بعد شهور من العمل الرتيب و مشاكله التي ربما لا و لن تنتهي في بلدي .. أعود في العطلة لمدينتي لأستريح ..

مع دخول الحافلة لأطراف مدينتي شاهدت غابة الصنوبر الكثيفة حيث يخيل لك أنها عمالقة تلوح استقبالا لك .. و رائحة المطر عندما يختلط بتربتها و الجو البارد ..

شعرت عندها بانشراح صدري و شعور جميل يداعب ثنايا الروح ..

أمضي اليوم الأول كعادتي مع العائلة و زيارة الأصدقاء و التجول في الأرجاء ..

بعد اليوم الأول أطفر لحرف الغاب لمكان منعزل يطل على المدينة من الأعلى.. لأسمع صوتي الداخلي الطليق الذي لا يعدوا في زحمة الأجساد و الأفكار سوى كلام فارغ تغرق به الجداول و الأعمدة فاقدا لكل المعاني ..

أجلس مع نفسي في جو نوستالجي بامتياز ..

لكن النوستالجيا خاصتي ليست بردا و سلاما كلها ..

النوستالجيا خاصتي كمقبرة فرعونية .. مليئة بالفخاخ و العقارب و الأفاعي .. لا أعدوا فيها مجرد خنفساء ..

تحترق شوقا لتدخلها لما فيها من كنوز و في نفس الوقت تهاب ما تخفي من أهوال .. لكن رغبة الدخول تسموا ..

كما تعلم فبين الخيال و الواقع، و بين التعقل و الجنون خيط رفيع جدا ..

في عالمي الخاص ذلك الخيط انقطع أو احترق لا أدري .. المهم أنه غير موجود ..

في بعض الأحيان أرى الأمر كنعمة و في أحيان أخرى  كلعنة تتبع نسلنا ..

و أنا جالس مستمتع بالمنظر ألتفت لأجد امرأة عجوز ترعى الغنم غير بعيدة عني .. بدأت أعد الغنم و سرح عقلي بعيدا ..

فجأة وجدتها جالسة القرفصاء جوراي في رمشة عين كأنها آصف بن برخيا ..

ربتت بيدها على كتفي و كأنها ستفعل بي الأفاعيل ..

لحظات مرت طويلة كأنها القرون تنطح بعضها .. لتقطع تلك الحفلة الصامتة التي تبدو أبدية بصوتها قائلة :

- ما هذا ؟ ألم .. يأس .. أهذا ما يحفزك

أي نوع من الأشخاص يتحفز بتلك الأشياء ؟

الكثير من الذنب يا ولدي ..

سحبت ذراعي من بين يدها .. فلم أجد أحدا بجواري فالعجوز كانت بعيدة هي و أغنامها و قد بدأت الأشجار تداريها شيئا فشيئا ..

فكما سبقت و قلت لكم لم يعد لدي شيئ يفصل بين الواقع و الخيال .. هذه هي لعنتي ..

لكن كلمات العجوز أصابت عين الحقيقة التي أداريها .. حتى أني صاحبها تناسيتها ..

فرغم كل جرعات الألم التي حقنت بها في الوريد أو تحت الجلد .. و رغم اليأس من كل إصلاح و ترميم للمخلفات و الكسور ..فأنا شخص يحب أن يعيش و يتناسى .. شخص يتغذى على ألمه و يأسه ليعطيه غضبا فيحوله لقوة ..

كنت قويا .. قوة داخلية و ليست خارجية .. فرغم بطئ قلبي، عقلي كالمطرقة يسبقني بسنوات ..

لكن ذاك الصلب الذي غدوته كسر أشخاصا آخرين كان أو لم يكن لهم ذنب .. كل سواء ..

كأنه شخص آخر لا أعرفه حتى أنا .. عندما يفلت من لجام العقل يحرق كل شيئ جميل أو بشع أمامه ..

له لسان يضرب بجرعة سامة يحتاج المقروح بها سنوات ليلملم شتات كرامته ..

رغم ذلك ألجمته كثيرا و في كم مناسبة و دست عليه و قمعته .. مراعاة لمشاعر من استفزوه ..

إنه أنا الذي لا يعرفه إلا القلة على رؤوس الأصابع ممن نفذ رصيد حظهم و تحتم عليهم رؤيته ..

سرعان ما تحولت المجازر لإحساس عميق بالذنب .. كثير من الذنب جعلني أفكر ألف مرة قبل أن أترك الوحش يعلن نفسه فلا يزيد الطين اللّزِبَ إلا البلل ..

مع كل هذا الذنب لم أعد لإيذاء أحد .. لم أعد أقطع عهودا بالبقاء لأحد .. لم أعد أحارب لأجل أحد ..

من أراد قربي تحقق له و من أراد الرحيل فالنافذة تمرره و إن كان على الباب فهو عريض ..

باب ما إن تضع رجلك خارجه لا يعود له وجود ..

قد سئمت من زوار آخر الليل ..

فيقول بالصوت الواضح :

" لا تفتح بابك لزوار آخر الليل

تصفح وجوههم جيدا

من خلال ثقب الباب

سترى أن عيونهم بلا بريق

كنجوم منطفئة تائهة في السماء

وأطرافهم باردة كقطع ثلج

هم يريدون فقط الجلوس إلى مدفئتك

ومقاسمتك طعامك ودفء فراشك

قبل أن يستجمعوا قواهم

ما يكفيهم للسير في الغد

نحو الباب الموالي

زوار الليل كلهم هكذا

جائعون وباردون وبلا قلب

ليسوا أشرارا

فقط الناس الذين يفتحون لهم أبوابهم هم الأغبياء ".

بصراحة أنا من الأغبياء .. فبابي مفتوح للجميع دون إيذاء و دون وعد بالبقاء .. دون توقعات و تعليق آمال على الذي لا يتوقع ..

أليس هذا أهون من أن أحرقهم و أزيدهم شقاءا يتذكروني به في كوابيسهم ..

قد يكون أحد زوار الليل استثناءا و يصنع فارقا .. فمن التراب و السماد العفن تنمو زهور و ورود .. و في قلب الأرض توجد كنوز ..

و لربما عندها لا أكون من الأغبياء كما أعتقد .

تمت