إن القارئ ليتعجب من تضارب مواقف نظريات العلوم الإجتماعية بشأن علاقة الدين بالعالم المعاصر ، فمنهم (مأسسي هاته العلوم كإميل دوركايهم و ماكس ڤيبر و كارل ماركس) الذين مالوا إلى ترجيح فرضية انسحاب الدين من العالم الحديث ، و ذلك توازيا مع تقدم العلم و تطور الصناعة و تعقد تقسيم العمل ، و سواد التمدين و انتشار الديموقراطية في شكلها العلماني الليبرالي ، و ظهور دولة الرفاه و بروز الفردانية ، إذ ستكون نتيجة كل هذا هي انحسار و تقلص تأثير الدين على المجتمعات المعاصرة ، و تراجع مكانته إلى أن ينسحب كليا من الزمن الراهن (مارسيل غوشيه;1985) ، و تحل محله أديان عقلانية تتميز بالقابلية للتكيف و التغير حسب الظروف الإجتماعية ، عكس الأديان الكلاسيكية المقاومة للتغير الضروري لتطور المجتمعات (مثل حالة الإسلام في المجتمعات العربية) .
و من جهة أخرى يحاجج بعض علماء الإجتماع ، بأن أطروحة العلمنة و انسحاب الدين من العالم الراهن ، مجرد موقف متجاوز يفتقر إلى الدقة العلمية و الواقعية (مثل بيتر بيرغر;1999 و خوسيه كازانوفا;1994) ، و يستدلون على ذلك بـ"المجتمع الأمريكي" الذي يعتبر أبرز مجتمع حداثي و صناعي و علماني ، كما أنه مجتمع المعرفة و العلم بامتياز ، لكن مع كل ذلك فإن الدين يحضر فيه بشكل كبير جدا و يخترق كل المستويات و الأنساق ، و هو ما يفند مزاعم و افتراضات أطروحة انسحاب الدين من العالم المعاصر ، المتضمنة في نظرية العلمنة السوسيولوجية (و ليس السياسية) .
أكثر من ذلك فإن مع حلول عقد الثمانينات من القرن الماضي ، اجتاحت العالم طفرة دينية لامثيل لها كما أن استمراريتها لا يمكن التغاضي عنها في القرن الحالي ، حيث لوحظت عودة محمومة إلى الأديان و التقاليد و الروحانيات ، إذ كان ذلك هو الظاهرة الأكثر بروزا في هذه الفترة ، و هو ما لمسه كبار علماء الإجتماع ، حيث اعتبر "دانيال هيفري ليجي" أن أهم ما ميز مسارات الحداثة في عقد الثمانينات من القرن الماضي ، هو ولادة "حركات دينية جديدة Les nouveaux mouvements religieux ليس في الدول التي عرفت حداثة داخلية فقط ، بل كذلك حتى بالنسبة للدول التي استوردت مبادئها و قيمها (مثل دول العالم الثالث) ، حيث ظهرت هذه الحركات في الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا ، و كذا في إيران و أفغانستان (2004 ;Danielle H.Léger) ، و في سياق هذا الحدث غير المتوقع من طرف علماء الإجتماع الذي كانوا يظنون أن العالم كلما تقدم كلما ابتعد عن الدين خصوصا في صيغته التاريخية و التقليدية ، سوف يحدث انقلاب في منظور و مواقف و تحليلات هؤلاء العلماء بشأن الظاهرة الدينية ، حيث بدأ منذ ذلك الحين طرح مفاهيم جديدة تواكب ما عرفه العالم في الثمانينات من القرن الماضي ، مثل مفهوم “العودة” إلى الدين أو “الإتصال” بالدين عوض الإنفصال عنه ، و هو ما فرض تبني براديغم جديد ، اصطلح على تسميته بـ"عودة السحر إلى العالم Reenchantment of the world" ، عوض "نزع السحر عنه desantement of the word" ، ما يعني أن أطروحة انسحاب الدين قد تلقت مجموعة من النقود و هو ما دفع عدد غير قليل من علماء الإجتماع إلى التخلي عن أهم مقولاتها دون تطليقها كليا ، و عوض ذلك برزت أطروحة عودة دور الدين في المجتمعات المعاصرة ، والتخلص من مقولة “أفول الدين” التي كانت طاغية في السابق .
بيد أن هذه العودة إلى المقدس لا يجب أن تفهم على أنها عودة في ثوب تاريخي ، فعودة الدين في زمن الحداثة لا يتطابق مع شكله المُعتقد و المُمارس في زمن ما قبل الحداثة ، إذ إن العودة في زمن الحداثة تختضب بما هو دنيوي (أي علماني) ، و ذلك ما يتجسد في مجموعة من الأنساق أهمها نسق السياسة و حقل المعرفة .
فمع كل هذا ، فإن ذلك لا يعني أن هذه الأطروحة (انسحاب الدين من العالم) فاشلة في تفسير شبكة العلاقات بين الدين و العالم الراهن ، فلو عدنا لأبعاد الدين سوف نجد أن هذا الأخير يتضمن "بعدا معرفيا" (يخبر بماهية و مآل العالم) ، و "بعدا تنظيميا سياسيا" (حسب التجربة التاريخية لبعض الأديان ، خصوصا التوحيدية) ، و كذا "بعدا روحيا" يتجسد في أماني و طريقة نظر المؤمن للعالم و الحياة و ما بعد الحياة (ميرتشيا إلياده;2007;مترجم) .
فلو بحثنا جيدا بمنهج تاريخي مقارن ، سوف نجد أن البعدين الأولين للدين (أي المعرفي و التنظيمي) فقدا قدرا مهما من قدرتهما التأثيرية على العالم المعاصر ، على ذلك يبني "مارسيل غوشيه" نموذجه التفسيري القائل بانسحاب الدين من العالم المعاصر ، حيث أن الديموقراطية العلمانية قوضت البعد التنظيمي في الدين (ما.غوشيه; 2007) ، و من جهة أخرى تسببت "الثورة العلمية" في تراجع المنظور الديني للطبيعة و العالم المادي ، و هو ما أضعف تأثير الدين على التفكير العلمي و مناهج تفسير العالم المادي ، و به يظهر بشكل واضح أن الدين يعرف تراجعا في هذين البعدين (المعرفي و التنظيمي/السياسي) بسبب مناهج التسييس المعاصرة و مناهج البحث العلمي التي بدأت تتبلور في شخص براديغم ينآى بعيدا عن كل هاجس أو إيمان ميتافيزيقي ، على الأقل منذ فرانسيس بيكون و رينيه ديكارت ، فإن العلم خصوصا منذ "أوجيست كونت" كع و نكص عن اتخاذ الدين كأساس لتحصيل المعرفة حول العالم ، و مذ ذلك الحين أصبح العلم بمناهجه التجريبية الوضعية التي لا تتعاطى إلا ما هو مادي ، أصبح ذلك هو السبيل الوحيد بالنسبة لإنسان الحداثة لفهم العالم في ابتعاد كلي عن مقولات الأديان ، و في نفس السياق و منذ القرن 19م سوف تنحو مجموعة من دول العالم إلى تأسيس حقل سياسي خارج إطار الدين (الدولة المدنية العلمانية) ، و هو ما تطور بل ساد معظم دول العالم ، و ذات الشيء كذلك ما ابتعد عن منهج الأديان في التسييس و الحكم ، و هو قوض فاعليتها من هذين الجانبين .
من ذلك ، فإن أطروحة انسحاب الدين تظهر بشكل أكبر في الحقل السياسي و العلمي حيث الدين منسحب تماما إلا على صعيد المجال الخاص طبعا .
من جانب آخر ، يظهر أن الدين لا زال يتحفظ بأحد أهم أبعاده و هو البعد الأكثر تكيفا مع العالم الحديث ، و هو "البعد الروحي" الذي لا يلزم إلا المؤمن به ، فمع تميز عصر الحداثة بالحريات الفردية و انقراض آيديولوجية تجميع الناس في أطر فكرية و دينية موحدة الذي كان ضرورية للحكم التوتاليتاري ، أصبح الإنسان الحديث في الدول الديموقراطية العلمانية أكثر تحررا من الناحية الدينية و الفكرية ، حيث لا يلزم بأي دين ، بل يختار دينه و أفكاره بإرادته الحرة ، و هو ما يتوافق مع البعد الروحي للأديان السائدة في المجتمعات الحداثية ، حيث تقتضي الدولة العلمانية بالضرورية "التعددية" سواء كانت دينية أو سياسية أو فكرية أو غيرها ، و بالتالي فهي لا تفرض الأفكار و الأديان على الناس ، بل يختار المواطنون أديانهم و أفكارهم بكل حرية و الدولة تحترم هذا الإختيار بل تحرس ممارسته من طرف المؤمن به ، و لعل هنا أحد المفارقات التي لم ينتبه لها علماء الإجتماع الكلاسيكيين الذين اعتقدوا أن تطور العلمانية في المجتمعات الحديثة يعني تراجع الدين ، بل بالعكس و كما يؤكد معظم السوسيولوجيين في العقود المتأخرة ، فإن العلمانية في المجتمعات الغربية تعتبر أحد أهم العوامل التي ساهمت في انتعاش الدين و استمراريته و ليس العكس (Markus Dressler and Arvind-pal Maindair ; 2001) .
بناءا على ذلك ، يمكن القول بأن الأديان في العالم الحديث لم تلفظ آخر أنفاسها ، بل يبدو بأن نفسها لازال طويلا ، خصوصا بما كان يعتقد أنه سلاح يدفعها إلى الإنقراض (كالعلمانية) ، فرغم تآكل أدوار الأديان التنظيمية و السياسية و المعرفية في بعض مجتمعات العالم ، فإن أوارها يشتد و يتقوى في بعض المجتمعات خصوصا التي تتوسل الدين كمشرع للسلطة السياسية كما هو سائد في الأنظمة الديكتاتورية ، و هو ما يضع أمام أطروحة غوشيه علامة استفهام ، فلا يمكن التعميم كليا بأن الدين يحتضر و يستهل رحلة الإنسحاب من العالم ، فلا تظهر أي قرائن مؤكدة لهذا الإفتراض في بعض المجتمعات (التي ربما هي الأكثرية) ، غير أن أطروحة م.غوشيه يبدو أنها تنطبق على بعض المجتمعات الغربية فقط الذي تحقق فيها "سقف التاريخ" حسب تعبير "عبد الله العروي" ، أي تلك المجتمعات التي عرفت سيرورة تمايز و تفاضل في حقولها و أنساقها الإجتماعية ، و فصلت الديني عن السياسي ، و تبنت الديموقراطية ، و طورت ثقافاتها على أسس علمية و قيم كونية وفق منظور منفتح ، و هو ما زعزع أركان عناصر الثقافة التقليدية لهذه المجتمعات ، الذي يعتبر الدين أوضح وجوهها ، ذلك ما أعاد صياغة الدين حسب ثقافة الحداثة (السياسية و الحقوقية و الفكرية) ، فالأمر كما يلاحظ "أوليفييه روا" لا يتعلق بانسحاب الدين كليا و إنما بتغيير أشكال حضوره في العالم الحديث (أ.روا; 2008- مترجم) .
هكذا إذن فلكلا المنظورين قيمته التفسيرية المنطبعة بـ"النسبية "، فلا أطروحة انسحاب الدين و العلمنة تفسر كليا علاقة المقدس و الدنيوي المعاصر ، و كذا فإن أطروحة استمرار الدين كقوة تأثيرية في المجتمعات المعاصرة ، لا تفسر بشكل دقيق أشكال استمراريته و ديناميات حضوره في مجتمعات العالم الحديث ، لعل ذلك ما يقتضي تطوير المناهج التفسيرية للعلوم الإجتماعية لمواكبة طفرة الديني و العلماني في الفترة المعاصرة ، و تقديم أجوبة علمية حول سيرورات تشكلهما و إعادة تشكلهما في المجتمعات المعاصرة .