تقدم نحو باب منزلي وطرق في الباب، فتحت وإذا به رجل جالس على الأرض في حزن ثم رفع رأسه نحوي وسألني، أخبرني عن الاشتياق...
فأجبته:
كان لي أب حنون يعمل بجد من اجلنا، لم أكن اراه سوى مرة في الشهر فظروف عمله قاسية ولا تسمح له بلقائنا سوى في تلك الفرصة الشهرية التي يأتي فيها يحمل راتبه في يده يعطيه لنا لكي نسد جوعنا ونكسو به أجسادنا، لطالما كرهته فأنا لم أكن أراه سوى يوم في الشهر، هو لم يكن معي في أحزاني و أفراحي كما يفعل آباء أقراني، وهو اليوم قد رحل و كم أنا مشتاق اليه و لو للحظة لأقول له كم أحبك يا أبي الغالي
كانت لي أم عطوفة، لطالما نهرتني عن أخطائي و سهرت على تدريسي رغم مللي الشديد من ذلك، لطالما غضبت منها و بكيت أحياننا من معاملتها التي اعتقدت أنها تظلمني بها و عدم تركها لي فعل ما أريد أو السهر مع أصحابي لأوقات متأخرة، و لكن رغم هذا يا للأسف كيف لم ألحظ أن بفضلها لم أجع يوما و لم أمرض الا و هي قربي و لم أمشي متسخا يوما و لم أقرب الشر و لم يقربني يوما، و الآن هي قد رحلت و صرت حرا كما اعتقدت يوما، لو تدري قدر حرقت قلبي من اجلها، رحلت و لم أقل لها شكرا لكل ما فعلت من أجلي يوما، كما أشتاق و لو لبرهة لأخبرها كما أحبها بعمق
كان لي اخوة رائعون، لطالما تخاصمنا وتشاجرنا نادرا ما كنا نتفق و نتفاهم، ولكن هم من ملؤا حياتي حبا و حنان، لم أشعر بالملل يوما بفضلهم و لم أشعر بذلك النعيم قط، فكثيرا ماكنت أتضايق و أتأفف منهم، في ضعفي هم من ساندوني في أفراحي كانوا أول من يهنأني، كم سهرنا معا و كم لعبنا و سافرنا و ضحكنا، اليوم وافاهُم الأجل فصار العالم موحشا و كأني خلقت وحيدا في الأرض الواسعة، كما أشتاق للحظة واحدة لأحضنهم جميعا و أقول لهم كم أحبكم
أصحابي، أحبابي وخلاني الذين كانوا منارة دربي، كثيرا ما تعلمت منهم ولطالما ساعدوني في ضيقاتي و وقفوا الى جانبي حين تركني من حولي في المجتمع و آنسوني حين لم أجد من أكلم، لم تكن لي ضالة في الدنيا الا كانوا في سبيل تيسيرها، و ها هم اليوم افترقوا جميعا و استحال وصلهم لم أعد اراهم، أتمنى و أرجوا لو تعود لحظة واحدة حين كنا مجتمعين و البسمة و الفرح في وجوهنا، احبكم فأنتم في قلبي جميعا.
روحي وشخصي القديم، البراءة، الرئفة، العفوية، العاطفة والمحبة كلها امتزجت مع شر المجتمع والناس لتتولد بدلها الأنانية، الحقد، الحسد والغيرة، متى أعود لأبتسم في وجه الآخرين بصدق و أتصدق للمحتاج عطفا عليه و احترام له و أساعد غيري بإحسان و غيرها و غيرها متى يا ترى متى...
أنا أعتدر عن كل لحظة تقصير وتعجرف نحوكم، فما أنا بأنا اليوم سوى بفضلكم فشكركم وحده لا يكفي وحبكم وحده لا يوفي، سامحوني فكل جمال فقد بريقه من دونكم وكل جمال صار مشوها برحيلكم و كل حلو صار مرا بفراقكم.
ثم أحنيت رأسي للأسفل وأجبت السائل: فاذا سألوك مرة أخرى عن الاشتياق فقل هو أهلي وأحبابي.
-
كارك ياسرلربما افكاري تخلدني بعد موتي