أوجزتَ فأوجعتَ - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

أوجزتَ فأوجعتَ

أوجزتَ فأوجعتَ

  نشر في 22 أبريل 2022 .

أوجزتَ فأوجعتَ

ربما من أغرب ما قيل عن تحولات الزمان ما ورد في خطبة لمعاوية رضي الله عنه حين قال :

" معروفُ زماننا منكرُ زمان قد مضى , ومنكره معروفُ زمانٍ لم يأتِ "

التحولات التاريخية والاجتماعية والسياسية للحياة البشرية ليست شيئا من السهل الكتابة فيه , فنحن نتحدث هنا عن تاريخ البشرية كاملا , وربما لو أردنا أن نحصر تلك الكتب والمقالات والفلسفات والكتابات والمقولات التي قيلت عن تحولات الزمان وتغير الأحوال وعادات العباد وتغيرات حياتهم لما وسعت ذلك ملايين الكتب .

في رمضان وفي عصرنا الحديث تكثر الخطب والمواعظ والمقالات التي تذكرنا بآدابه الدينية بالأخص , وربما يحق لبعضنا أن يتساءل عن موافقة تلك المواعظ والتوجيهات لهذا العصر وما حدث فيه من تغيرات سريعة عبر سنوات قليلة , فالليل لم يعد ليلا , والنهار لم يعد نهارا , لقد بات لكل ليله ونهاره حسب طريقته في التعامل مع تغيرات هذا العصر , ربما كانت التغيرات في مجتمعاتنا الشرقية والتي كانت تحافظ كثيرا على قدسية هذا الشهر وتتشابه في إحياء طقوسه والتعامل مع أوقاته ولياليه , وتتكيف حياتها بمجرد دخول هذا الشهر الفضيل بدرجة أذهلت الكثير من مفكري الديانات الأخرى , من المؤكد أن كثيرا من المعاصرين الذين مازالوا في ذهول من درجة التغيير التي لا مفر منها بين ما يذكروه في الأمس القريب وبين ما يعايشوه اليوم , فمن بلغت أعمارهم اليوم ثمانين عاما وأكثر مازالوا يذكرون الحياة البسيطة التي كانت تغمرهم في ليالي هذا الشهر الكريم , فمرور النهار بعيدا عن وسائل الراحة في المكان والملبس والمأكل بكل صبر وجلد ورضا مازالت صامدة في ذاكرتهم , وشقاء العمل من شروق الشمس وحتى قرب موعد الإفطار مازال مقيما في مخيلاتهم , ثم الذهاب لصلاة التراويح والعودة لإكمال العبادة ليلا ثم السحور والنوم استعدادا لعناء يوم الغد يذكرونه أيضا , لم تكن هناك كل هذه الأجهزة الحديثة من وسائل البث والتواصل , ولم يتخيلوا يوما ما يرونه اليوم من غلبة اللهو والأضواء والسهر والاستسلام لكل تلك الوسائل التي كادت أن تطمس تلك الأجواء الروحانية التي يذكرونها , هذه ليالي رمضان وقد ضجت بالأصوات والأضواء وتزاحم البشر في الأسواق وعلى الشواطئ وتحت مسميات الفعاليات الرمضانية , ربما لدى الكثيرين بعض الوقت لتلك الروحانيات الرمضانية من قراءة للقرآن وإقامة لصلوات الليل والتراويح وغيرها , ولكن لن ننكر أن صوت التغيير مازال اقوى , كانت الأجواء الرمضانية وحتى سنوات مازالت في الذاكرة مقيدة بضعف الحالة المادية لكثير من الناس وحتى الدول , فتوفر الكهرباء وزيادة الترف وغمر الأسواق بالأجهزة الحديثة وطرق الإضاءة داخل وخارج المنازل , وتوهج المدن والطرقات ليلا كل تلك الصور غيرت معالم المدن والبيوت والحارات وحتى القرى , هي تغيرات تاريخية لا بد منها ولن يقف شيئا في طريقها فهي سنة الحياة وأمر مفروغ منه , أما التغيير في حياة الناس سواء أكان للأفضل أو للأسوأ فهي مسألة نسبية وفيها نظر , فقد تبدو سيئة من جهة وجيدة من جهة أخرى وهكذا , ولكن الإنسان غالبا ما يبكي على ما مضى ويصارعه الحنين لذلك الماضي دائما , ربما لأن الماضي يخبئ بين طياته شبابنا الذي فقدنا والذي نحن إليه أكثر من تلك الحياة التي عشناها كيفما كانت .

قال يونس بن ميسرة " لا يأتي علينا زمان إلا بكينا منه، ولا يتولى عنا زمان إلا بكينا عليه" .

لو ظلت هذه الحكمة قائمة لأخر الزمان فلن يبق من حياة البشر إلا البكاء على ما فات كلما مر زمان وبدأ أخر .

كم من معمر بيننا لسان حاله يقول :

فما الناس بالناس الذين عهدتهم

ولا الدار بالدار التي كنت أعهد

أنا أتساءل هنا , والحديث ما زال عن تغير الأحوال في روحانية رمضان , هل يمكن توقع المستقبل من خلال أحداث الحاضر من الناحية الاجتماعية أو الدينية , فمثلا لو اجتمع نفر من المفكرين الطاعنين في السن أي ممن عاشوا الأجواء الرمضانية السابقة والتي ما زالت تفاصيلها في ذاكرتهم , هل يمكن لهم أن يتوقعوا كل هذه التغيرات الحديثة وخاصة خلال العشرين سنة الماضية ؟

وهل يمكن أن يضعوا تصورا دقيقا لما ستكون علية تلك الروحانيات الرمضانية خلال العشرين سنة القادمة ؟

لو كان ابن خلدون موجودا بيننا الآن , وعرض أحداث اليوم كما يراها على مقياس العقل والبرهان من جهة ومقارنته مع ما يشابهه من وقائع التاريخ من جهة أخرى , هل سينتج عنها وقائع مشابهة لها مستقبلا ؟

التاريخ عند ابن خلدون له قوانين وسنن يعمل بها ومن خلالها , فالظروف المتشابهة ينتج عنها وقائع متشابهة , فلذلك يكون بمقدورنا معرفة الحاضر من معرفة الماضي , ومن معرفة الحاضر والماضي يمكن معرفة المستقبل .

ربما تكون بعض التغييرات التاريخية المتسارعة في بعض الأحيان تتجاوز النظريات التاريخية أيا كانت , فالتغييرات الثورية وفي وقت قصير يتداخل فيها الماضي والحاضر والمستقبل بطريقة تشوه النظام التاريخي للبشر ربما , أو تتمرد عليه وتخلق لواقعها نظريات جديدة تفرضها ظروف استثنائية .

ابن خلدون يرى أن التطور التاريخي هو تدريجي في حياة الأمم والأجيال , بالرغم من أن لكل جيل وضعه المتميز وأحواله الخاصة التي تختلف باختلاف الزمان والمكان , ولكن هل يستطيع ابن خلدون وكل علماء الاجتماع أن يفسروا بعض التغييرات الجذرية والثورية التي تحدث بشكل مفاجئ أو خلال عقد من الزمان فقط ؟

يُقال (أن لكل زمان دولة ورجال) , ومن المؤكد أن هذه المقولة صحيحة بكل المقاييس , فهناك رجال عبر التاريخ وضعوا بصماتهم في دولهم ومجتمعاتهم خلال فترات قصيرة , وهذا يشهد به التاريخ عبر كل حقبه العديدة , وربما أولئك الرجال حطموا بعض النظريات التاريخية في السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد وحتى في الدين , والمقصود هنا أن تلك التغييرات لم تتخذ المنهج المتدرج الذي قال به بعض العلماء أمثال ابن خلدون , وهناك العديد من الأمثلة عبر التاريخ .

يقول ابن خلدون "ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل العصور ومرور الأيام. وهو داء دويٌّ شديد الخفاء، إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطن له الآحاد من أهل الحقيقة. وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول. سُّنة الله قد خلت في عباده" , ولكن بعض شواهد التاريخ لا تخضع لتلك المقولة كما قلنا قبل قليل .

ونعود لفكرة سابقة , هل يمكن في وقتنا الحاضر لأي دراسة تعتمد على استخلاص الماضي والحاضر والمستقبل للكشف عن تنبؤات لما يمكن أن يحدث في الغد القريب ؟

ربما العالم اليوم هو غير العالم الذي أغرقه العلماء بالنظريات التاريخية والاجتماعية والفلسفية , فالآلة وتطور العلم والفيزياء خاصة , وتحكم وسائل التواصل والإعلام وحمّى المادة لم تترك مجالا لتلك الدراسات القديمة في رسم المستقبل , فما سيحدث غدا ربما لم يكن ليحدث خلال عشرات ومئات السنين سابقا , والعبث في الأفكار والمعتقدات والانتماءات وغلبة المنتصر صارت تضع نظريات جديدة ربما لم ولن يفهما ملايين البسطاء حول العالم , فهل العالم فعلا كما نراه نحن اليوم , هل يمكن دراسة حاضره لنتنبأ بمستقبله ؟

من المؤكد أن العالم الذي نراه ونعيشه هو غير العالم الذي يسيّر ويُخطط له داخل الغرف المظلمة لقادة العالم السري , العالم اليوم ليس عالم ابن خلدون ومنطقه التاريخي , فالمجتمعات والدول التي كانت تنمو خلال أجيال في تلك العهود من الممكن أن تمحى اليوم خلال أيام , والظواهر الاجتماعية والعادات ربما يقوم الإعلام بكل أسلحته بخلخلتها في أيام .

هل نقول وداعا زمن النظريات وأهلا بزمن الآلة ؟

ونعود لمقولة معاوية رضي الله عنه : " معروفُ زماننا منكرُ زمان قد مضى , ومنكره معروفُ زمانٍ لم يأتِ "

وما هي صلته بواقعنا .

فهل معروف هذا الزمان فعلا منكر في الزمن الذي قبلنا ؟

وهل ما نراه منكرا اليوم سيكون معروفا غدا ؟

لله درك يا معاوية أوجزت فأوجعت .

وبالعودة لأجواء رمضان التي لم ولن يعرفها جيل ما دون الثلاثين من العمر , رمضان الحواري , رمضان الصخب الديني والاجتماعي , رمضان الأطباق المسافرة بين بيوت الحارات قبل مدفع الإفطار , رمضان التجمع بعد العشاء بين جدران البيوت الضيقة , والإضاءات الخافتة , والروحانية المشعة , رمضان الأسرة الكبيرة الملتفة حول مائدة رائعة وبسيطة , تكتنفها المودة والرحمة والبر , رمضان القلوب البيضاء المضيئة , رمضان الذكر والقيام , رمضان الفضاءات الممتلئة بالذكر عبر أعناق المآذن في كل حي .

هذا رمضان الماضي , فكيف سيكون رمضان المستقبل يا سيدي يا بن خلدون ؟


  • 3

   نشر في 22 أبريل 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا