ساقطة تبحث عن قوتِ يومها في سراويل الأجانب. - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

ساقطة تبحث عن قوتِ يومها في سراويل الأجانب.

  نشر في 01 يونيو 2019 .

في أواخر العقد الأول من عمري كنتُ جالساً علي جانب الطريق أنتظر أبي بجوار دراجته النارية حتّي ينتهي من شراء بعض الأطعمة، أمامي إحدى العمارات الشاهقة في الارتفاع والضيقة في المساحة مقارنةً بقريناتها من العمارات في الجهة المقابلة الّتي أجلس أمامها لتصنع خلفيةً خلف ظهري، كانت الشمس علي وشك الرحيل والنجوم علي وشك إبداء زينتها للعابرين، والدنيا هائجة لا يستطيع أن يُمسك بلجامها سوي فحلٍ داخل غرفة بعيدة عن أعين الناس.

كنتُ جالساً أمام دراجة أبي النارية الّتي تحجبني عن الطريق وبالكاد أرى الجهة الأخرى من بين أسلاك عجلتها الخلفية، أحاول فهم طريقة عمل التّرس وعدّ الأسلاك، عددتُ الأسلاك لأكثر من مرة وكان مجموعها في كل مرةٍ مختلف، لم أفهم أين الخطأ؟، هل استحكم الغباء بعقلي لهذه الدرجة؟، أم أنّ ظلّ السائرين بجوار الدراجة يجعلني أخطأ في العد، دققتُ النظر للأسلاك وصوبتُ جُلّ تركيزي كله تجاهها كي لا أخطأ هذ المرة، ولكن من إفراط تركيزي لمحتها علي الجهة الثانية تدخل من باب العمارة.

كانت مراهقة ممشوقة القوام تعج بالحياة، ممتلئة الجسم يتراقص خصرها وهي تصعد درجتي السلم لتدخل من باب العمارة، ترتدي عباءة حمراء مُحكمة علي جسدها، بشرتها بيضاء تميل للاحمرار عدا وجهها ذا اللون الأبيض الّذي ليس به حُمرة، يخيّل إليك من أول نظرة أنّه أشدّ سواداً من ظلام الليل، يُخبرك بتجاعيده أنّه مطلع عجوزٍ غافلة تنتحل جسدَ فتاةٍ في ربيع عمرها، لم أستطع أن أفهم حينها هل هي فتاة شابة جميلة أم عجوز ما زالتْ تُقاتل علي حياة ليست لها، عاد أبي من الدكان الّذي كان يشتري منه، ناولني الأكياس فأمسكت بها جيداً لثقلها وانتظرتُ حتّي يركب الدراجة النارية لأركب خلفه.

بعد منتصف العَقد الثاني من عمرى بسنتين، وفي ذات الشارع كنتُ خارجاً من ذاتِ المحل الّذي طُور واتَّسع مع مرور السنوات وأنا أُمسك بكيس منفرد، علّقته في مقدمة الدراجة النارية ثم نظرت للأمام بلا نيّة وأنا أهُمّ بركوب الدراجة فرأيتُ الفتاة ذاتها ولكن هذه المرة بطريقة مختلفة، كانت الفتاة ترتدي عباءة سوداء أشدّ ضيقاً من جلد الإنسان علي عظْمه، ما زال خصرها يتمايل ولكن بطريقة أشدّ وضوحاً وإغراءً ، بشرتها البيضاء مرصّعة بهالات سوداء تُخفي جمالها، وجهها ازداد سواداً أكثر من المرة السابقة، بدى لي أنّها تُعاند لتبقي رشيقة كما كانت في عمر المراهقة، يتجاوز مطلعها السنوات ويتجذّر في العمر وهو يُحاول أن يجعل جسدها الفاتن غطاء لشيخوخته، صعدت الفتاة لذات العمارة الّتي صعدت لها عندما كنتُ في أواخر العَقد الأول من عمرى، نظرتُ لأعلي العمارة لأتحقق من ماهيتها فوجدتها قد ارتفعت أكثر وشُيّدت فوقها طوابق أخري.

لم أستطع تفسير ما يحدث، ولكن في المرةِ الأولي كنتُ صبياً وكانت مراهقة تتعالي عليّ، فلا أنا فحل يستطيع الاستمتاع بمفاتنها ولا هي صبيّة تنسجم معي، وفي المرة الثانية كنتُ مراهقاً وكانت طاعنة في العمر، فلا أنا يروق لي المسنين ولا هي تُحاول مداعبتي كما كانت تُداعب من بداخل العمارة، في تلك الأثناء وأنا غارق في التفكير وعيني متصلّبة علي العمارة الّتي دخلت إليها الفتاة سمعتُ صوت صراخ شبلٍ يبدوا أنّه يُحاول أن يتجاوز خطأي، يُهرول باتجاه العمارة الّتي دخلت إليها الفتاة وهو ينادي عليها بأعلى صوته بالرجوع، أُغلق باب العمارة قبْلَ وصول الصبي مِن قِبَلِ بضعة حرّاس ليس لهم نصيبٌ من الحياة سوي اتباع الأوامر.

وقفَ الصبي تحت العمارة ينادى بأعلى صوته علي الفتاة لتعود، اتضح لي من خلال مناداته لها بأمي بأنّها والدته، كان الصبي يُحاول جاهداً أن يَحول بينها وبين أن تبيع نفسها بثمنٍ بخسٍ إلا أنّها أبَتْ، فتحتْ باب النافذة وإذ بها تُطّل بوجهها وقد تجردت من ثيابها، وبخته وطلبت منه العودة إلي المنزل، لم يستجب لها الصبي وظلّ واقفاً يعلوا صوته شيئاً فشيئاً إلي أن أصبحَ صداه يعود إليه بعد كل صيحة قبل أن يُغلق فمه، لكن دون جدوي، في النهاية فتحتْ النافذة مرةً أخرى وأطلتْ عليه بصورة توضِّح جسدها أكثر من المرة السابقة وألقت عليه ثيابها ثم نادت علي الحرس وطلبتْ منهم أن يُبعدوه عُنوه وتبرّأت منه.

هربَ الصبي منهم وجري ناحية الجهة الأخرى حيث أقف أنا مذهولاً ممّا يحدث، أسرع الصبي وهرول ليجتاز الطريق فبدي لي كأنّه يقطع سنوات من الزمان، شابَ فيها قلبه، وتيتّمت ملامح وجهه، واستحكمتْ التبالة علي عقله، استقرّ الفتي بجانبي ثم وقف يستجمع أنفاسه، نظرَ لي فوجدته قد تجاوز سنوات من العمر وتَعافي عليه الحُبّ، يبدوا أنّه أصبح في خانة مقتولي الهوي، نظرتُ له وتساءلت عن مدى إعراض والدته عن الاستجابة له فأخبرني بأنّها هكذا منذ سنوات تتردّد علي أماكن البِغاء، وله إخوة نصحوها فلم تستجب وظلّت تكيدُ لهم حتّي أردتهم تحتَ التراب، فسألته لماذا تصنع هذا؟، فأخبرني بأنّها تأبي أن تأخذ المال الّذي لدينا من فضل الله وتتجه لأن تحصل علي المال عن طريق البِغاء، أرخي الصبي رأسه وطأطأها للأسفل وأخبرني بأن مطلعها الأسود الذي يراه الجميع يسيطر علي قلبها الأبيض ذا الخلفية الخضراء،  كان قلبي ضعيفاً وأذني لا تُحِبّ سَماع الحكايات المُحزنة، فركِبْتُ دراجتي النّارية تاركاً الصبي وحيداً وتوجهتُ للمنزل.

كنتُ أظن أنّ هذا الموقف عابر وسيمضي كما مضي غيره، ولكن شاخ الصبي وصار عاشقاً مُمزّق المشاعر يحيكون جراحه في كلّ دربٍ من دروب الحياة، وما زالتْ أُمه تُمارس البَغي مع أصحاب العمارة الشاهقة لتأتي بقوتِ يومها وتحتفظ بمكانتها بين الساقطات، وما زال أصحابُ العمارات يتعالون في البنيان، وما زال الحرس يُطيحون بالصبي كلّما مرّ من هناك، وما زلتُ تائهاً ضعيف القلب لا أستطيع مساعدة الصبي ولا مواجهة والدته الساقطة.

هل بإمكانك أن تخبرني من أنا، ومن الصبي، ومن الساقطة، ومن أصحاب العمارة الشاهقة؟

إن لم تستطع أن تخبرني فاقرأ القصّة مرةً أخري بتمعن ثم أجبْ علي الأسئلة. 



   نشر في 01 يونيو 2019 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا