الملونة في الرسم الحديث - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الملونة في الرسم الحديث

سيرة اللون في اللوحة التشكيلية..بين التقليد والتجديد

  نشر في 14 يناير 2022  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

د. حسن بن عمارة كحلاوي .. تونس

الملخص

يتصدى المقال لعنصر من عناصر اللوحة التشكيلية على غاية من الأهمية هو اللون. فيتتبع انبثاقه منذ عصر النهضة حتى مطلع القرن العشرين في لوحات رسامين قدامى ومحدثين تميز كل واحد منهم بملونته الخاصة وتفرد بتوظيف قدراتها التعبيرية. ظلت لوحة الفريسكو والتمبيرا محتشمة وأحادية اللون حتى انبثقت مدرسة فلورنسا فوهبت للون ألقه ليرتسم على اللوحة بكل قوته. وكان لانتشار الورشات الفنية وظهور نظرية في اللون أثر كبير في تطور التجربة اللونية لدى جيل يمتد من دافنشي إلى تيسيان. وعرف اللون حضورا مميزا مع رسامين مثلوا جيلا ثانيا من أهم أعلامه كارافاج ورامبرانت وآخرين ظهروا في القرن الثامن عشر. ثم انتهى إلى مرحلة تفجر اللون فيها وتمرد على حضوره التقليدي الذي فرضته القواعد الكلاسيكية. فاستعاض عن المزج بالتجاور وانتشر على قماشة الرسم في هيئات مختلفة كاللمسة واللطخة والعجينة، متحررا من النموذج القديم ومؤسسا لمرحلة جديدة من الفن الحديث عرفت بالوحشية والانطباعية ممثلة في جيل ثالث من الرسامين أهم رموزه ادوار مانيه إلى ماتيس.

Abstract

The article deals with one of the elements of plastic painting that is very important, which is color. It traces its emergence from the Renaissance until the beginning of the twentieth century in the paintings of ancient and modern painters, each of whom was distinguished by his own color and unique in employing their expressive abilities. Fresco and Tempera remained modest and monochromatic until the Florentine school emerged and was endowed with the color it casts on the painting with all its might. The spread of art workshops and the emergence of a theory of color had a significant impact on the development of the color experience in a generation extending from De Vinci to Titien. The color had a distinct presence with painters who represented a second generation, one of its most important figures, Le Caravage, Rembrandt and others who appeared in the eighteenth century. Then it ended in a stage in which the color exploded and rebelled against its traditional presence imposed by the classical rules. So he replaced mixing with juxtaposition and spread on the canvas in different forms such as touch, smudge and paste, freeing from the old model and establishing a new phase of modern art known as Fauvism and Impressionism, represented by a third generation of painters, its most important symbols go from Edward Manet to Matisse.

المقدمة

ليس المقصود بالملونة في هذا البحث ذلك الطبق أو تلك الآنية التي يضع عليها الرسامون ألوانهم قبل تنفيذها على القماشة، فبعضهم لا يحتاجها لينشر ألوانه، بل المقصود بالملونة أسلوب تناول تلك الألوان وتقنية توزيعها والتحكم في العلاقات التي تربط بينها لتحقيق الاتساق الذي يحقق بدوره الهدف الحقيقي المرتقب من العمل الفني. فليس يفوتنا أن من بعض غايات الاستخدام اللوني الحصول على المنظور وتحقيق العمق في اللوحة التشكيلية. تشهد على ذلك بعض رسومات بومباي، المدينة الرومانية التي طمرتها البراكين عام 79م، والتي تم إجلاء بقاياها من تحت الأنقاض منتصف القرن السابع عشر. وأعمال بومباي تلك قديمة عهد تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد. تنوعت فيها أساليب النحت والرسم. وصلنا منها لوحة (الخباز ترنتيوس وزوجته) المنفذة بتقنية الرسم المائي(التمبيرا) على جدار أحد البيوت.

أسست مدرسة فلورنسا تقاليد في التلوين اتبعها رسامو العصر الحديث. ولم يكن الانتقال من تقنية الفرسكو والتمبيرا إلى تقنية الرسم الزيتي ليغير كثيرا من تلك التقاليد إلا فيما تعلق منها بخاصية المواد. إذ يكمن العامل المشترك بين الرسامين في التحكم بما يسمى باللون المحلي أو اللون الطبيعي الذي يكسو المرئيات. أما عامل التميز الذي فاضل بين أعمالهم فتمثل في وعي تقنية الفاتح القاتم والتحكم في توزيع الضوء والظل على فضاء اللوحة والقدرة على تحقيق النغمات اللونية التي تسيطر على العين لأول وهلة. ولعل ذلك ما حفز رسامي الهواء الطلق في القرن التاسع عشر ليخرجوا إلى الطبيعة بحثا عن ضالتهم المنشودة. لقد استطاعوا، من خلال ملاحظاتهم الرشيقة، أن يمنحونا ألوان الطبيعة ذاتها، ولكن عبر تنويعات لونية متباينة.

فالبحث إذن تتبع لأساليب وخبرات تركها رسامون أقدمون وحديثون على لوحاتهم. منهم من ظل محافظا على التقاليد التي ورثها عن سابقيه، ومنهم من تمرد على السائد وتفرد بأسلوب جديد مثير للغرابة. لذلك يزمع البحث التطرق إلى حضور اللون وتجليه عبر عينة تتناول جيلا من رسامي فلورنسا مطلع القرن السادس عشر وجيلا من رسامي القرن الثامن عشر وصولا إلى ثلة من رسامي أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين يمثلون المدرسة الوحشية والانطباعية. ويعرض المقال صور مقاطع من لوحات أولئك الرسامين لغرض التركيز على اختياراتهم اللونية دون التركيز على مضامين الأعمال أو العناصر التشكيلية الأخرى إلا بما يخدم إشكالية موضوع البحث وفروضه.

1- الموروث اليوناني وانبثاق اللون الفلورنسي

حري بنا، قبل أن نستعرض سيرة اللون في اللوحة النهضوية، أن نسوق لمحة عن واقع الفن الكلاسيكي الذي مهد لظهور نزعة جديدة. من ذلك أن المواد التي استخدمتها العمارة الفلورنسية كانت بسيطة للغاية. "لقد كانت تقتصر على عدد من الجدران الجصية البيضاء والنوافذ وواجهات الأبواب والأفاريز المرشوشة بمادة محببة رائقة يتدرج اللون فيها من رمادي مزرق خافت إلى أخضر رمادي أغمق وبني أمغر"( 1). وقد انتصر ألبرتو في مقالته حول الرسم (ديلا بيتورا، 1435) لتوظيف الأسلوب أحادي اللون قائلا: "أنا، في معظم الحالات، أعتبر الرسام الذي لا يعي جيدا قوة كل ضوء وظل في كل مستوى بأنه ذو قدرة متوسطة" ( 2) . وعلى الرغم من أن الأخوين (فان آيك) قد ابتكرا طريقة الرسم الزيتي في بلجيكا منذ منتصف القرن الخامس عشر، إلا أن جنوب إيطاليا ظل محافظا على تقنية الفرسكو. إن التقنية الجديدة تمثلت في ابتكار وسيط بين الطلاء البراق وبين الأصباغ. ذلك ما أنتج خاصية سيلان خال من آثار ضربات الفرشاة ( 3). إن لهذه التقنية الفلمنكية الجديدة مزايا جمة في استعمال الطلاء الزيتي. فهي تساعد على جفاف الأصباغ في مدة أطول. مما يسمح للرسام بإعادة أجزاء من اللوحة. وظلت طبيعة الرسم الشمالي تعتمد الرسم على اللوحة المسندية، في حين كان المذهب السائد في الجنوب يعتمد على الرسم الجداري قبل أن تنتشر التقنية الجديدة في كل أرجاء أوروبا.

2- المحترف الجديد

مع ظهور عصر النهضة، نشطت حركة اقتناء الأعمال الفنية. ومن هناك كان التوجه الفني الجديد يركز على موضوعات محاكية للواقع، مما حول الكثير من الصاغة والبنائين إلى مصورين ونحاتين. وأدى ذلك إلى ظهور مفاجئ لعدد من الرسامين اشتهر بعضهم أمثال دوناتيللو وغيرلاندو (معلم أنجلو) وسكوار تشوني وفيروكيو (معلم دافنشي) وبيروجينو (معلم رافاييل) وجيورجيوني (معلم تيسيان) الذين أسسوا ورشات حرفية وفنية. وبعد فترة من الدربة والبحث أصبح لكل منهم محترفه الفني الخاص وتلاميذه وأسلوبه في التعليم. وكان الطالب، أول أمره، يتعلم كيف يصنع الألوان فيسحقها ويمزجها بماح البيض أو بمواد غرائية، ويتعلم طريقة صنع الفراشي. واختلفت لديهم تجارب تحصيل الألوان. فمنها ما نجح ومنها ما أخفق، مثل ما حصل لدافنشي في بعض تجاربه من فساد زيتياته التي استخدم فيها الشمع الذائب. وبعد التعرف على الألوان وتحضير اللوحة ينتقل التلاميذ إلى سبر أسرار تركيب اللوحة وتنفيذ الأجزاء الأولية، يساعده الأستاذ بمعالجة الهنات وإضفاء اللمسات الأخيرة ووضع توقيعه على اللوحة لتصبح عملا تجاريا معدا للبيع. ومن التلاميذ من يتقدم في إتقانه لعمله ويرشح للأستاذية ومنهم من يستمر في المحترف يعد ما يطلبه معلمه من مواد( 4).

يتفق الرسامون حول طريقة إضاءة اللوحة ويتبعون القواعد التي سطرها لهم دافنشي: فترى الواحد منهم يسقط نورا مخففا على منطقة من الموضوع، ثم يجعل الألوان أكثر ضياء في المناطق الواضحة ويؤكد ضياء المناطق اللامعة. ويغطي بعد ذلك منطقة الظل بلون قاتم مخفف، ثم يضيف ألوانا أشد قتاما في مناطق الظلام، وأخيرا يظلل مناطق القتام المطلق بلون أسود. ويحاول في جميع الحالات أن يتبين الفروق بين الدرجات( 5).

بعد جيل واحد من ظهور الورشات الحرفية والفنية برز دافنشي ومايكل أنجلو ورفاييل وتيسيان. وانسحبت طريقة ألبرتو ذات اللون الواحد فاسحة المجال لنزعة خلابة في توزيع الظل والضوء والنمذجة المرهفة واللمسات النهائية الناعمة والضبابية( ). لقد كان تدريب خمس أو ست سنوات كفيلا لدافنشي اليافع ليصبح الأكثر تميزا بين أقرانه وليتمتع باستقلالية وجدارة ولينال شرف تنفيذ أعمال أستاذه وتلوينها مثل لوحة (تعميد مسيح فيروكيو). وحسب فازاري " فقد لون دافنشي تلك الوجوه وتلك الجبال البعيدة حتى أن أستاذه لم يعد يرغب في تناول الألوان أمامه يائسا من رؤية طفل صغير يتفوق عليه في عمله"( 6) .

3- الجيل الأول

3-1 دافنشي(1452- 1519) دون أن يتنكر لأسلوب التدرج الضوئي في الرسم الفلورنسي، برع دافنشي في تقنية التلوين الشفاف (سفيماتو) أثناء إنجاز تشريحات أستاذه فيروكيو(1435-1488) معتمدا تدرجا ضوئيا شفافا ولطيفا يظلل المشاهد البعيدة المجللة بسماكة المحيط الجوي.

يقول ناقد الفن والرسام جورجيو فازاري "لقد كان دافنشي مدهشا وساميا، تماما كما شاءت له الطبيعة. حيثما أرادت أن توجه خياله وعقله وروحه، أفصح عن ملكة تتجاوز الوصول بالأشياء إلى منتهى الإتقان والدقة والحيوية والصلاح والوداعة والسماحة ما لا يمكن أن يتصف به أحد غيره" ( 7). لقد جسد باقتدار ذلك المحيط الكوني الذي يشكل غشاء يحول بيننا وبين الأشياء البعيدة وينتج طبقة زرقاء ممعنة في المحول والتلاشي.

وفي مرحلة متقدمة من نضجه الفني، تحول دافنشي عن الموروث الفلورنسي الذي أخذه عن أستاذه الشغوف بالنحت، وأمعن في حف وجوه شخوصه بظل شفاف يربط بين الملامح والديكور الذي يكتنفها. فالتدرج الضوئي لديه أضحى تضادا رقيقا بين الظل والضوء، يعطي تأثيره على العمق والحجم. ذلك هو السر الذي يكتنف الحياة السرمدية للوحاته. إنه ينتصر للتبادل الخفي الذي توفره الدرجات الضوئية المعتدلة.

يجمع دافنشي الألوان متبعا نظريته (بحث في اللون) تقوده الوشائج التي تربط بين الألوان الأساسية والمتكاملة. إنه يجاور الأزرق والأحمر في ملابس العذراء ويجمع بين الأخضر والأحمر في ملابس الملاك. لعله التناسق ذاته الذي تمنحه الطبيعة، بما أنه مؤسس على ما يسميه نيوتن لاحقا بالطيف الشمسي، بما يعني متوالية لا متناهية للألوان في ظاهرة تحلل الضوء من خلال انكساره شعاعه على موشور بلوري. ذلك ما لاحظه دافنشي وعبر عنه منذ زمن بعيد في ظاهرة انعكاس الضوء على قطرات الماء.

في البورتريه السوداوي الحزين (جنيفرا بانشي1476، زيت على قماش42-37صم، الغاليري الوطني للفن، واشنطن) لا يكاد يتخلى عن الدلالات الرمزية المعهودة لديه. فنجده ينشر شجرة العرعر خلف وجه جنيفرا لأن اسم جنيفرا يعني بدوره شجرة العرعر. ونراه يستخدم نغمات حارة ليبرز شحوب الوجه المحاط بالخصلات الذهبية المجعدة للشعر الأحمر. ونرى قتامة أخضر الشجرة تنفتح تدريجيا على منظر بعيد لجبال زرقاء نائية، تتراءى لنا من بين الأغصان المتشابكة. في ذات اللوحة، يستخدم دافنشي نغمات باردة وحارة، تبدأ من الأخضر المعتم لشجرة العرعر وتنتهي إلى البرتقالي المنتشر على حلقات الشعر المجعد، وإلى أحمر اللباس وأمغر بشرة جنيفرا. كل تلك الألوان تتضاد مع أزرق الجبال المتلاشية في البيداء البعيدة ( ) . وفي لوحة (عذراء الصخور 1486، زيت، 198- 123 صم، اللوفر) لم يكن دافنشي بحاجة إلى استخدام الألوان ليترجم تلاشي الخطوط المحيطة وذوبانها في الفضاء، بل يستعيض عن ذلك بتقنية الفاتح القاتم. فالألوان بالنسبة إليه هي نغمات الضوء والظل حين تتوزع على السطوح المظللة، لتساهم بشكل أكبر أو أقل في إضفاء جمال طبيعي على الأشكال حين تكون في العتمة. أما حين تكون في حيز مضيء فتغدو أكثر إشراقا من خلال إشعاعها ولمعانها. ولعل لوحة (موناليزا) تجسد إحدى الإمكانيات المتعددة للتعبير بتلك التقنية. ليبدو وجهها الساكن معبرا بصيغة ما، من خلال الظلال المتراقصة حوله، ومكتظا بغزارة تعبيراته (8 ).

3-2 مايكل أنجلو (1475-1564)

في مرحلة نضجه الفني بدت حساسيته أشد وضوحا وملونته أكثر نقاوة من ذي قبل حيث استخدم ألوانا رقيقة من البنفسجي والرمادي الجماني أو اللؤلئي، ومن الوردي والأصفر والصباغ الأبيض. ألوان شاحبة حينا، عنيفة وحادة حينا آخر تبعا للإيقاعات المتنوعة. لايوظف أنجلو العناصر الزخرفية أو الطبيعية كالأشجار والمباني لإثراء موضوعه، بل يركز همه على قوة التكوين وجزالة الألوان. لقد أظهرت دراسة حديثة حول ترميم جداريات أنجلو أنه كان ملونا بارعا. وتبين بعد كشط طبقات الغبار من فوقها أنها تمتلك ألوانا غاية في التناسق والقوة التعبيرية. لقد كان يضيف طبقات لونية بعد جفاف ألوان التمبيرا لتعزيز أصباغه في مواجهة الرطوبة والحرارة.

ما هو السر الكامن خلف حركة الأجساد في تلاحمها وانطوائها على ذاتها في لوحة (المحاكمة الأخيرة). إن لم يكن التكوين والتوزيع فهو كامن بلا شك في التوظيف اللوني. إن التقابل بين الألوان المتكاملة يقود التضاد إلى أقصاه. يساعده في ذلك الدوران اللولبي لتلك الأجساد المتشنجة والمتهاوية إلى مصيرها المحتوم. لعل ذلك ما استهوى ناقد الفن أسانيو كوند يفي ليقول : "لقد عبر مايكل أنجلو عن كل ما يستطيع فن الرسم أن يفعله بالجسد البشري دون أن يهمل أي حركة أو أي إيماءة" ( 9). ينجز أنجلو توليفات لونية عسيرة لاسيما في تجميعاته بين الأحمر القرمزي المضيء، في لباس العذراء، والبرتقالي المحمر في معطف القديس يوسف، وفي مجاورة الأزرق المعدني لمعطف العذراء مع البنفسجي المزرق للباس القديس. يحدث كل ذلك تنافرا مع الأخضر الطيني.

وبعيدا عن الصور الذائبة لدافنشي، تبدو الخطوط المهيكلة أشد بروزا وتلوح الألوان أكثر شفافية في أعمال أنجلو. وتتنامى الحركات متتابعة كأنما ترمز إلى تعاقب أزمنة في تسلسل لولبي. كل ذلك في مناخ يشعرنا بأننا إزاء قطعة من النحت البارز. وبالرغم من إتقانه لفنه، لم يترك أنجلو سوى أربعة أعمال في الرسم، رافضا الظهور كرسام متمسكا بهويته نحاتا ومعماريا. لقد انتهت معه مرحلة الرسم الفلورنسي، وفقدت المحترفات الفنية ألقها وعنفوانها.

3-3 رافاييل (1483- 1520)

تعلم رافاييل الرسم في ورشة باريجان فترة تمتد بين 1494 و1500. وهو ثالث ثلاثة من رسامي فلورنسا الذين مثلوا عصرها الذهبي. ولمدة خمسة سنوات أو أكثر، لم يكن بالإمكان تمييز أعماله عن أعمال معلمه. وبدا تقليده جليا في لوحة (حلم الفارس) على مستوى التكوين والتوزيع اللوني. وحين انتقل إلى فلورنسا، لعب تأثير الفن الكلاسيكي دورا كبيرا في تحوله إلى أسلوب جديد، لاسيما بعد اطلاعه على أعمال دافنشي وأنجلو وبارتوليميو. وفجأة أصبح واضحا للعيان طابعه الخاص وشخصيته الفنية المستقلة. وتميزت مجموعة مترابطة من لوحاته برؤية جديدة على مستوى البنية واللون. لقد لخص في فنه أمزجة الذائقة الفلورنسية باختلاف موضوعاتها سواء أكانت دينية أم دنيوية. واستخدم في مرحلة شبابه تقنية الرسم الزيتي على الألواح الخشبية لرسم (مادونا) وهي ترتدي ثوبا أحمر أرجوانيا وتحمل في يدها منديلا أزرق، تحفها ألوان زاهية للرداء ذي الألوان الخضراء والزرقاء. ويضفي لون الوشاح الشفاف تناغما مع أزرق الفضاء البعيد.

في لوحة (القديس جورج والتنين 1505، زيت على لوح 31-27 صم، اللوفر) يبدو المشهد محاطا بكتل صخرية يمين اللوحة، ومغارة جبلية مظلمة على اليسار. يعتمد رافاييل ذلك كحلبة مثالية لنزال دام بين القديس والوحش.و يبدو خط الأفق منخفضا ليضفي شحنة درامية إضافية على المشهد. أما الألوان فقد بنيت أساسا على التضاد والتنافر والتقابل.تضاد بين أبيض الحصان وأحمر السرج وأسود اللجام والسلاح. وتقابل بين الصبغات الداكنة والأصفر المخضر الذي يكسو جلد التنين. وتنافر بين عناصر المشهد والخلفية التي تتلاشى في درجات الأزرق الرصاصي هاربة عبر المنظور الجوي.

يعطي رافاييل في زيتياته اهتماما خاصا لتوزيع درجات الأسود والرمادي على الخلفية. إنه يتبع طريقة مثلى لإبراز ملامح شخوصه بألوان دافئة ذات ومضات ضوئية. ويميز شخصياته بالوقار والمهابة والجمال والمثالية والتوازن، فضلا عن المناخات الشعرية التي تكتنفها. ففي لوحة (القديسة كاترين 1508، زيت على قماش 71-53 صم، المعرض الوطني، لندن)، يلغي رافاييل كل مظاهر القداسة مثل التاج والكتاب والسيف ويؤسس تكوينه التصويري على الحركة والليونة التي تطغى على الجسد. ويضفي لمسات رقيقة للتعبير عن الملامح الأنثوية التي ترتسم على الوجه الجميل. وتبدو ألوان الملابس والبشرة الناعمة مؤكدة الجمال الحسي بفضل الإضاءة الشفافة لفضاء المشهد. لعلها رؤية جديدة في التعاطي مع الموديل الأنثوي تتجاوز العرف القديم وتؤسس لنمط من الفن جديد.

3-4 تيسيان ( 1490- 1576)

يقول باولو لومازو: " تماما كما يغمر ضياء الشمس نور النجوم، يشرق تيسيان في سماء الفن أكثر من الرسامين جميعا، ليس في إيطاليا فحسب، بل في العالم بأسره" ( ). لقد حافظ تيسيان،في أول مشواره، على طريقة معلمه (جيورجيوني) في التلوين. حيث سيطرت النغمات الخضراء الرمادية على مساحات اللوحة. وعلى خطى معلمه، جاءت لوحته (مادونا بين القديس أنطوان والقديس روك 1508، زيت على قماش، 63-92 صم، مدريد، متحف برادو) مفعمة بألوان جيورجيوني في (مادونا والطفل). واستمد منه فكرته حول توظيف لون الخلفية التي تحتضن الشخصيات( ). غير أنه اختار بعد مدة أسلوبا جديدا في بسط ألوانه، مستخدما اللمسة العريضة ومحررا شخصياته من سطح اللوحة بفضل خطوط سميكة تحتضن الأحجام. وانتظمت الألوان التي جعلها في الصدارة أثناء تنفيذه للوحته المذكورة آنفا بالترتيب التالي: الرمادي للعتبة، والأخضر المعتم للوح تحت الكرسي، والأزرق المخضر للمعطف، والأحمر للرداء، والبرتقالي لمعطف القديس روك. فمن الثابت أن تيسيان يتبنى مبدأ علوية اللون وسطوته على العناصر البنيوية الأخرى التي تساهم في بناء اللوحة. فالتلوين والبنية النغمية يشكلان لديه وسيطا أساسيا للتعبير عن المناخ الحسي للمشهد. يساعده في ذلك توظيف الضوء الطبيعي في الفضاءات المفتوحة.

في لوحة (باخوس وآريان 1523)، تجلت "مقاييس" اللون التي اعتمدها في النغمية والسطوع والإشباع. أما النغمية فتمظهرت في تفكيك اللون والضوء لاحتوائهما على كل التنويعات الممكنة وكل امكانيات الألوان المتتابعة. وأما السطوع والإشراق فيتمثلان في كمية الضوء التي يعكسها السطح الملون. وأما الإشباع فيتمثل في درجة حضور اللون في خاصية صبغته التي تميزه عن غيره من الألوان. ولكي يجسد إشراق ألوان الطبيعة، يستخدم تيسيان نغمات لونية متراكبة،بطريقة تمنع كثافة بعض النغمات السوداء في الظلال ( 10).

لو أمكن لنا أن نقارن بين تيسيان ورافاييل وكارافاج من خلال لوحات تشترك في موضوع موحد مثل (إنزال بوليوني1507) لرافاييل و(إنزال في القبر1525) لتيسيان و(إنزال في القبر 1604) لكارافاج، لبدت لنا القيم اللونية متأثرة بعوامل عدة، منها العلائق التي تربط بين الأشياء والديكور والتضاد بين الألوان النقية والتقابل المباشر بين الألوان الأولية ( 11).

لئن كانت المفاهيم الجمالية السائدة تعطي أهمية للتصوير الخطي، فإن تيسيان لم يتوقف عن إعطاء أولوية مطلقة للون . ولعل ذلك ناتج انجذابه الشديد إلى الطبيعة. ففي رسالة وجهها ليدوفيكو دولس إلى فازاري حول تمشي تيسيان في مشواره الفني يقول: "إنه يمشي بنفس الخطوات التي تمشيها الطبيعة، فترى كل شخصياته تتحرك وتدب فيها الحياة وترى الأجساد ترتعش. لم يعترضنا في عمله تشوه أو سوء تقدير. كان كل شيء لديه دقيقا ومتزنا. لم يكن في عمله بهرج زائد بقدر ما تحلى بهدوء الطبيعة ولطفها" ( 12).

4- الجيل الثاني

4-1 كارافاج (1571-1610)

على مدى حياته الفنية، بدا مسكونا بفكرة الموت. ولم يكن لديه فرق، حينما يرسم، أن يكون موضوعه حياة صامتة أو لوحة تمثيلية لأشخاص أحياء، لاسيما حين يتعلق الموضوع بالأزهار والفاكهة أو بأناس من عامة الشعب. إنه ينظر إلى موضوعاته من زاوية واحدة. ويتمتع بنفس القدرة على الملاحظة والتحليل. فهو يغمس أشياءه في بركة من الضوء ويستلها من حجب الظلمة في طقوس غامضة تثير فكرة الموت. ولعل فكرته تتعمق أكثر حينما يقتصر الموضوع على سلة فاكهة. ففي غياب الأحياء، تترسخ فكرة الفناء بمجرد أن تبدأ أطراف الأوراق بالذبول والجفاف، وتبدأ الفاكهة بالتقلص والانكماش، وتكتمل دورة التلف والفناء شيئا فشيئا، منغمرة في ظل داكن تسحبه فرشاة الرسام. إنه رسام محب للواقع وملتزم به. وتلعب كل جزئية لديه دورا محددا ومعنى دقيقا في تكويناته. ففي العديد من لوحاته، يضع كارافاج الأشياء الثانوية موضع اهتمامه، ويجعلها في صدارة المشهد. فالأزهار والأردية المنثنية والفواكه وأكواب الكريستال تؤكد بذاتها حضورا واقعيا، وتجسد بمفردها فكرة الموضوع. ويظل عامل الزمن يلح على الحضور أكثر من أي عامل آخر. ذلك الزمن الذي يمر متسللا ليمحو الألوان والحياة. ولنا في لوحاته (باخوس المراهق) و(باخوس الفتي) و(سلة الفاكهة) أمثلة على أسلوب تناوله للموضوع. فالنغمة المغراء التي تكسو قشرة فاكهة الخوخ تميل إلى زرقة معتمة. وتلتف حول عنقود العنب أوراق عريضة بدأ الجفاف يتسلل إلى أطرافها معلنا دبيب الفناء.

من طقوس كارافاج استخدام ألوان حارة في ملونته من أجل إضاءة المشهد وإنتاج درجات ضوئية شفافة حيث الترابي المحمر(الأمغر) والأحمر والأصفر والترابي المحروق. ويجمع عادة في رسوماته الأحمر مع الأخضر الممزوج بالأبيض لتلوين الأقمشة والملابس. ويوزع نغمات باردة زرقاء للمعطف الذي يظهر في المستوى الأول من اللوحة والترابي المحمر لتلوين الوجوه والأجزاء المكشوفة من الجسد(13 ). مثال ذلك (سلة فاكهة 1596 زيت على قماش، 46-64 صم، ميلانو).

على القماشة الندية بفعل الصمغ والجبس، يصور كارافاج بقلم الفحم مقطعا جانبيا لسلة الغلال. وعلى خطوط محورية مائلة من الشمال إلى اليمين، يوزع خطوط ورقتي العنب الكبيرتين، ثم ينشر أولى مساحاته اللونية بفرشاة عريضة. يبث بعد ذلك ألوانه الحارة على السلة والفاكهة. ويوزع ألوانه الباردة على الأوراق. فينتج تجاور الألوان الحارة والباردة تضادا حادا بين منطقتي الضوء والظل. ويود أن يخفف من تلك الحدة فيضيف فوقها طبقات متراكبة على الأرضية الصفراء. ويحدث منطقة وسيطة متدرجة. ثم يضيف التفاصيل الصغيرة بفرشاة أدق: لمعان قشرة حبة الخوخ، ضفيرة سلة الخيزران، غبار حبات العنب وانعكاسات الضياء. غير أن اللوحة لا تبدو مكتملة بعد. لعل تلك الورقة اليافعة سوف تذبل في غدها دون أن ينتبه الرسام، لتأخذ شكلها التام الذي ينشده، فتواجه حتمية الفناء الذي حملته في بذرتها منذ البداية.

4-2 رامبرانت (1606-1669)

لم يغادر رامبرانت بلدته نحو إيطاليا ليحظى برؤية النماذج الأصلية لمعلميه البعيدين. ولم يمتلك من أعمال الذين سبقوه سوى نسخ قليلة. ولكنه يختزن في ذاكرته تمثالا نصفيا لرافاييل رآه معروضا في صالة بيع الأعمال الفنية. ويتذكر بورتريه من رسم تيسيان ونسخا من أعمال كارافاج. يقول إزاء ذلك: "وإن كنت لم أر أيا من أعمال كارافاجيو العظيم حية بلحمها، علي أن اثني عليه لاستخدامه الضوء والظل. وأثني على رجاله ونسائه الذين لا يشبهون الآلهة الحجرية أو مادة الأحلام أو المعتقدات. ولكن لهم الجلد الحقيقي والعضل والقوة والضعف أيضا" ( 14). ويثني مرة أخرى على الفنانين الذين أثروا تجربته الفنية فيقول: " علي أن لا أنسى رجال الشمال، دورر صاحب المهارة التي تخجل الكثير من الرسامين الآخرين، كراناك، وهولباين، روبنز، فانديك وبروغل"(15 ). ويرجع حضور الفاتح القاتم في مسيرته إلى ذكريات طفولته التي عاشها في طاحونة أبويه المظلمة. لذلك ظل يفضل الرسم ليلا تحت إضاءة الشموع. وقد ألهمه ذلك فلسفة خاصة يلتحم فيها مناخه النفسي بالضوء والظل حين يتواتران من حوله. ومن مبررات اختيار موضوعاته، يقترح علينا لوحة (الثور) "مرة رأيت ثورا مذبوحا، مسلوخا. لم أنسه أبدا بين كل ما رأيت من الحيوانات الميتة والتي لم تمت بعد. أخذت قسطي من الألم في ذلك كله. الثور الممدد بجسم مفتوح يلح على الوقوف أمامي. يجب أن يقف أمامنا جميعا، حيوانات كنا أم بشرا( 16).

بعد عام 1650 غير رامبرانت طريقته في الرسم، فكان يوزع ألوانه بسخاء، وبدت الفروقات أكثر تأكيدا وأشد تصريحا، مما ضخم تأثير الحجم والمساحة والعمق. لقد انتهى إلى تنفيذ ضربات عريضة بالفرشاة وبالسكين مستغلا متانة العجينة اللونية وقدرتها على النفاذ عبر المسامات إلى نسيج القماشة، الأمر الذي يزيد من إذكاء سطوة الملمس على الترددات اللونية (17 ). وفي الصورة الشخصية لزوجته الأولى (ساسكيا)، بدا كل عنصر ذائبا في الاتساق العام للوحة وفي التوافق التام للألوان. هي ذي النغمات المشعة للقميص الأبيض اللين في شفافيته وكتلته، تمتزج برقة فوق الصبغات الترابية المحروقة التي تلون الأرضية. ومن أجل إبراز القميص وإضفاء قيمة زائدة عليه، استخدم لونا أصفر مشعا وفاقعا على التنورة. وغطى جزءا منه باليد اليسرى وهي ترفع ذيل اللباس في اتجاه معاكس للضوء. فبدت كل عناصر التكوين والتوضيب المشهدي والإضاءة وتناغم الألوان واضحة وجلية. كل ذلك بفضل الكيمياء السحرية التي اكتنفت المشهد فأضفت جوا حميميا يليق بلقيا الرسام وزوجته" ( 18).

4-3 دومنيك أنغر (1780- 1867)

اتخذ دومنيك أنغر من حضور المرأة في لوحاته موضوعا جماليا ولم يتخل عنه طيلة مشواره الفني. فسخر كل طاقاته وموارده لتلك المهمة العسيرة. أيهما يكون الأجمل؟ الموضوع أم وسائط التعبير؟ وبأية أدوات سيتصدى الرسام لتجسيد الجمال المطلق في موضوع فني يختبر فيه أصباغه وألوانه؟ يقول شارل بودلير: "من ضمن الأشياء التي تميز الإبداع لدى أنغر، حسب اعتقادنا، حبه للمرأة... لا يكون أبدا في أشد قوته وسعادته إلا في حضرة شابة جميلة قادتها شباك الصيد إليه (19 ). فكيف يوحد أنغر المسافة الفاصلة بين موديلاته الواقعية وبين الصور الذهنية التي تتدفق على مخيلته.

تأثر أنغر أول أمره بأستاذه دافيد ونيكولا بوسان. غير أنه تمادى في المبالغة واعتنق أسلوبا جديدا طغى عليه البعد التعبيري وعرف بالكلاسيكية الحديثة. ومما يؤاخذ عليه، أن العديد من لوحاته المعروضة أثارت حفيظة الجمهور والنقاد على السواء. مثال ذلك أن نساء (الحمام التركي) والجارية (أوداليسك) لاقت استهجان النقاد بسبب المبالغة والتشويه الحاصلين في الفقرات العظمية الثلاث الزائدة على العمود الفقري للجارية. وهي مبالغة واضحة اعتمدها الرسام عنوة، لغرض تكييف استدارة العجز والخصر. وعلى الرغم من طابع العري الذي يطغى على الموضوعات فإن لوحاته تزخر، في المقابل، بحضور الأثاث والستائر والأقمشة والحلي، إلى حد يجعل اللوحة مكتظة. فما كان يمكن أن يوظف في مواراة الجسد الأنثوي وتغطيته، يبدو كأنما يشارك في التلصص ويحرض عين المشاهد أكثر على الفرجة والاشتهاء. لعله مؤشر على البذخ الذي تعيشه المرأة في واقعها البرجوازي. بذخ يعادل حجم الترف الذي يغمر عرش نابليون الخامس ويغطيه. وبقدر ما كان يستخدم الصبغات الحمراء والوردية الصارخة في موضوعاته في الملابس الرسمية الدينية والبرجوازية، بقدر ما كان حضور الألوان الباردة الزرقاء والخضراء في مشاهد العري الفردية والجماعية. لعل السر يكمن في أن مهمة الألوان الباردة تحريض الألوان الصفراء والمغراء على إبراز الأجساد في كامل إشراقها وغوايتها. وعلى النقيض من أسلوبه الباذخ الذي ألفناه، جاءت بعض أعماله متقشفة في المواد والألوان. واتسمت كل التفاصيل بواقعية ووفاء للنموذج المحسوس. ولعل ما يميز لوحة (مدام ديفوساي) تلك البساطة في التكوين وذلك الزهد في الاستخدام اللوني. فقد اقتصرت على ثلاثة ألوان فقط هي أحمر الأريكة وأسود اللباس وأصفر الشال. وتساقط الضوء على الجسد ليعطي انعكاسات لطيفة تساهم في ذبذبة النغمات الرمادية.

4-4 ديلاكروا (1798- 1863)

تميز ببحثه الدءوب أثناء تدريباته الأولى. وتعرف على رسامين يفوقون معلمه الأول (غيران) تلميذ (دافيد). ومن بين الرسامين الذين أثروا في مشواره الأول جيريكو وغرو ورسام المشاهد الأنجليزي بوننغتون الذي حثه على دراسة الطبيعة. غير أن ولعه الحقيقي قاده إلى متحف اللوفر حيث نقل الكثير من النماذج وتشرب أساليب معلميه الأفذاذ الذين سبقوه وتركوا له معينا لا ينضب. لقد نهل من لوحات روبنز وفيلاسكيز ورامبرانت وفيرونيز. وكان زيادة على ولعه ذاك مهووسا بالبحث عما وراء المظاهر المرئية وبالنبش عما وراء الواقع الحسي للأشياء. ولكن ذلك التناول الفلسفي لم يلهمه حلولا شافية. ومع ذلك كان بحثه العميق سببا مباشرا في بروز أعماله الأكثر حداثة سواء أتعلق الأمر بطاقة التحرر من الأشكال القديمة أم بتمرده على تقنية التلوين المعروفة.

يقول ماكسيم دي كامب: "في لوحته (قارب دانتي) يؤلف ديلاكروا سيمفونية لونية بالأخضر والأحمر" ( 20). وفيها يتجلى أحمر قبعة دانتي ويظهر تضاد حاد بين معطفي فرجيل وشارون في الخلف. حيث يتجليان للعيان فوق أرضية مشغولة بالأزرق والأخضر الداكن. بينما تبدو قطرات الماء على جناح المرأة، يمين المستوى الأمامي من اللوحة، منفذة بلمسات لونية محضة تتلاشى على مدى قريب، مخلفة تأثيرات براقة. ولا يخفى في هذا العمل الذي أبدعه ديلاكروا التأثير الكبير الذي خلفه روبنز. الأمر الذي جعله يتناول موضوع دانتي وفرجيل بإسهاب. ففيه تنعقد حبكة الدراما عبر حدة التضاد أو التنافر الذي تحدثه الألوان المتكاملة من الأخضر والأحمر، في تأثيثها لملابس الشخصين الملتفين بمعطفيهما على يمين اللوحة. وتبرز الزوبعة الدوارة والأجساد العارية التي تتهاوى إلى القاع وهي تحاول أن تتمسك بأطراف القارب طلبا للنجاة.

يبين المثلث اللوني المأخوذ من أحد دفاتر ديلاكروا كيفية معالجته الأساسية للون. ويتضح أنه يمزج الألوان الأولية ثنائيا (أصفر، أحمر، أزرق) للحصول على ألوان ثانوية (برتقالي، بنفسجي، أخضر). وهذه الألوان الثانوية تتضاد بدورها مع الألوان الأولية لتؤلف ألوانا متكاملة. ذلك التمرين الأولي هو بمثابة تحضير استباقي للدائرة اللونية التي تمثل قاعدة أساسية في ورشات رسامي النصف الثاني من القرن التاسع عشر 21). ففي لوحة (موت سردابال) يؤكد ديلاكروا أسلوبه الجديد ويختار ملونة غنية بالنغمات المتناسقة والمتضادة معتمدا أسلوب اللمسة في توزيع العجائن اللونية، مركزا على حضور عنصري السماكة والحجم. أما الفكرة الكامنة وراء حزمة الضوء التي تخترق اللوحة فهي إفراد جسد سردابال بالظهور من فوق مخدعها محاصرة بدوامة من الأجساد العارية التي تتداعى في حركة دءوب بفضل نغمات الفاتح القاتم المنتشرة على الأرضية الحمراء( 22).

وتمثل لوحة (صيد الأسود) أحد المشاهد الخيالية التي يشتبك فيها الرجال والوحوش في صراع دام من أجل البقاء. واللوحة عبارة عن دوامة مدوخة من الألوان. يقول بودلير إزاءها: " لا توجد ألوان أكثر منها روعة ولا أشد منها كثافة. إنها تنفذ إلى الروح عبر قنوات العين" ( 23). وهي حقا قطعة فنية تجسد شاهدا آخر على ثراء ملونة ديلاكروا. لكأننا نقف أمام سديم لا ينتهي وفوضى لا تهدأ تسبح فيها ألوان صفراء وحمراء وخضراء وبنفجسية. وهي دليل حي آخر على حضور روبنز.

عرف ديلاكروا كيف يستفيد من بحوث شفريل الباحث والعالم الكيميائي وكيف يستثمر تمرين (التضاد المتزامن) في اللون ( 24). لقد اختار مسلك اللون لأنه يمثل بالنسبة إليه حقيقة الطبيعة وصداها الروحي. ووجد فيه حلا يغنيه عن الصراع الذي يمزقه. فاستعاد من خلاله تماسكه الضائع واغترابه عن العوالم الخفية للطبيعة. ولعل ذلك ما جعل سيزان بعد عشرين عاما يصرح بأننا جميعا نسكن داخل ديلاكروا، وبأن كل الانطباعيين والرمزيين والرؤيويين والواقعيين من فان كوخ إلى ماتيس ينهلون من ملونته.

5- الجيل الثالث

5-1 إدوار مانيه (1832-1883)

يقول الروائي أميل زولا: "لقد خضع رسام شاب بكل سذاجة لميولات شخصية تتعلق بالرؤية والفهم وبدأ يرسم خارج القواعد المقدسة التي تعطى في المدارس، فأنتج بذلك أعمالا بطعم المرارة والقسوة جرحت أعين الناس الذين اعتادوا مظاهر أخرى" (25 ) . ونعتقد أن رأي زولا في التمشي الذي اختاره صديقه القديم مانيه كان قاسيا بعض الشيء. ومرد ذلك إلى نفور عابر حصل بينهما. ورغم ذلك، لم تكن لوحته المرفوضة (غداء على العشب) لتواجه اتهام خدش الحياء والتعدي على الأخلاق فحسب، بل كانت عرضة للانتقاد بسبب طريقة رسمها وتلوينها. لقد عرض جسدا أنثويا عاريا في الطبيعة دون ذريعة أكاديمية يستند إليها. أما تناوله اللوني المربك والذي أثار ضجة مماثلة، فيتمثل في تخلصه من الدرجات اللونية الوسيطة التي يحدثها الفاتح القاتم. فهو بذلك يبحث عن تمثيل واضح ومحدد للأشياء متخلصا من الألوان المعدلة ومن الأحجام المألوفة. ويعتمد مزاوجة صبغات مغراء مضيئة وألوانا خضراء ورمادية وسوداء في تلوين شخوصه. أنها تبدو، عبر ألوانها المسطحة، سابحة في الجو الكوني حائرة ومرتابة كأنما تتوقع حدوث أمر ما، مستدعية بمزاجها القلق وألوانها الباردة حزن العالم المعاصر (26 ).

ولئن طغت النغمات القاتمة والشخوص الجامدة على أعماله إلا أنه بات من الواضح تبنيه أسلوبا لا يستجيب مطلقا للمقاييس الأكاديمية. بل على العكس من ذلك، ومنذ مرحلة تدربه الأولى لدى (كوتير)، أضحى يتمرد ويغير من تطبيقاته اللونية متأثرا بواتو ولونان ودافيد. وانتهى إلى بحوث تحليلية مستعينا بلون قوي خالص ومباشر ليتخلص من النغمات الوسيطة. وعلى خطى ديلاكروا وكوربيه، خير الابتعاد عن الرسم المباشر الذي لا يزيد عن نقل المرئي بدلا من التعبير عن الواقع الحسي. لقد كان يود أن يبث عواطفه وأن يعبر عن حقيقة الأشياء وأن يتخلص من كل العوائق التي تعرقل تعبيره الحر. ولعل النموذج الأكثر تعبيرا عن الثورة اللونية لمانيه يتجلى في لوحة (نافخ المزمار 1866) التي بدا التأثير الياباني فيها جليا. حيث تبرز الشخصية على الأرضية بفضل تقاطع الأصباغ الستة. إذ لم يستطع مانيه مقاومة تأثير المطبوعات اليابانية التي سحرت أعين معاصريه الانطباعيين. ولعل زيارته الأولى إلى إسبانيا تركت في مخيلته ذكريات بعيدة عن أسلوب الفنان الفذ فيلاسكيز.

5-2 إدغار ديغا (1834-1917)

على عكس الكثير من معاصريه، لم يكن ديقا بوهيميا على الإطلاق. وكان يفضل صرامة التصوير المنفذ في المرسم على سطوة الضوء واللون الطبيعي في الهواء الطلق مثال ذلك لوحة (قسم الرقص). لقد كان ولوعا إلى حد بعيد بالحركة وبأداء راقصات الباليه والنساء الجميلات والخيل والشخصيات التي توحي إليه بكنه وجودها. يقول عن نفسه: "كنت، أو بدا لي أنني كنت فضا وقاسيا مع الجميع بسبب حالة انتابتني جراء صرامتي في التدريب وبسبب شكي ومزاجي السيئ. كان لدي شعور قوي بأنني خلقت على هيئة قميئة، وأنني كنت خمولا وتعوزني الأدوات. غير أن حساباتي في الفن كانت صحيحة تماما" (28) بدت خشبة المسرح، في اللوحة المذكورة آنفا، مشغولة بدرجات مغراء مخضرة، وانتثرت النغمات البيضاء الشفافة على فساتين راقصات الباليه الدوارة، والتمع أحمر المروحة متضادا مع أخضر النطاق على الخصر والرباط المعقود على الشعر. كل ذلك مبثوث في المستوى الأول من اللوحة بين أزرق الأرضية وأخضر الجدران التي تحتضن المشهد بأسره.

يستخدم ديقا تقنية خاصة فينجز تصويره بالحبر الطباعي (مونوتيب) ثم ينفذه فيما بعد بالباستيل ليحصل على درجات لونية حية تطفو فوق الأضواء المبثوثة حول عازفي الجوقة الموسيقية. فالمونوتيب أو التصوير الطباعي هو بالنسبة إليه مسودة أولية يعتمدها ويشتغل عليها منذ مرحلة البحث التخطيطي وصولا إلى اللمسة النهائية. يمرر مادته على الحامل المكون من الورق المقوى عادة ليحصل على درجة لونية أساسية يعتمدها للأرضية، ثم ينضد فوقها درجات لونية الواحدة فوق الأخرى حتى تحصل لديه طبقات متعامدة أو متراكبة متشابكة. وتسمح تلك التشابكات المائلة بالتمازج والذوبان لتعطي النغمات المنشودة. تتناسل الإمكانيات إلى ما لا نهاية. بيد أن الخطوط ذات الألوان الفاتحة على طبقة أشد قتامة تظل أكثر إيحاء لديه على الإطلاق( ). ويظل الرسم بالحبر الطباعي تقنية ديغا المفضلة والتي ينفذها بأسلوبه الشخصي. فيخطط صوره على صفيحة معدنية وينشر فوقها ألوانه الزيتية وأحباره الطباعية. ثم يبدل ويعالج ما يود تحويره بخرقة قماش أو بقطعة خشب مدببة. ويستخدم ورقة رطبة ومبللة يضعها فوق الصحيفة ويضغط عليها فتكون مطبوعة أو محفورة. ثم يثري عمله بلمسات نهائية بمادة الباستيل أو بمواد لونية أخرى. وتعد لوحة (مقهى السفراء) مثالا على تقنيته وأسلوبه الشخصي ( ). في آخر حياته وقد أصابه العمى، جاءت لوحات ديقا مشعة بالضوء مفتقرة إلى العلامة فاسحة المجال شيئا فشيئا للألوان الصفراء والبرتقالية والوردية والزرقاء الفاتحة والمعتمة التي استحوذت على الخطوط المحيطة بالشخوص وأنارت فضاء اللوحة أكثر من ذي قبل.

5-3 بول سيزان (1839-1906)

يقول الناقد والرسام البريطاني روجر فراي: "الميزة الثابتة لدى سيزان هي أن وعي المشهد التشكيلي ينبغي أن يكون مدركا فوق سطح القماشة كلها. ورغم إمكانية حضور نقاط إحداثية على حدود المشهد، فإن كل مقطع مهما تكن تفاهته، يوفر إسهاما دقيقا في المشهد عموما" (29). ويقول سيزان في رسالة وجهها إلى صديقه بيسارو يصف فيها قرية إيستاك الساحلية: "أسقف حمراء فوق بحر أزرق.. شمس مروعة إلى حد يخيل لي فيه أن الأشياء تتقلع من مواضعها كأشباح لتلبس شتى الألوان. ليست بيضاء وسوداء فحسب، بل زرقاء وحمراء وبنفسجية وداكنة..." (30).

من خلال تصريحه، يتضح أن الألوان هي التي تعنيه. ولا نعتقد فيما يبدو أنه سيرسم كل المشهد الذي يراه. بل لعله سوف يكتفي بجزء منه، دونما حاجة إلى نقطة منظور أو مستوى أول أو أي مرجعية أخرى. إنه ينقل إلينا أفكاره ويعيد إنتاج الطبيعة حسب المبادئ الشهيرة: تنفيذ أسلوب بوسان في الطبيعة المباشرة وتناولها من خلال رؤيتها اسطوانة أو مخروطا أو كرة. ما معنى ذلك؟ يعود المبدأ الأول إلى أسلوب بوسان وهو أحد أساطين الفن الكلاسيكي بعد دافنشي وأنجلو ورافاييل. فبوسان، رغم معاصرته لكارافاج في المنتصف الأول من القرن السابع عشر، وهي مرحلة متقدمة تاريخيا، كان ينظر إلى الواقع المرئي بوضوح. لقد انكشف له توازن بسيط وصريح في الطبيعة. وساعدته رؤاه المنظورية الجديدة على تبسيط الأحجام واختزالها هندسيا. وانتبه بول سيزان بدوره إلى ذلك السر ونقله بدوره إلى بيكاسو وبراك وغيرهما من رواد التكعيبية. أما المبدأ الثاني فيتمثل في نتائج أفكار سيزان وبحوثه الشخصية التي ميزت أسلوبه في رؤية أشكال الطبيعة وتمثيلها بطريقة تأليفية مؤسسة على قوة الأشكال الهندسية الصرفة وسطوتها.

وينطلق سيزان من الانطباعية ليجدد تمثيل فضائه، فيبدو بحثه، الذي أتقنه بعد عام 1882، واضحا للعيان. ويتجلى المشهد لديه بإشراق حين يكور الفضاء ويعطي لكل حجم منظوره المستقل. لقد أدى أسلوبه ذاك إلى تفكيك السطوح في الفضاء الواحد وأفضى بالتالي إلى ولادة التكعيبية.

5-4 هنري ماتيس (1869- 1954)

أثناء محاورة أعمال ماتيس، نود أن نستند إلى كتاباته حول الفن، وأن نستمد من آرائه العديدة ما يرشدنا إلى عالمه التشكيلي المتنوع والثري. يذكر ماتيس الدوافع التي ألحت عليه في اختيار أسلوبه الفني فيقول: "لقد كانت الوحشية بالنسبة إلي اختبارا للوسائط. أجاور جنبا إلى جنب وأجمع بطريقة تعبيرية وبنائية بين الأزرق والأحمر والأخضر. كان ذلك ناتج ضرورة ألحت علي يوما بعد يوم ولم يكن أبدا اختيارا طوعيا".(31) ص8 ولا يخفى تأثير غوغان عليه في استخدام الصبغات النقية لإحداث الضوء وبسط المساحة وتكوير الأحجام، بفضل تجميع الألوان .

لندقق النظر في ألوان بورتريه (مدام ماتيس). كتلة الشعر السوداء محوطة بانعكاسات البنفسجي المزرق. وهي بدورها تحيط بالوجه الذي أضيء بدرجات صفراء في جانبه الأيمن وبدرجات وردية في جانبه الأيسر. وبفعل الخطوط المهيكلة، تبرز الكتل الزرقاء الداكنة للحاجبين. وتذهب خلفية اللوحة متدرجة من البرتقالي المحمر إلى الأحمر الليلكي (البنفسجي الفاتح) من جهة، ومتدرجة في الأزرق القاتم فوق الكتفين من جهة أخرى. يبدو الموضوع بسيطا جدا. وجه أمامي لامرأة (مدام ماتيس)، منفذ بوسائط بسيطة. يعتمد على مجاورة الألوان الأولية فحسب. يساهم في إذكائها حضور الدرجات المحايدة للأبيض والأسود التي تتحكم في توزيع الضوء. ويبدو الوجه مفروقا في منتصفه بفعل الوهج الضوئي الذي يعطي شعورا بالدفء وبروزا للحجم بفضل الدرجات الصفراء والوردية( 32)

يحدد ماتيس مبدأه في تعامله مع الألوان كما يلي: "إن الحاجة الغالبة للون هي أن يكون في خدمة التعبير. ولو أسرني لون ما منذ الوهلة الأولى، فإنني لا أتردد في تغييره بعد إنهاء لوحتي. إما أن أغيره أو أغير تدريجيا الألوان الأخرى. فالجانب التعبيري يفرض علي نفسه بطريقة حدسية" (33). ومن أجل توضيح فكرته، نقترح دائرة لونية افتراضية استخدمها في لوحته (فرحة الحياة) المتأثرة إلى حد عميق بالفن العربي الإسلامي (الأرابسك) منذ زيارته للمغرب عام 1910. وسوف نركز اهتمامنا على التوظيف اللوني الذي حافظ عليه واتخذ منه معينا يعود إليه في غالب أحيانه.

لقد اختار دائرة لونية شخصية رتب ألوانها على نسق الطيف الشمسي: أصفر/ برتقالي/ أحمر/ بنفسجي/ أزرق/ أخضر/ بالإضافة إلى الألوان الوسيطة التي تتخللها. تعتبر تلك اللوحة بيانا رسميا للحركة الوحشية، وتكمن قوة حضورها وجاذبيتها قي (التضاد المتزامن) الذي يحدثه تجاور البرتقالي وأخضر أغصان الأشجار ( 34). ويفسر منهجه فيقول:"إنه من غير الممكن لدي أن أنقل الطبيعة حرفيا. فأنا مضطر إلى تأويلها وإخضاعها إلى فكرة اللوحة. واعتمادي على المواد المتوفرة ينبغي أن يحدث توافقا حيا بين الألوان من أجل الحصول على تناغم معادل لتناغم مؤلف موسيقي" (35 ). ويقول في موضع آخر: "لقد عملت بتفان من أجل إثراء عقلي بمختلف أسرار الفن، باذلا نفسي لمعرفة أفكار الأساتذة القدامى والمحدثين في فن الرسم" ( 36).

منذ عام 1905، عرف رسمه ما يسمى بالتفجر اللوني. لعل ذلك ناتج زيارته لصديقه روسيل في جزيرة فرنسا صائفة 1896. لقد اكتشف الشمس والضوء واللون، وأطلعه روسيل على أعمال فان كوخ الذي كان مغمورا بعد. وقدمه إلى بيسارو، آخر سلسلة الانطباعيين وشيخ أسلوب ما بعد الانطباعية، الذي أرشده إلى الانفتاح على الضوء واللون. لقد كان بيسارو بحق مرشدا فنيا مرموقا في توجيهه لثلة من الرسامين وتشجيعهم حتى أضحوا من أفضل مبدعي الفن الحديث ومنهم سيزان وغوغان وكوخ وسورا. وبفضل بنصائح بيسارو وتوجيهاته، اتضح لماتيس سبيله وقدره التلويني.

الخاتمة

يشترك أغلب الرسامين في إيلاء أهمية للقيمة التعبيرية للون. ومن دافنشي إلى ماتيس، حاول كل واحد من هؤلاء أن يصرح بهواجسه في مجابهة اللون. لقد تفطن الجيل الأول، دافنشي وأنجلو ورافاييل وتيسيان إلى تلك القيم التأثيرية، فابتكر كل منهم تقنية تتلاءم مع أسلوبه في التلوين. فكانت ميزة دافنشي مبثوثة في السطوح الخلفية ذات المناظر الجبلية البعيدة والصخور الذاهبة في العمق والمغطاة بغشاء جوي كثيف والملتفة بغلاف غيوم صباحية شفافة، تلطف كثافة الأجسام وتلين سطوة الضوء. وقد بدا ذلك جليا في لوحتي (الجوكندا) و(عذراء الصخور). وتميزت اللوحة الجدارية لأنجلو (المحاكمة الأخيرة) بسطوة الخطوط المهيكلة وشفافية الألوان والتمسك الصريح بالنحت، في بحث دءوب عن العمق. واتبع رافاييل نفس الطريقة. وبالرغم من اختلاف أسلوبه في التلوين، أتاحت لوحة (عذراء فولينيو) للمشاهد أن يدرك المنازل البعيدة الموغلة في العمق تحت غشاء شفاف متدرج في الأزرق. أما تيسيان فأعطى للون انبثاقه الحقيقي وحرره من تقنية الفاتح القاتم التي غلبت على أسلوب معاصريه. وبدت أعماله كهمزة وصل تربط بين جيله الأول والجيل الذي يليه.

الجيل الثاني الذي مثلناه بكارافاج ورامبرانت دومينيك أنغر وديلاكروا، رغم الفارق الزمني الذي يفصل بينهما، راوح بين مراكمة القديم والتحرر منه والتمرد عليه. فكان اهتمام كارافاج بالمناخات الدرامية ملحا. اعتمد مواضيع الطبيعة الصامتة للتعبير عن الموت (سلة فاكهة). وكان حضور ألوانه النقية واضحا في بحثه عن معادل تشكيلي يميزه عن أساليب سابقيه. أما رامبرانت فيعلل حضور الفاتح الغامق بمناخاته الطفولية التي عاشها في طاحونة والديه. ويعبر في كل أعماله عن ارتباطه العضوي بالمادة اللونية وبحثه عن التحولات تحت ثقل الواقع في صوره الذاتية. ويرى أن ذكريات الماضي تتراكم على ذاكرته كثيفة مثلما تتراكم الأصباغ على قماشته. إنه يود أن يعيش الأحداث بحرارتها وأن يتنفسها كما يتنفس الألوان التي يعجنها ويخلطها ويربت عليها قبل أن يوزعها ليس بالفرشاة والسكين فحسب، بل بأصابعه وراحة يده العارية. لعلها غواية الالتحام بالأشياء إلى درجة انتفاء الفارق بين اليد التي يرسمها واليد التي يرسم بها. في آخر مشواره، بدت ملونته سخية بالألوان النقية الحارة مثله مثل كارافاج. أما أنغر فقد تفتقت موهبته على أسلوب جديد ميزه عن معلميه. وبقدر ما كان باذخا في توزيع ألوانه الحارة وإسباغها على الموضوعات الرسمية الصاخبة، بقدر ما كان متقشفا فيها لإبراز فتنة الأجساد الأنثوية. لقد كان الرسام الفرنسي الوحيد الذي يقيم في إيطاليا وتعرض أعماله في صالونات باريس بانتظام. في حين تفرد ديلاكروا في بحثه عن عالم خفي مخبوء وراء الظواهر المرئية. فتمرد على الموروث الذي استقاه من أساتذته سواء المعاصرين منهم أو القدامى. أولئك الذين تعلم من لوحاتهم المعروضة في اللوفر، من فيرونيز إلى فيلاسكيز. ومن المعروف عنه أنه قاد معارك طاحنة ضد أساليب تيسيان وأنغر، وانتصر للون الصافي بدل الفاتح الغامق فكانت ألوانه إيذانا كبيرا بتفجر اللون وسطوته.

أما الجيل الثالث الذي مثله مانيه وديغا وسيزان وماتيس فهو جيل التفجر اللوني بامتياز. لقد سعى مانيه إلى تحطيم النموذج الكلاسيكي وقدم الجسد الأنثوي بأسلوب فضائحي دونما ذريعة أو سند أكاديمي، وتخلص من الدرجات اللونية الوسيطة. واهتم ديغا بالقيم الإيقاعية والحركة الدءوب. فوجد ضالته في مشاهد راقصات الباليه. وأسس رؤيته اللونية على التضاد الصارخ في تقابل الألوان الحارة والباردة. واعتمد تقنية المونوتيب في تحضير أعمال الباستيل. في حين أعاد سيزان المرئيات إلى أصلها الهندسي مستعينا برؤية بوسان. ومثلما فكك الأشكال والسطوح اكتفى بمجاورة الألوان دون أن يمزجها منتهجا أسلوب الانطباعيين. إنه يترجم عناصر الطبيعة هندسيا، ويبرز التفاصيل والمقاطع المجتزأة من لوحاته (خليج مرسيليا) فتبدو متحركة بفعل اللمسة السريعة والميلان القطري الذي يزخر بالإيقاع والحركة. وأخيرا ماتيس تخلى عن التنقيط حينما اكتشف سطوة اللون في الأسلوب الوحوشي لدى غوغان رسام المناخات التاهيتية. ترك التنقيط ليختبر ضربات الفرشاة العريضة ويجرب تأثير السطوح اللونية الشاسعة. وأثناء معرض الخريف، كانت ألوانه الصافية المثيرة تدهش عين المشاهد الذي كان ينتظر أن يرى لوحات بألوان هادئة طبيعية أو رمزية. لعل ذلك من أسباب صيحة لويس فوكسيل الشهيرة: (دوناتيلو بين الوحوش). غير أن موريس دينيس وأندري جيد كانا قد تفطنا إلى ملامح تحولات ماتيس وفسرا ذلك بأن تحرره من اللون منذر بتحوله عن الرسم. فعلا، لقد بدأ الرسم يتفرغ لموضوعه المستقل ويهتم بفضائه الداخل بعيدا عن المضامين الكلاسيكية. بعبارة وجيزة، يمكن القول بأن اللون بدأ يسلك طريقه في اللوحة تدريجيا، متخلصا في بداياته من فكرة أحادية اللون. ومع الجيل الثاني، تخلص من سيطرة الفاتح القاتم. ووجد ضالته في المزيجات المتكاملة التي توفرها الدائرة اللونية. وفي المرحلة الأخيرة، تفجر اللون متجاوزا قوانين المزج التقليدية ومقترحا مجاورة الألوان كمغامرة جديدة للإدراك البصري.

الملاحق

دافنشي، (جنيفرا بانشي1476، زيت على قماش،42- 37صم، غاليري الوطن، واشنطن)

مايكل أنجلو (العائلة المقدسة مع القديس يوحنا 1505، تمبيرا على لوح، 120صم قطريا، فلورنسا، معرض القداس)

تيسيان (مادونا بين القديس أنطوان والقديس روك، 1508، زيت على قماش،63-92 صمن مدريد، متحف برادو )

كارافاج (سلة فاكهة 1596 زيت على قماش، 46/64.5 صم، ميلانو)

رامبرانت (الخطيبة اليهودية 1665، زيت على قماش 121.5-166.5 صم، أمستردام )

دومنيك أنغر (مدام ديفوساي1807، زيت على قماش،76-59 صم، شانتيلي، متحف كونداي

ديلاكروا (قارب دانتي 1822، زيت على قماش189- 246 صم، اللوفر )

إدوار مانيه ( نافخ المزمار 1866، زيت على قماش، 160-98 صم، باريس،  أورساي)

بول سيزان (خليج مرسيليا 1885، زيت على قماش 73- صم100، نيويورك، متحف المتروبوليتان)

هنري ماتيس (مدام ماتيس 1905، زيت على قماش، 40-32صم، متحف كوبنهاغ )

المراجع العربية

1- فن عصر النهضة، بيتر وليندا موري، مؤلفان، ترجمة فخري خليل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،ط1، 2003

2- النقد الفني وقراءة الصورة، عفيف البهنسي، دار الوليد- دار الكتاب العربي، دمشق- القاهرة، دون تاريخ

3- يوميات رامبرانت، آلن باسز، ياسين طه حافظ،  دار المدى، بغداد، العراق، ط1، 2016

المراجع الفرنسية ( وملاحق اللوحات)

4-Regards sur la peinture, Leonard De Vinci, FABBRI, Edition Française, Paris 1988

5- Regards sur la peinture, Michel Ange, FABBRI, Edition Française, Paris 1988

6- Regards sur la peinture, Raphael , FABBRI, Edition Française, Paris 1988

7- Regards sur la peinture, Titien, FABBRI, Edition Française, Paris 1988

8- Regards sur la peinture, Le Caravage, FABBRI, Edition Française, Paris 1988

9- Regards sur la peinture, Rembrandt, FABBRI, Edition Française, Paris 1988

10- Regards sur la peinture, Dominique Ingres, FABBRI, Edition Française, Paris 1988

11- Regards sur la peinture, Eugene Delacroix, FABBRI, Edition Française, Paris 1988

12- Regards sur la peinture, Edouard Manet, FABBRI, Edition Française, Paris 1988

13- Regards sur la peinture, Edgar Degas, FABBRI, Edition Française, Paris 1988

14- Regards sur la peinture, Paul Cézanne, FABBRI, Edition Française, Paris 1988

15- Regards sur la peinture, Henri Matisse, FABBRI, Edition Française, Paris 1988  



  • hassen1961
    دكتورا ادب ولغة وحضارة عربية.. جامعة القيروان 2017 ماجستير فنون تشكيلية .. جامعة سوسة 2008
   نشر في 14 يناير 2022  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا