ألوان
أتألم .. أخاف أن أسير وحدي في الظلام، فيختفي ظلي، فأنا لم أثق يوماً به. مجرد أن يلمح انعطافاً، يغدرني ويهرب .. لهذا الحد كنت وحيداً. وحيداً جداً بعد أن اعترفت له بأنني أحبك، فبكى علي .. إنه يشفق علي، لكنه يقسو في بعض الأحيان ويرحل ..
نشر في 10 أكتوبر 2018 .
الخميس .. الساعة الحادية عشر ليلاً وخمس دقائق. الشارع الثامن، المبنى الثاني، الطابق الرابع. الشرطة تتطوق المكان، رجل في العقد الرابع من العمر وجد ميتاً في شقته التي انتشرت الألوان فيها بكل مكان. الخبر كان عادياً لو أن جريمة الانتحار تلك قام بها شخص عادي، لكنه "جمال السمان" أشهر رسام في المنطقة، الاسم الذي شغل مواقع التواصل الاجتماعي وشغل العالم منذ سنتين وأقرب.
كان الجيران يتهامسون حول المكان، جمهور غفير من الناس احتشدوا أمام المبنى. ذلك الخبر هز الحي والعالم ذلك اليوم. والرسالة التي تركها "جمال" قبل أن يقوم بقتل نفسه.
لم يكن "جمال"ذو حضور أعلامي، فلم يقبل يوماً أن يقوم بحوار صحفي أو أن يخرج بلقاء في برنامج أعلامي. كان يفضل أن يبقى خلف الستار، أن يكون جندياً مجهولاً .. لكن لماذا رجل كهذا الرجل قد يقدم على فعل مثل هذا، دون أن يترك خلفه أي إجابة عن مئات التساؤلات. كانت رسالته عبارة عن سطرين لا معنى لهما : " أتألم .. أخاف أن أسير وحدي في الظلام، فيختفي ظلي، فأنا لم أثق يوماً به. مجرد أن يلمح انعطافاً، يغدرني ويهرب .. لهذا الحد كنت وحيداً. وحيداً جداً بعد أن اعترفت له بأنني أحبك، فبكى علي .. إنه يشفق علي، لكنه يقسو في بعض الأحيان ويرحل ..".
كانت شقيقته التي أتت عندما سمعت بالخبر من السفر مرصد الإعلام والصحافة، لكنها لم تكن الأخرى تملك أي إجابات .. " لقد تحدثت معه عبر الهاتف قبل أسبوع من موته، قال لي بأنه عاشق وبأنه قرر أخيراً أن يتزوج.! كان سعيداً جداً، قال لي بأنه سيدعوني لزفافه عندما ينتهي من معرضه الأخير! .. لكنه لم يأت أبداً على ذكر الموت ..!".
يقول أحد العاملين في مكتب طباعة البطاقات أن "جمال" طلب منه قبل ثلاثة أيام من موته أن يقوم بطباعة بطاقات دعوة الزفاف التي صممها بنفسه وعندما سأله عن اسم العروس طلب منه أن يبقيه فارغاً. " كان يومها غريباً جداً، طلب مني أن أضع اسمه فقط، قال لي بأنه سيكتب اسم العروس بيده، وعندما أخبرته بأن هناك مئات الآلاف من البطاقات، ابتسم وقال لي لا يهم فلتكن أي منهن عروساً لي .. ليكن ظلي هو عروسي!".
أما صاحب الصالة التي استأجرها "جمال" قبل يوم من موته يقول بأن "جمال" طلب منه أن تزين الصالة باللون الأسود والأبيض فقط، وأن يكون الطعام خفيفاً، وأن تكون الإضاءة خافتة، والموسيقى هادئة:" لقد كان ينظر إلى القاعة وكأنه يراها للمرة الأولى والأخيرة، كان مبتسماً، شارد النظر، تائه العينين. وعندما عرضت عليه أن نضيف بعض الألوان للصالة كي تغمرها بهجة الفرح، قال لي عابساً بأن ظله يكره الألوان!".
أما هي فقالت بأنها لم تراه منذ ستة أشهر، بأنه كان غريباً جداً في لقائهما الأخير، طلب منها أن تسامحه على أنه لن يتسطيع أن يمضي سبيلاً في هذا الزواج رغم أنها يحبها حباً جماً .. " لكني يا جمان رجل لم يخلق للحب، إن ظلي الذي يكره اللون يخاف أن أخونه معك، سامحيني على أنني ألبستك هذا الرداء الأسود لأشهر، لكنه يليق بك جداً، والأبيض كذلك، لكنك عندما ترتدين الأحمر .. تبدين كالشيطان، وظلي يكره هذا اللون، أما عندما تضعين الوشاح البنفسجي فإنني أكره ظلي، وعندما تخرجين بقبعتك الخمرية نتشاجر أنا وهو لأيام .. وعندما يراك عارية .. تحيطك جميع الألوان الكونية، فإن ظلي يخونني معك. وأنا أحببته جداً، عشقته لدرجة أنني كرهت الألوان، وعشقت ظله معه .. "جمال" لم يكن مجنوناً كما تعتقدون، لكن "جمال" كان يحب أن يرى الأشياء على حقيقتها، وكانت الحقيقة بالنسبة له "أسود" أو "أبيض"، وكل ما تبقى من ألوان كان يعني له الخيانة والفراق .. الحرب والبغاء .. النفاق والرياء. لهذا كانت لوحات معرضه الأخير جميعها باللون الأسود والأبيض، ولهذا اختار أن يقيم زفافه على ظله بالأسود والأبيض، لكنه اعتقد أنه سينجو منه عندما يقتله، لكن ظله كان أقوى منه فرحلا سوية!!