اللّه كريم، ويقبل التوبة الصادقة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

اللّه كريم، ويقبل التوبة الصادقة

  نشر في 29 أكتوبر 2016 .

"الله كريم ويقبل التّوبة الصّادقة"، هذا ما يردّده الصحبي كلّ مرّة لمّا يصعد درجات الصّومعة الضيّقة كي يؤذّن للصّلاة. مائة وخمسون درجا ملولبة عموديا في شكل حلزوني، تتخّلّلها فتحات صغيرة للتهوئة والإضاءة.

يصرّ الصّحبي منذ تعيينه وكيلا على المسجد مكلّفا بإقامة الأذان والنظافة وتسخين الماء، على صعود الصومعة في كل صلاة لإقامة الأذان مستغنيا عن الميكروفون المتوفّر في الأسفل والموصول بالبوق المثبّت في أعلى الصّومعة. لم يصغ لنصيحة عديد المصلّين الذين أشفقوا عليه من عناء الألف وخمسمائة درجا التي يقطعها صعودا ونزولا على مدى الصلوات الخمس، رغم تنبيه كثيرين عليه من خطر الأزمات القلبية بسبب بدانته المفرطة. كان الصعود يستغرق منه ربع ساعة أو يزيد لكثرة الاستراحات التي يقوم بها مضطرا بعدما ينقطع عليه النفس في الصعود، وكذا الشأن عند النزول بسبب حدّة وخزات عضام الرّكبتين الناتج عن ثقل وزنه.

يبدو الصحبي أكبر بكثير من الأربعين سنة التي تجاوزها بعد تعيينه وكيلا للمسجد بشهرين. كان قبل الثورة يعيش من تهريب الأغنام الذي كان يدرّ عليه مكسبا وفيرا، لكنّ فلوس الحرام لا تثمر أبدا كما كان يردّد دوما. لم يتزوّج الصحبي وكان ينفق ما يكسبه من مال في اللّهو والمجون والقمار. لم يقرأ حسابا للمرض حتّى داهمه الكوليسترول والسكّري والضغط دفعة واحدة... وجاءت الثّورة لتضعف نشاطه بعدما تغيّر نشاط التّهريب وما عاد تهريب الأغنام يضمن الكسب الذي يبرّر المخاطرة بالحياة. لكنّه ظلّ متشبّثا بالمهنة الوحيدة التي لا يتقن سواها حتّى انقلبت به شاحنة الأوسيزي أثناء مطاردة ليلية ولم يعد ممكنا إصلاحها.

أشفق لحاله أحد أبناء حيّه من الذين استيقظ سعدهم بعد الثورة، فتدخّل له ليعيّن وكيلا على المسجد بعدما سجّله في قائمة جرحى الثّورة.

يومها، وقف الصحبي في الشرفة الدائرية المنتصبة كالتاج في أعلى الصومعة، وهو يلهث شادّا بكف يده على قفصه الصّدري الذي كان يؤلمه كما لو كان قد تلقّى طعنة خنجر. ولأوّل مرّة، تعذّر عليه تبيّن ما في الأحواش المحيطة بالصومعة بوضوح. كانت عائشة جالسة في صحن الحوش هناك كعادتها تنتظر إطلالته وهي تفرج ساقيها متظاهرة بنفش الصوف أو برحي القمح أو ما شابه ذلك من أشغال البيت.

تمتم الصحبي "اللّه كريم ويقبل التوبة الصّادقة" وكرّر ذلك والعرق يداهمه رغم نسمات الهواء التي كانت تخترق ثقوب السياج الخشبي الذي يزوّق الشرفة. أيقن أنّه سيتأخّر عن إقامة الأذان، ولم يتمالك نفسه عن التهالك أرضا. وحينها برزت له من ثنايا الذّاكرة، تلك الصور من أيّام الشقاوة ... صور نجح إلى غاية ذلك اليوم في حبسها بمجرّد ترديده "اللّه كريم ويقبل التوبة الصّادقة". ازداد الألم حدّة حتّى صار يتأوّه. هذا المكان الذي لم يكن المؤذّنون السابقون يصعدون إليه أبدا للأذان، كان مجلسه المفضّل ما بين الظهيرة والغروب. يتسلّل هناك ليعاقر ما تيسّر من القوارير، ويتلصّص على حياة البيوت الدّاخلية. من هذا المكان، جاءته فكرة سرقة الماعز المتسكّع عبر الأنهج في قيلولات الصيف القائظة، ومنها تطوّر نشاطه إلى تهريب القطعان وتجارة الأغنام. من هذا المكان عرف أسرار بعض البيوت، واستفاد منها لنسج علاقاته مع النساء. "اللّه كريم ويقبل التوبة الصّادقة" كانت آخر ما قاله الصحبي الذي كان يعرف وربّما يسعى إلى أن يموت هناك وبتلك الطريقة وهو الذي حرص على أن يعاقب نفسه بألف وخمسمائة درج يوميا، ولكنّه أبدا لم يتب عن عشق عائشة...




   نشر في 29 أكتوبر 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا