كامل الدسم - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

كامل الدسم

  نشر في 22 فبراير 2015 .

زمن (الحبوبة) التقليدية أوشك أن يغيب.. وحكايات العجائز عن الماضي الجميل بتلك المفردات المحببة في طريقها الى زوال.. وستضيع من تاريخنا المحكي وتندثر من قاموس مفرداتنا درر نفيسة، لأن حبوبات (الألفية الثالثة) لن تكون لهن ذخيرة من الحكم والحكايا والأمثال والأشعار كما كان لسابقاتهن.. فقد استوين في ثقافة (الستلايت) مع الجميع. وليس بوسعهن ان يحكين سوى المسلسلات التركية. (الحبوبة - لغير السودانيين- تعني الجدة)

وهذا سبب قوي لأن يهرع جامعو التراث الى من بقي من حبوبات زمان وينخرطوا في تدوين ما تختزنه ذواكرهن من هذه الكنوز قبل ان يذهب الى غير رجعة تراث غني بالأدب والملح والحكم والأمثال والمواعظ وسير السابقين.

انا شخصيا حاولت ان افعل شيئا كهذا مع حبوبتي فاطمة بت بابكر رحمها الله وحبوبة ابنائي أمي الحرم بت ابراهيم التويم قبل ان تنتقل الى جوار ربها منتصف هذا العام المنصرم. جعل الله الجنة مثواها واسبغ عليها رحمته.

فلطالما جلست اليها استنطقها فتنطلق سعيدة في سرد الطرائف وانشاد الابيات الجادة او العابثة وتحكي قصة كل بيت او قصيدة. فقد ترعرعت في ارض الشعر (القرير مركز مروي) كما كنا نسميها قبل الفيدرالية، وعاصرت حسن الدابي والشول وشعراء مغمورين رغم كونهم مجيدين.

كنت استنطقها لأوثق تلك الكنوز. لكني انشغلت بلذة الاستماع عن مهمة التدوين، واعتمدت على ذاكرتي الخربة التي ما فتئت تخذلني كلما حاولت استرجاع ما سمعت.

متعة تلك الاحاديث في عفويتها وانتقالها في المجلس الواحد من لون الى لون، فقد تبدأ بحديث عادي يقود الى مثل طريف، ثم ابيات شعر ساخرة ثم رواية لحكاية تلك الأبيات ووصف لشخصيات وردت فيها وشرح لمفردات غريبة بها.. ثم يغدو الحديث ذا شجون فتخرج من ذاك المجلس بما يملأ صفحات كتاب من الحكم والفكاهة والأدب والتاريخ. لكنه كتاب مكتوب بحبر الأصوات التي سرعان ما تذوب في الهواء، وعلى ورق الذاكرة الذي سرعان ما يتساقط. فلا يلبث ذلك الكلام الحلو ان يتبخر مع تبخر دموع الضحك ويختفي مع اختفاء ابتسامة الانبساط.

غير ان منها ما يكون أوقع في النفس من غيره وأشدّ أثرا حتى إن الذاكرة لتتشبث به ولا تضيّعه لغِناه ودسمه وما فيه من الحكمة والطرافة والإغراب.

من ذلك كلمة تقولها أمي في احايين كثيرة حين يضايقها تطاول مدّع أو مبالِغ في تقدير نفسه، فلا تملك الا ان تطلق ذلك المثل العجيب (يطروا الحديد.. الإبرة تنُط).. أنظر الى بلاغة الكلمة.. انها تعبر تعبيرا في غاية الدقة عن حال من يتطاول على سابقيه او من يتخطى رقاب الآخرين او يحسب نفسه أوحدَ لا نظير له مثل الإبرة التي تقدم نفسها ممثلا عن الحديد وهي أصغر صوره وأقلها حجما. وبالطبع فان من يريد ان يصف الحديد ويقرّب صورته لن يتمثله في ابرة، بل يتمثله قطارا او شيئا مما يكبر في صدور الناس. انه من الامثال التي حين تقال في وجه ذلك المدعي تخرسه للابد وتقمع تطاوله.

ومن فواكه كلام الكبار كذلك رد شاف قاطع طالما سمعناه من أمنا ونحن صغار، فحين كان الجوع يعضنا قبل حلول وقت الطعام ونهرع اليها طالبين الفطور او الغداء قبل وقته، كانت تزجرنا قائلة: "الفطور وينو هسي؟! الفطور طايوقو في الغنم وواقودو في السّلَم". ولك ان تتخيل كم من الوقت ستنتظر( كسرة) او (قراصة) لم تذبح حتى الآن الشاة التي يستخرج منها (الطايوق) لتزييت (الدوكة) التي ستصنع فيها، ولا يزال حطب وقودها مرتبطا بشجرته لم يجف بعد لينتزع منها ثم يحزم ثم يباع الى السيدة الوالدة لتضعه تحت الدوكة او تحت القِدر!

كنا حين نسمع تلك الكلمات ننسى الجوع بل نحس بالشبع.. ليس بتخيّل ما سيكون من لذة الطعام.. بل من شدة حلاوة ودسم الكلام.



  • 1

   نشر في 22 فبراير 2015 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا