أذكر له يوم طفولتي، تحديدا في أولى ابتدائي، حينما تخلّف أبي لظرف طارئ عن الذهاب معي إلى المدرسة، وطلب منه أن يوصلني، وأوصاه أن يشتري لي قطع من الكيك، وألّا يرحل حتى ينعقد الطابور، ويطمأن علىّ.
طيلة الطريق وأنا عقلي مشوش، أجر قدمي وحقيبتي جراً ، أبكي، أنتحب، أنتفض خوفا من فكرة دخولي المدرسة!، فبدا لي عالما غريبا لم أألفه من قبل. شعر بي، حملني على كتفه العريض وذراعيه القويتين، وهو يُهدأ من روعي، ثم أخرج منديلا، ومسح به مخاط أنفي دون أن يأنف من قزازة هذا الإفراز اللزج، ولم يتركني حتى أضحكني، ووضع في جيبي عدد من الورقات المالية، وقتها فقط توقفت عن البكاء.
ظل واقفا على باب المدرسة بعدما أوصى السادة المدرسين بي خيرا، لوّح لي مبتسما، فابتسمت له، ولوّحت له بكلتا يدي وقلبي يكتفنه السرور. لا تزال ابتسامته البشوشة تسكن في قلبي حتى كتابة هذه السطور، صعدت مع زملائي إلى الفصل بالدور الثاني، نظرت من الطرقة ونحن نسير صفا تلو الآخر، فوجدته لا يزال واقفا، لوّحت له ثانيةً بيدي اليسرى في لهفة، حتى أغلق حارس المدرسة البوابة، فاختفى أثره تماما.
وبينما كنت أستعيد ذكراه معي في هذا اليوم، قلت لنفسي مخاطبها: "ولأنك أيها الفاقد لمرور الزمن، كنت تراه كل يوم، كان يُلقي عليك التحية بحرارة، ويُحادثك للاطمئنان عليك، كان يسير معك فلا تشعر بغيبته، ويسأل عنك بلهفة حين تغيب عنه، وقد ركبه القلق. فلم تكن تجهله أو تقصد إهماله، لكنك لم تفهم قيمة الوقت الذي كان يحمل همه".. كل هذه الصور كانت اعتيادية لك، أما هو، فنظرته كانت أعمق وأقوى من ظنونك وتخيّلاتك، ولمّا رحل أيقنت قيمته وقدّره.
كل تلك المشاهد، تذكرتها يوم وفاته، يوم أن فاضت روحه إلى خالقها، يوم أن حملناه على أكتافنا، لنضعه في التراب، كما وضعنا الذين من قبله. كانت ليلة عصيبة حقا، العائلة والجيران والأصدقاء باتوا في اندهاش مما يحدث، شابٌ في ريعانه، لم يُكمل عامه الخامس والثلاثين، بعد ساعات قليلة لن يكون موجدا بيننا، لكنها الحقيقة الأبدية الخالدة.. الموت!
فالموت، هو أعجب شيء يمكن للعقل الإنساني أن يقف أمامه حائراً، من شخص بالأمس القريب كان لديه صحة جيدة، وعائلة فتية، وجاه ميسور، وبيت فسيح، إلى جثة هامدة، لا تقدر على شيء، توضع في التراب دون أدنى اعتراض منها. فتمضي أنت متسائلا في دهشة: "أين ذهب كل هذا"!
آتتني الذكريات دفعة واحدة، هزتني هذه المرة من أعماقي، فقالت سيدة عجوز على قارعة الطريق وهي تبكي بحرقة، ونحن نسير به إلى مثواه: "الله يرحمك يا بو قلب أبيض.. الله يرحمك يا زينة الشباب.. الله يرحمك مصطفى". ذكرتني العجوز، حينما تشاجرت معه يوما، وتركته ورحلت، في اليوم التالي، قابلني قدرا أمام البيت، فابتسم لي، فبادلته الابتسامة، ثم احتضنني وظل يُعاتبني.
فلا أعلم، أأنعي نفسي، أم أنعيه هو.. فظني بالله، سيكون رحيما به، سيكون أحن عليه من العباد وادعاءاتهم، فكم لله من لطف خفيّ!. فالله لن يخذل دعائنا له آناء الليل وأطراف النهار. لن يخذل دعاء تلك السيدة التي ربما أعانها على قضاء حاجة من حوائجها متوارياً عن أعين الناس. لن يخذل الله احساس المرأة التي اقتحمت عزاء السيدات وهي تبكي دون أن تنبس بكلمة. لن يخذل قلب زوجته التي تحملت ويلات معه. لن يخذل دعاء أمه وأخوته وعائلته. لن يخذل الله قلبي الذي يتذكره في كل حين، أبتسم، أبكِ، أسرح، فكلها من نتاج هذا الرجل.
فمثل هذه الشخصيات لن تمر مرور الكرام على بعض الناس، مهما طال زمن حبستهم في قبورهم الصمّاء.. وأما عن منظر القبور، فتلك رواية أخرى تُقص بمفردها.
ففي المقابر، نُلقي عليهم التحية فلا يُجيب أحد، فيستوقفنا ذلك المشهد المهيب، وكأنهم بنيان مرصوص، نتذكر حديث أصحاب المكان ومداعباتهم، نُطلق آهات من القلب، فتزرف دمعة، تنتهي بابتسامة، ثم ننصرف. ها هي المقابر التي لا تُفضي بسرها لأحد، ولكنها تفوح صمتًا يخترق أي حُجب.
"فسلام عليكم أيها الراحِلون"
"رحم الله عمي مصطفى محمد العربي"
"وبارك الله في ذريته وزوجته".
التعليقات
اعجبتني طريقتك في سرد الاحداث و الانتقال بسلاسة بين الافكار ....
حزينة حقا
اعجبتني طريقتك في سرد الاحداث و الانتقال بسلاسة بين الافكار ....
حزينة حقا ..