مارسيل غوشيه و أطروحة انسحاب الدين من العالم المعاصر . - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

مارسيل غوشيه و أطروحة انسحاب الدين من العالم المعاصر .

  نشر في 10 غشت 2018 .

  

 إن القارئ ليتعجب من تضارب مواقف نظريات العلوم الإجتماعية بشأن علاقة الدين بالعالم المعاصر ، فمنهم (مأسسي هاته العلوم كإميل دوركايهم و ماكس ڤيبر و كارل ماركس) الذين مالوا إلى ترجيح فرضية انسحاب الدين من العالم الحديث ، و ذلك توازيا مع تقدم العلم و تطور الصناعة و تعقد تقسيم العمل ، و سواد التمدين و انتشار الديموقراطية في شكلها العلماني الليبرالي ، و ظهور دولة الرفاه و بروز الفردانية ، إذ ستكون نتيجة كل هذا هي انحسار و تقلص تأثير الدين على المجتمعات المعاصرة ، و تراجع مكانته إلى أن ينسحب كليا من الزمن الراهن (مارسيل غوشيه;1985) ، و تحل محله أديان عقلانية تتميز بالقابلية للتكيف و التغير حسب الظروف الإجتماعية ، عكس الأديان الكلاسيكية المقاومة للتغير الضروري لتطور المجتمعات (مثل حالة الإسلام في المجتمعات العربية) .

  و من جهة أخرى يحاجج بعض علماء الإجتماع ، بأن أطروحة العلمنة و انسحاب الدين من العالم الراهن ، مجرد موقف متجاوز يفتقر إلى الدقة العلمية و الواقعية (مثل بيتر بيرغر;1999 و خوسيه كازانوفا;1994) ، و يستدلون على ذلك بـ"المجتمع الأمريكي" الذي يعتبر أبرز مجتمع حداثي و صناعي و علماني ، كما أنه مجتمع المعرفة و العلم بامتياز ، لكن مع كل ذلك فإن الدين يحضر فيه بشكل كبير جدا و يخترق كل المستويات و الأنساق ، و هو ما يفند مزاعم و افتراضات أطروحة انسحاب الدين من العالم المعاصر ، المتضمنة في نظرية العلمنة السوسيولوجية (و ليس السياسية) .

  أكثر من ذلك فإن مع حلول عقد الثمانينات من القرن الماضي ، اجتاحت العالم طفرة دينية لامثيل لها كما أن استمراريتها لا يمكن التغاضي عنها في القرن الحالي ، حيث لوحظت عودة محمومة إلى الأديان و التقاليد و الروحانيات ، إذ كان ذلك هو الظاهرة الأكثر بروزا في هذه الفترة ، و هو ما لمسه كبار علماء الإجتماع ، حيث اعتبر "دانيال هيفري ليجي" أن أهم ما ميز مسارات الحداثة في عقد الثمانينات من القرن الماضي ، هو ولادة "حركات دينية جديدة Les nouveaux mouvements religieux ليس في الدول التي عرفت حداثة داخلية فقط ، بل كذلك حتى بالنسبة للدول التي استوردت مبادئها و قيمها (مثل دول العالم الثالث) ، حيث ظهرت هذه الحركات في الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا ، و كذا في إيران و أفغانستان (2004 ;Danielle H.Léger) ، و في سياق هذا الحدث غير المتوقع من طرف علماء الإجتماع الذي كانوا يظنون أن العالم كلما تقدم كلما ابتعد عن الدين خصوصا في صيغته التاريخية و التقليدية ، سوف يحدث انقلاب في منظور و مواقف و تحليلات هؤلاء العلماء بشأن الظاهرة الدينية ، حيث بدأ منذ ذلك الحين طرح مفاهيم جديدة تواكب ما عرفه العالم في الثمانينات من القرن الماضي ، مثل مفهوم “العودة” إلى الدين أو “الإتصال” بالدين عوض الإنفصال عنه ، و هو ما فرض تبني براديغم جديد ، اصطلح على تسميته بـ"عودة السحر إلى العالم Reenchantment of the world" ، عوض "نزع السحر عنه desantement of the word" ، ما يعني أن أطروحة انسحاب الدين قد تلقت مجموعة من النقود و هو ما دفع عدد غير قليل من علماء الإجتماع إلى التخلي عن أهم مقولاتها دون تطليقها كليا ، و عوض ذلك برزت أطروحة عودة دور الدين في المجتمعات المعاصرة ، والتخلص من مقولة “أفول الدين” التي كانت طاغية في السابق .

  بيد أن هذه العودة إلى المقدس لا يجب أن تفهم على أنها عودة في ثوب تاريخي ، فعودة الدين في زمن الحداثة لا يتطابق مع شكله المُعتقد و المُمارس في زمن ما قبل الحداثة ، إذ إن العودة في زمن الحداثة تختضب بما هو دنيوي (أي علماني) ، و ذلك ما يتجسد في مجموعة من الأنساق أهمها نسق السياسة و حقل المعرفة .

  فمع كل هذا ، فإن ذلك لا يعني أن هذه الأطروحة (انسحاب الدين من العالم) فاشلة في تفسير شبكة العلاقات بين الدين و العالم الراهن ، فلو عدنا لأبعاد الدين سوف نجد أن هذا الأخير يتضمن "بعدا معرفيا" (يخبر بماهية و مآل العالم) ، و "بعدا تنظيميا سياسيا" (حسب التجربة التاريخية لبعض الأديان ، خصوصا التوحيدية) ، و كذا "بعدا روحيا" يتجسد في أماني و طريقة نظر المؤمن للعالم و الحياة و ما بعد الحياة (ميرتشيا إلياده;2007;مترجم) .

  فلو بحثنا جيدا بمنهج تاريخي مقارن ، سوف نجد أن البعدين الأولين للدين (أي المعرفي و التنظيمي) فقدا قدرا مهما من قدرتهما التأثيرية على العالم المعاصر ، على ذلك يبني "مارسيل غوشيه" نموذجه التفسيري القائل بانسحاب الدين من العالم المعاصر ، حيث أن الديموقراطية العلمانية قوضت البعد التنظيمي في الدين (ما.غوشيه; 2007) ، و من جهة أخرى تسببت "الثورة العلمية" في تراجع المنظور الديني للطبيعة و العالم المادي ، و هو ما أضعف تأثير الدين على التفكير العلمي و مناهج تفسير العالم المادي ، و به يظهر بشكل واضح أن الدين يعرف تراجعا في هذين البعدين (المعرفي و التنظيمي/السياسي) بسبب مناهج التسييس المعاصرة و مناهج البحث العلمي التي بدأت تتبلور في شخص براديغم ينآى بعيدا عن كل هاجس أو إيمان ميتافيزيقي ، على الأقل منذ فرانسيس بيكون و رينيه ديكارت ، فإن العلم خصوصا منذ "أوجيست كونت" كع و نكص عن اتخاذ الدين كأساس لتحصيل المعرفة حول العالم ، و مذ ذلك الحين أصبح العلم بمناهجه التجريبية الوضعية التي لا تتعاطى إلا ما هو مادي ، أصبح ذلك هو السبيل الوحيد بالنسبة لإنسان الحداثة لفهم العالم في ابتعاد كلي عن مقولات الأديان ، و في نفس السياق و منذ القرن 19م سوف تنحو مجموعة من دول العالم إلى تأسيس حقل سياسي خارج إطار الدين (الدولة المدنية العلمانية) ، و هو ما تطور بل ساد معظم دول العالم ، و ذات الشيء كذلك ما ابتعد عن منهج الأديان في التسييس و الحكم ، و هو قوض فاعليتها من هذين الجانبين .

  من ذلك ، فإن أطروحة انسحاب الدين تظهر بشكل أكبر في الحقل السياسي و العلمي حيث الدين منسحب تماما إلا على صعيد المجال الخاص طبعا .

  من جانب آخر ، يظهر أن الدين لا زال يتحفظ بأحد أهم أبعاده و هو البعد الأكثر تكيفا مع العالم الحديث ، و هو "البعد الروحي" الذي لا يلزم إلا المؤمن به ، فمع تميز عصر الحداثة بالحريات الفردية و انقراض آيديولوجية تجميع الناس في أطر فكرية و دينية موحدة الذي كان ضرورية للحكم التوتاليتاري ، أصبح الإنسان الحديث في الدول الديموقراطية العلمانية أكثر تحررا من الناحية الدينية و الفكرية ، حيث لا يلزم بأي دين ، بل يختار دينه و أفكاره بإرادته الحرة ، و هو ما يتوافق مع البعد الروحي للأديان السائدة في المجتمعات الحداثية ، حيث تقتضي الدولة العلمانية بالضرورية "التعددية" سواء كانت دينية أو سياسية أو فكرية أو غيرها ، و بالتالي فهي لا تفرض الأفكار و الأديان على الناس ، بل يختار المواطنون أديانهم و أفكارهم بكل حرية و الدولة تحترم هذا الإختيار بل تحرس ممارسته من طرف المؤمن به ، و لعل هنا أحد المفارقات التي لم ينتبه لها علماء الإجتماع الكلاسيكيين الذين اعتقدوا أن تطور العلمانية في المجتمعات الحديثة يعني تراجع الدين ، بل بالعكس و كما يؤكد معظم السوسيولوجيين في العقود المتأخرة ، فإن العلمانية في المجتمعات الغربية تعتبر أحد أهم العوامل التي ساهمت في انتعاش الدين و استمراريته و ليس العكس (Markus Dressler and Arvind-pal Maindair ; 2001) .

  بناءا على ذلك ، يمكن القول بأن الأديان في العالم الحديث لم تلفظ آخر أنفاسها ، بل يبدو بأن نفسها لازال طويلا ، خصوصا بما كان يعتقد أنه سلاح يدفعها إلى الإنقراض (كالعلمانية) ، فرغم تآكل أدوار الأديان التنظيمية و السياسية و المعرفية في بعض مجتمعات العالم ، فإن أوارها يشتد و يتقوى في بعض المجتمعات خصوصا التي تتوسل الدين كمشرع للسلطة السياسية كما هو سائد في الأنظمة الديكتاتورية ، و هو ما يضع أمام أطروحة غوشيه علامة استفهام ، فلا يمكن التعميم كليا بأن الدين يحتضر و يستهل رحلة الإنسحاب من العالم ، فلا تظهر أي قرائن مؤكدة لهذا الإفتراض في بعض المجتمعات (التي ربما هي الأكثرية) ، غير أن أطروحة م.غوشيه يبدو أنها تنطبق على بعض المجتمعات الغربية فقط الذي تحقق فيها "سقف التاريخ" حسب تعبير "عبد الله العروي" ، أي تلك المجتمعات التي عرفت سيرورة تمايز و تفاضل في حقولها و أنساقها الإجتماعية ، و فصلت الديني عن السياسي ، و تبنت الديموقراطية ، و طورت ثقافاتها على أسس علمية و قيم كونية وفق منظور منفتح ، و هو ما زعزع أركان عناصر الثقافة التقليدية لهذه المجتمعات ، الذي يعتبر الدين أوضح وجوهها ، ذلك ما أعاد صياغة الدين حسب ثقافة الحداثة (السياسية و الحقوقية و الفكرية) ، فالأمر كما يلاحظ "أوليفييه روا" لا يتعلق بانسحاب الدين كليا و إنما بتغيير أشكال حضوره في العالم الحديث (أ.روا; 2008- مترجم) .

  هكذا إذن فلكلا المنظورين قيمته التفسيرية المنطبعة بـ"النسبية "، فلا أطروحة انسحاب الدين و العلمنة تفسر كليا علاقة المقدس و الدنيوي المعاصر ، و كذا فإن أطروحة استمرار الدين كقوة تأثيرية في المجتمعات المعاصرة ، لا تفسر بشكل دقيق أشكال استمراريته و ديناميات حضوره في مجتمعات العالم الحديث ، لعل ذلك ما يقتضي تطوير المناهج التفسيرية للعلوم الإجتماعية لمواكبة طفرة الديني و العلماني في الفترة المعاصرة ، و تقديم أجوبة علمية حول سيرورات تشكلهما و إعادة تشكلهما في المجتمعات المعاصرة .




  • 1

   نشر في 10 غشت 2018 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا