رؤية في وظيفة حكاية بخيل

مقاربة حديثة

ورد النص الذي أقف بصدد مقاربته في كتاب البخلاء للجاحظ الذي حققه طه الحاجري ص 44 إذ يقول فيه:

((وحدثني صاحب لي قال:

دخلتُ على فلان بن فلان، وإذا المائدة موضوعة بعدُ، وإذا القومُ قد أكلوا ورفعوا أيديهم، فمددت يدي لآكل فقال: أجهز على الجرحى، ولا تعرض للأصحاء.

يقول : اعرض للدجاجة التي قد نيل منها، وللفرخ المنزوعِ الفخذ، فأما الصحيحُ فلا تُعرض له، وكذلك الرغيف الذي قد نيل منه، وأصابه المرق)).

لعل الوقوف على وظيفة النص يتطلب الاجابة على أسئلة عدة، منها ما هي الرسالة؟ ولمن تم توجيهها؟ وما وظيفتها؟ وهل حققت تلك الوظيفة فعلاً؟ وما هي العوامل اللغوية الجمعية التي دعمت معنى الكلام بوصفه منتجا فردياً؟ وهل نستطيع ردم الهوة التي وضعها سوسير بين اللغة والكلام؟

لنحاول اذن لنرى ماذا يستطيع أن يفعله المعجم في دعم الكلام؛ ليدلنا على المعنى الآخر المختبئَ خلفه على الرغم من تباعد مواقع ألفاظه؟

لعل اختيار غياب الاسماء من خلال قوله : (صاحب لي) و(فلان ابن فلان) كان موظفا للتركيز على الحدث، فالمهم في هذه الرسالة ليس شخوصُها، وإنما تكمن الأهمية في محتواها، لأن الجاحظ لا يريد أن يشتت انتباه المتلقي بذكر الأسماء وتتبعها، بل يريد أن يوصل للمتلقي الفعلَ التي تقوم به الشخصية. وهو فعلُ الأكل الذي هيمن حقله الدلالي على النص : (مائدة، دجاجة، فرخ، فخذ، رغيف، مرق)، فكل هذه الألفاظ تحمل معنيين في آن واحد، إذ إن المائدة تحتوي على الصحيح منها و غير الصحيح. والمضيّف يطلب من الضيف ان لا يمس الصحيح ليحتفظ به لنفسه. ولعل هذه الألفاظ قد وظفت لتقول لنا أن المسألة ليست مسألة بخل، لأن القوم قد أنهوا طعامهم ومازالت المائدة عامرة. وهذا يعنى أن البخل نفسه موظف ليقول شيئاً آخر، لعله الإضحاك ليس إلا، علما أن الإضحاك ليس اتجاهاً أحادياً، فهو يهم الجميع. ولعل هذا ما أسهم في خلود النص.

ومن ناحية أخرى نجد أن بناء النص ربما أسهم أيضا في إيصال الرسالة.

لقد تجزأت الحكاية إلى أربعة أجزاء، الأول كان بصوت الجاحظ (حدثني صاحب لي قال) والجزء الثاني بصوت الضيف (دخلتُ على فلان بن فلان، وإذا المائدة موضوعة بعدُ، وإذا القوم قد أكلوا ورفعوا أيديهم، فمددت يدي لآكل فقال). والثالث بصوت المضيف ( أجهز على الجرحى، ولا تعرض للأصحاء) ليعود الجاحظ في الجزء الرابع ويختم الحكاية بحل الصورة البيانية التي استعملها المضيّف بقوله:(يقول : اعرض للدجاجة التي قد نيل منها، وللفرخ المنزوع الفخذ، فأما الصحيح فلا تعرض له، وكذلك الرغيف الذي قد نيل منه، وأصابه المرق). ولعل عودة الجاحظ هذه موظفة لتعرية الحكي من المجاز، وهذا ما يدعم القول بان الرسالة موجهة للجميع، فلو لم يفسر قول المضيف لانحصرت الرسالة بنخبة من الأدباء أو نخبة ممن يستعملون الألفاظ الحربية؛ فقد وظف المضيف عبارة حربية، ليزيد من حجم الحدث، ولعله يتهم الضيف بالجبن لأنه سيجهز على الجرحى، علما أن المضيف يحاول أن ينفي عن نفسه الجبن الشائع المتمثل ببخله.

لقد أثرت الأصوات الثلاثة في بنية الحكاية، فجعلتها تنساق وراءها، أي إن البناء اتبع وجهات النظر. ولو تتبعنا تركيبات الحكاية لوجدنا أن كل صوت من الأصوات الثلاثة يتميز بتركيبه الخاص، فقد غلبت المفاجأة على صوت الضيف من خلال استعمال إذا الفجاءة، كما غلبت عليه الأفعال الماضية. ولعل استعماله لإذا الفجاءة يدلنا على مسكوت عنه، وهو أن الضيف مدعو وقد جاء في موعده، لكنه تفاجأ بأنهم تعجلوا الطعام. بينما جاءت تركيبات المضيف طلبية بفعل الأمر (اجهز ، أعرض)، ولعل أفعال الأمر قد تم توظيفها للدلالة على هيمنة المضيف على الموقف. أما صوت الجاحظ فقد جاء مخالفا لصوت المضيف، فقد أبدل فعل الأمر (أجهز) بفعل الأمر (أعرض) عندما حلّ استعاراته. وان ما يمكن ان يصلنا من اختلاف التراكيب هو تنوع المدينة وتعدد طبقاتها.

وعلى الرغم مما تقد مازلنا نتساءل: هل تركيز الجاحظ على حدث البخل يؤدي وظيفة تربوية؟ أم يؤدي وظيفة ايدولوجية اعلانية عن سمات المدينة التي تقف بالضد من البداوة التي تدعي الكرم؟ ربما. وهل الجاحظ يكرس تواصلا أحادياً بين نصه وبين جهة مدنية كانت تقف بالضد مع جهة أخرى ترفض أخلاق المدنية الحديثة في زمنه؟ ربما أيضاً. وهل هو نص مفضوح أم أنه يتستر وراء النادرة ليقول شيئا آخر جعل منه متعدد الوظائف يخلد من خلال جماعيته وعالميته؟