(مسافرٌ أنتَ والآثارُ باقيةٌ،،،
فاتْرك وراءك ما تُحيي بهِ أثَرا)
الحِكمة هي عُصارة الفكر وخلاصة التجارب وفيوضات الكريم، أما أرباب الحكمة فهم مصابيح الدُّجى وضوء المشاعل ونجوم الليالي؛ نلتمس الدفء في أكنافهم والسكينة في أعطافهم والقدوة في أفعالهم والهداية في أقوالهم.
ومن مَنثور دُرِّهم ولآلئ أصدافهم نلتقط قولهم: ( اثنان لاتدعْهما؛ زرْع الشجَر وترْك الأثر).
ولأنّ الشجر بعض الأثر والأثر غاية الشجر فوشائج القربى بينهما قائمة ومتينة كعلاقة النّسب والمصاهرة، وبالتالي فإنَّ الميل لأيِّهما واستصحاب أحدهما؛ بالطّرْق على بابه والوقوف على أطلاله وتقليب صفحاته، كفيلٌ بفضِّ أختام تلك الحكمة النفيسة وسبْر أغوارها.
على أنه من البداهة بمكان وقبل أن نلمْلم شعثنا ونشحذ همتنا فنمدّ أيدينا ونغبِّر أقدامنا ونشمِّر سواعدنا لنبذر ونغرس ونزرع، علينا أن نروي ظمأ العقل ونطفأ نار المعرفة ، فنفسح المجال للسؤال عن كُنه تلك الشجرة الوافدة، وعمّا يمكن أن تخطّه في قاموس الكون وسِفر الوجود وصحائف الأعمال؟
وهنا يأتينا الردّ سريعا كالبرق، ووافيا كالغيث، وشافيا كالبلسم على لسان الفسيلة الشَّغُوفة بالزّرْع و المتَشوِّفة للغرْس فتقول:
أنا حفنةٌ مِن تراب و جرعةٌ مِن ماء و نسمةٌ مِن هواء، أنا الثبات في الأرض والصمود في الفلاة والشموخ في الحياة، أنا استراحة المسافر ومأوى الغريب وظلّ الكادح، أنا عشّ الطائر وكلأ الحيوان ومَطعم الجائع، أنا جمال الكون وصِحّة الأبدان وبهجة الأنظار، أنا مرتع الصبيان ومُلتقى الخلّان وذاكرة الشيبان، أنا الكَفّ الممدود والصدر الحنون والقلب الرؤوف، أنا ميراث كل وارث وبُغية كل طالب وباحة كل مريد، أنا قيلولة الصيف ومظلّة الشتاء وعروس الربيع، أنا بضاعة الطبيب ومقعد العالم وسواك العابد، أنا لسان الشاعر وقلم الناثر وكتاب الأديب، أنا دعوة الأمل وشهادة العمل ورسالة الحب.
أنا أتجاوز حدود البذرة والجزع والورقة ونطاق الأُصُص والطين والماء؛ فقد أكون فضيلةً على لسانِ مُرَبٍّ، أو فكرةً من عقل مفكر، أو عِلْما في حضرة عالِم، أو درسا في فصل معلّم، أو اكتشافا في معمل باحث، أو مدرسة مِن مال مُحسِن، أو كتابا من قلم حاذق، أو عدلا في قصر حاكم.
أنا الصدقة الجارية بلا مال والخلود بلا جسد والذكر بعد الفناء...
حيَّا الله شجرة تلك سماتها، ويا رعَى الله غارسًا تلك مآثرُه وآثاره.
أيّها الأحبّة مِن ذوي الكفوف النديّة والنفوس الرضِيّة؛ التي تتوق إلى الخير وتنجذب للجمال وتتَحزّب للحق:
ردِّدوا مع محمود درويش أنشودته : (ليت الفتى شجرة)،وعَطِّروا ذاكرتم بعليّ بن عبد الله بن عباس الذي عُرِف بالسَّجَّاد بعد غرسه لخمسمائة شجرة زيتون في ضيعته وحرصه على تعفير وجهه بالسجود تحتها كلِّها،واتلوا في كتاب ربكم: (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصينه في إمام مبين)، وطبّقوا وصية حبيبكم صلى الله عليه وسلم حين قال:(إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها)، واشْرعوا اليوم قبل الغد في غرس فسائلكم...
فالأيام رُحَّل وما نحن إلّا مَطاياها.
-
د.منير لطفيإن قصُر بنا العمل... فليسعفنا القلم.
نشر في 07 شتنبر
2015 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022
.
التعليقات
لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... ! تابعنا على الفيسبوك
مقالات شيقة ننصح بقراءتها !
مقالات مرتبطة بنفس القسم
Ali A Mardan
منذ 1 سنة
وهن
الإسلام السياسي في القرن العشرين هو المسؤول الأول عن تذويب الإسلام في أيديولوجيات الحداثة من خلال التركيز على النقاط المشتركة مثل وعود الرخاء الاقتصادي وأحلام اليوتوبيا الاجتماعية. نتيجة لذلك، صار هناك تصوّر شائع مفاده أن عصر صدر الإسلام عصر
وليد باريان
منذ 2 سنة
إيمان جبر مخيرز
منذ 2 سنة
التجديد في الفكر الإسلامي
التجديد في الفكر الإسلاميمصطلح التجديد من المصطلحات الحديثة والتي ظهرت في الآونة الأخيرة، ويراها البعض بأنها من الضرورات
حميد بن خيبش
منذ 3 سنة
أحمد محمود النجار
منذ 3 سنة
تمثال براتيسلافا
براتيسلافا مدينة بدولة سلوفاكية من زار هذه المدينة يجد هناك تمثالاً لعامل نظافة مصنوع داخل فتحة التصريف نصفه بالخارج والنصف الآخر بالداخل وله قصة عجيبة تعبر عن أسمى معاني الوفاء والمحبة هي قصة لرجل كان يعمل في النظافة وكان
حميد بن خيبش
منذ 3 سنة
Ismail Emran
منذ 4 سنة
نور الله ورحمته
يحل بنا شهر رمضان الكريم شهر القران والصيام والقيام والغفران والعتق من النيران.وشاء الله سبحانه الرحمن الرحيم أن يتم نعمه على عباده ويظل كتابه وكلامه ( القرآن) محفوظا بين البشر ولا يتم تحريفه أو إخفاؤه كما فعل بكتبه كالتوراة
زينب بروحو (Zaineb Brh)
منذ 4 سنة
زينب بروحو (Zaineb Brh)
منذ 5 سنة