزها.))

إن الإصرار على فك رموز البنت وأسرارها قوى والعصر مختلف حقاً ، فالأسباب قد زادت كثافة و الحاحاً ، وكذلك النتائج تكون أشد ضراوة وإدماء (( وأحاول أتعرف على سرماقدرش حد يعرفه قبلى))

سلمت د ماغى لفكرة مجنونة

جداً وقلت لنفسى

فيها إيه ـ لو نطيت فى البرواز فجأة

واحتليت مكان الصورة

الصورة هنا رمز باعث للمثل العربى القديم ( ما يفيد الشاه سلخها بعد ذبحها ) و هو رمز للبنت التى هى داخل البرواز الغامضة التى كانت فى بداية التشكيل الشعرى رمزاً لما هو أكبر ، الوطن لكن الشاعر وهو يوظف المثل الموروث يعكس دلالته القديمة ، حين يجعل البنت ملتحمة مع الشاعر حينما يتوغل فى البرواز فجأة ومن هنا يجعل الشاعر البنت تئن بعد سلخها وتعلن شقاءها بالسلخ والسكين وهذا البرواز ليس بروازاً عارياً بل بروازاً أقوى وأشد تأثيراً من البرواز المعرف إنه (( البرواز الغامض )) الذى يقطع بدن الواقع الإنسانى العام فى هدوء والذى يحتاج إلى قدرة بل قدرات إنسانية خارقة لمواجهته وإيقاف سر البنت داخل الصورة ولكن الإنسان الفرد / الشاعر وحده لا يمكنه أن يقاوم بواحديته حدة هذا البرواز وكيف وأثر البنت الغامض باد فى كل شئ من الصورة(( وطلعت للناس بوش الغامق حد ح يقدر يفرق بين صورتى وصورة البنت الزحمة مع إن الفكرة مش حلوة خالص ونهايتها مش مضمونة لكن مؤكد إني ح اعملها فى يوم )) ص 65.

وهكذا يعيش الشاعر حياته الإنسانية كاملاً غير منقوص ، لأنه دائم الفوران ولأن البنت دائمة الألم ، والثورة والألم هما اللذان يصيغان الحياة الإنسانية ، ويمنحانها وسائل الجدية والصراع والنمو والبقاء.

***********************************************************

هكذا عشنا مع بعض أبعاد العالم الشعرى الرائع للشاعر المتميز جمال حراجى الذى نكون قد قرأنا وسمعنا عنه من خلال الصحف والمجلات الأدبية المتخصصة فى مصر ويقينى عندما نقرأ ونعيد التأمل والقراءة فى ديوان (( زى ما أكون بتكلم جد )) سنجد شاعراً أصيلاً سوف يعيش طويلاً لأنه فارس فى جلسة الشعر العامى المعاصر لأنها تجربة فى شعر العامية المصرية تستلهم كل التراث الأدبى والموروث الشعرى العامى والاجتماعى من خلال تجربة غنية لها ثراؤها وخصوبتها ، وهذا الشاعر يعد من المتألقين فى الحياة الأدبية حيث ما زال قابعاً فى تراب مصر بالإسماعيلية الجميلة تحت أشجارها الوارفة الخضراء يقدم أنفاس التربة الاسمعلاوية وأنفاس الحياة المعاصرة فى آن واحد

إن ديوان (( زى ما أكون بتكلم جد )) للشاعر جمال حراجى يبحر من خلال شاعريته فى عوالم سحرية وفنية ، مؤكداً بتجربته انتماءه للتراث العربى بجذوره و أصالته لشعر العامية المصرية ، مع استقلال قصيدته المعاصرة و تفردها ، حتى تظل العلاقة قوية بين الماضى بكل أصالته و معطياته ، و بين الحاضر بكل طاقاته و إنجازاته

انتهت

الهوامــــــش

1- عبد المحسن طه بدر ( حول الأديب و الواقع ) ط 0 دار المعرفة بالقاهرة 1971 ص 24

2- انظر بناء لغة الشعر – جون كوبين – ت أحمد درويش ط مكتبة الزهراء بالقاهرة 1985 م ص 127

3- انظر دكتور يسري العزب ( القصيدة الرومانسية فى مصر )) ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986 ص 41

4- أمين الخولى " نقلاً من : شكرى عياد " ( تجارب فى الأدب و النقد ) ط دار الكاتب العربى بالقاهرة 1967 ص 64

5- المقاطع السابقة من قصائد ( لازم تخرج فوراً ) – ( مقاطع ) – ( حد الحصار ) – ( النهاردة أنت عريس ) – ( يمكن تكون البقعة دم ) – ( طاقة ) – ( زى ما أكون بتكلم جد ) – ( مؤكد ح أعملها فى يوم )



  • حسن غريب
    عضو اتحاد كتاب مصر عضو نادي القصة بالقاهرة عضو أتيليه القاهرة للفنانين والكتاب عضو نادي القلم الدولي
   نشر في 29 أكتوبر 2020 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا