إعاقة تكنولوجية - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

إعاقة تكنولوجية

قصة قصيرة

  نشر في 24 نونبر 2018 .

أعدّت رقيّة فنجان القهوة خاصتها وذهبت به إلى غرفتها المرتبة والمعطّرة برائحة الليمون. كانت تسرع إلى السوق كلما نفذت منها هذه المعطرات التي تعمل على الكهرباء, فتأتي بصناديق أخرى تضعها في المطبخ لتنام بعدها بعيون قريرة وأنفٍ سعيد.

أمسكت بقلم الرصاص وشرعت بكتابة مسودّة الامتحانات النهائية لطلابها. كان من المفروض أن تكون هذه مسألة بسيطة على أستاذة مثلها, أمضت ثلاثون عاما من عمرها وهي تدرّس اللغة العربية لطلاب المرحلة الابتدائية. لكنّها هذه المرة كانت تكتب الأسئلة بصعوبة وتململ, وكله بسبب فاطمة مديرة المدرسة الجديدة, التي تسلّمت الإدارة بعد وفاة والدتها المديرة البسيطة التي لم تهتم يوما بإدخال التكنولوجيا على مدرستها, وحافظت على الطراز القديم في التدريس. أما الابنة فهي تريد تحديث المدرسة وإدخال الحواسيب فيها. لقد طلبت من جميع المعلمات أن ينشئن ما يسمى بالبريد الالكتروني وأن يكون لهن حساب على موقع فيس بوك, ليتواصلن مع الطلاب وأهلهم بلغة العصر الحديث. وبسبب جهل رقية في الحاسوب فقد تلقّت هذه الأوامر برجفة خوف في قلبها.

رشفت رشفة كبيرة من فنجانها ثم وضعت القلم جانبا, وأخذت تنظر إلى صورتها المعلقة على الحائط. لقد أخذت هذه الصورة عندما تخرجت من الجامعة, كم كانت تبدو يافعة ومليئة بالتطلعات الكبيرة إلى المستقبل. أما الآن فهي امرأة في الرابعة والخمسين, ولا تريد شيئا من الحياة سوى أن تُبقي لها نعمة السّتر حتى يواريها الثرى.

لا تريد أن تُضطّر يوما لمدّ يدها لإخوتها المتزوجين تسألهم بعض الصدقة. يكفي أنهم قد تمرّدوا على زوجاتهم وأبقوْها في بيت العائلة الصغير, ولم يرضوا ببيعه إلى أن يأتيها ابن الحلال الذي يبدو أنه قد تاه في شارع آخر أو مجرة أخرى, من يدري! لذا فعليها الآن أن تُكيّف نفسها مع متطلبات الإدارة الجديدة حتى تحافظ على لقمة عيشها. إنّها تخاف أن يتحوّل تمسكها بأساليب تدريسها القديمة إلى منفذ تستخدمه فاطمة لتستغني عن خدماتها, بغضّ النظر عن كونها صديقة والدتها المرحومة.

أخذت هذه الأفكار تزداد اسودادا وتفرّعا مع الوقت, مما جعلها تَهرع إلى الهاتف الأرضي لتتكلم مع ابنة أخيها روان وتخبرها بأن تمرّ عليها غدا بعد جامعتها لأمر هام.

في عصر اليوم التالي حرّكت رقية نفسها بصعوبة مِن على السرير, وهي تتمنى لو أنها داومت على الحمية ولم تصل بوزنها إلى هذا الحد الكبير. فتحت الباب فرأت روان وهي تحمل في يدها ما أرادته منها. جلستا في الصالة, وعلى الطاولة أمامهما وضعت رقية كأسين من الشاي بالنعناع مع بعض الكعك ثم أخذت تنظر إلى حاسوب روان بتهيّب.

"حسنٌ يا عمتي, هذه تُدعى فأرة ومن خلال نقرك عليها فإنك تتحكمين بما تريدين فعله على شاشة الحاسوب."

"لماذا اسمها هكذا؟ ألم يجدوا اسما ألطف من هذا!"

أخفت روان ضحكة أرادت أن تفلت وقالت: "لا أعرف يا عمتي. دعيني أبدأ بتعليمك الآن."

"لكن كل هذا سيتم بالعربية أليس كذلك؟ فأنا لا أعرف الانجليزية كثيرا."

"نعم لقد عرّبت الحاسوب الآن من أجلك, لا عليك."

مضت ساعتان وروان تحاول إيصال المعلومات إلى عمّتها بأبسط الطرق. لكن رقية كانت تنسى مايُقال لها في كل مرة, مما أدى إلى شعور ابنة أخيها بالإحباط.

"هيا يا عمتي احفظي ماكتبتِه الآن على هذا الملف."

وبأصابع مترددة ضغطت رقية على الزر, فصاحت روان:

"يا إلهي. عمتي لقد حذفتِ كل شيء!"

مرّ أسبوعان, تعلّمتْ فيهما روان درسا هاما في الصبر وهي تُعلّم عمتها لغة العصر. نصحتها بعد ذلك بالتسجيل بإحدى مراكز تعليم الحاسوب القريبة لتتعمق أكثر في برامجه المختلفة, وبالفعل قامت رقية بالتسجيل وبدأت بأخذ حصص التقوية المسائية.

كان التحسن يبدو واضحا على رقية التي أصبح عندها الآن هاتفا محمولا حديثا, وحاسوبا محمولا أيضا. في برنامج فيس بوك لها صفحة وأصدقاء, وفي برنامج تويتر أو كما تسميه هي –العصفور الأزرق- لها صفحة وأصدقاء أيضا. هذا غير اشتراكها في برامج الألعاب والتعارف. إنّ هذا العالم السحري الجديد قد سحبها من قوقعتها التي كانت تنظر للدنيا من خلالها فقط, وفتح لها مغارة الكنز. ليس بقولها لكلمة السر... افتح يا سمسم. بل بنقرة اصبع على أجهزتها الذكية.

في إحدى الأيام الخريفية وبينما كانت تجلس في المركز بانتظار المعلمة مع باقي زملائها الذين أنهوْا مرحلة شبابهم, دخل رجل يبدو في الستين من عمره, أنيق, أصلع, وله شارب كبير. تبِعتهُ المعلمة ثمّ عرّفت الطلاب عليه, وأخبرته بأن يجلس بجانب رقية حيث يتوفر هناك حاسوب إضافي.

"آنسة رقية أرجوك, هلا أريتِ السيد صبري كيف يشغّل حاسوبه فهذا يومه الأول بالتعلم." قالت المعلمة

نظرت رقية إلى الوافد الجديد بحياء وقالت: "بالتأكيد."

ألقى صبري تحية مهذبة عليها ثم جلس. أما هي فقد أحسّت بالارتباك الشديد وأرجعت حجاب رأسها المتراخي قليلا إلى الوراء, ثمّ بدأت بمساعدة زميلها الجديد بكلّ ودّ.

في الأيام التالية كان عقل صبري لا يستوعب أي معلومة جديدة في عالم الحاسوب, إلا ممن يدق قلبه الأرمل لها...

الآنسة رقية!


  • 3

  • نور جاسم
    اسمي نور. عراقية الأصل, أردنية المنشأ, أمريكية الإقامة, وهذا ساعدني كثيرا في التعرف على الثقافات المختلفة وإقامة الصداقات من كل مكان في العالم. أحب الكتابة/ أحلام اليقظة/الرسم/ السفر/ التمثيل/ الغناء/ الأفلام/ التأمل/ وال ...
   نشر في 24 نونبر 2018 .

التعليقات

ما احلى التكنولوجيا إن اوصلتنا الى من نحب او من تجعله يقع في حبنا ، اتقنت رقية واتقنت يا نور بحبنا الى قراءة قصصك دمت بود وابداع .
1
نور جاسم
شكرا لمرورك :)

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا