بعد محاولة استجلاء بعض أهم السمات السيكولوجية للإنسان المنكر للحقائق الثابتة في مقال سابق ، نأتي الآن إلى محاولة تشخيص طبيعة علاقة التأثير و التأثر بين الإنسان و "المجتمع" المنكر للحقائق الثابتة ، فمن النافل القول بأن ثقافة الكثير من المجتمعات لا تعترف ببعض حقائق التاريخ ، و منها من لا يعترف ببعض حقائق العلوم كـ"نظرية التطور" ، و نظرية "الإنفجار العظيم" و "كروية الأرض" و غيرها ، حيث تضرب المجتمعات التي تنكر الحقائق صفحا عن الأفكار الفلسفية و النظريات العلمية و المذاهب السياسية الجديدة "كالعلمانية" و "الليبرالية" ، رافضة إياها بمبررات ثقافية و دينية و آيديولوجية في الغالب .
يُلاحظ بأن أغلب المجتمعات التي لا تقبل الفكر الجديد و الحقائق المعاصرة الثابتة ، تكون مجتمعات أغلب أفرادها جهلة و أميين ، و ما عرف الجهل في مكان إلا و كان هذا المكان فاسدا متخلفا ، غير أن من يترك الجهل ليتفشى في المجتمع ؟ المدرسة .
تعاني معظم هذه المجتمعات من "نظام تعليمي" فاشل ، حيث يُستغل قطاع التعليم من طرف النظام السياسي لخرفنة الأفراد و ليس لتعليمهم ، لأن التعليم الحقيقي يعلم التحرر ، و التحرر يتقاطع مع هدف السلطة في ضبط الأفراد عبر غرس قيم الطاعة فيهم ، خصوصا إذا كان النظام السياسي إستبداديا . لذلك فكل مجتمع يطفح بقيم الرضوخ و الطاعة ، فهو بالضرورة مجتمع لا نظام تربوي حقيقي فيه .
يقول ألبيرت آينشتاين : "لا تُسَاق إلا الخراف ، إذا أردت أن تَسُوق لابد من أن تُخَرفِن أولا" ، هكذا بما أن معظم المجتمعات المنكرة للحقائق الثابثة في الأعم الأغلب لم تدخل بعد إلى "الحداثة السياسية" ، أي إلى مفهوم المواطن و ليس "المَرْعِي" ، لا تعرف مفهوم الديموقراطية و العدالة الإجتماعية و الحرية ، و الفردانية أو المبدأ الذي يقول "من حق الفرد أن ينفرد بنفسه ، و يختار مصيره بإرادته الحرة" ، بهذه الطريقة تنتفى الحرية ليحل محلها التسلط ، و ذلك ما يستدعي الخرفنة من أجل الضبط باستغلال وسائل كـ"المدرسة" .
لماذا المدرسة ؟ لأنها هي أول مؤسسة إجتماعية تشتغل على الإنسان ، حيث تعلم الناشئة في مرحلة جد حساسة من عمر الإنسان ، فالمدرسة مصنع إما للإنسان أو للإنسان/الحيوان ، أي هي الناقل من طور الطبيعة إلى طور الثقافة ، لذلك تعمل المجتمعات المتحضرة على تطوير أنظمتها التعليمية ، لأن التحضر يصنعه إنسان متحضر ، إذا لم تصنع المدرسة إنسان من هذا النوع ، تُقفل أبواب الحضارة و تُفتح نوافذ التخلف و الجهل ، لذلك دائما ما يستغل الساسة في المجتمعات المُعاقة التعليم لخلق أجيال تتوافق مع استراتيجياتهم الإستبدادية ، و قد سبق و رصدنا في كتابنا "العصابات الإسلامية و الثورة" أن تنظيم "داعش" أول ما قام به حينها سيطر على مساحة جغرافية كبيرة ، هي "تغيير مناهج التعليم" ، فحدف الفلسفة و الموسيقى و التاريخ و عوضها بمواد تعلم قيم الجهاد و الصبر و الطاعة لله و خليفته ، الله الذي لم يُرى في الأرض وجه من وجوهه إلا و ارتبط بالسلطة و الحُكَّام .
لو تفحصنا مناهج التعليم في المجتمعات المُنكرة للحقائق الثابتة ، سنجد أنها خارج التاريخ ، دروس لا تقدم معلومات تنتمي إلى عصرنا ، بل تقدم معرفة تنتمي للقرون الوسطى ، إذ لا تقدم أي معلومة جديدة تواكب المعرفة العلمية في تطورها ، حيث تجد المدرسة تعلم الناس كيفية الإغتسال من الجنابة ، تدرسهم تاريخ الغزوات ، تعرفهم عن الحيض و النفاس و منافع التداوي ببول البعير ، في ميدان العلوم تعلمهم نظرية الخلق حيث نشأت الحياة البيولوجية في السماء و ليس في الأرض ، و حيث خلق الإله الكون في ستة أيام ، تعلمهم المعجزات و الخوارق حيث يطير البشر إلى السماء و يمشون فوق الماء و يحيون الأموات و يتكلمون مع الجن ، من جانب آخر تحفر المدرسة في هذه المجتمعات في عقول الناشئة أحداث تاريخية لم تحدث أصلا ، و تخفي عن وعيهم أحداث تاريخية حصلت فعلا في الماضي ، و ذلك حسب معايير الآيديولوجية الدينية أو السياسة .
إذا كان كذلك ، كيف تريد من مدرسة تعلم الناس التداوي ببول البعير و الوضعية الصحيحة للمضاجعة الشرعية ، و أن الكون خلق في ستة أيام ، أن تُخَرِّج جيل يؤمن بنظرية التطور و نظرية الإنفجار العظيم ، و يبحث في علم الطبيعة و الفيزياء و الفلك و الأنثروبولوجيا و علم النفس ، كيف تريد من مدرسة تعلم الناس أن النظام السياسي الأمثل و الأحسن ، هو الذي أسسه شخص مقدس ما في القرون الوسطى ، أن تُخَرِّج جيل يقبل و يطالب بنظام علماني مدني ، ترفع فيه حقوق الإنسان عوض حقوق الله .
بإيزاء المدرسة ، تعتبر "التربية" التي يتلاقاها الفرد في المنزل من طرف أقرب ذويه كأمه و أبيه ، من أبرز الأسباب التي تهندس رُئَى الفرد لذاته و للعالم ، فمادام أن قطاع التعليم فاشل في المجتمعات المنكرة للحقائق الثابتة ، فإنه ينتج آباء و أمهات جهلة لا يعرفون الفرق بين الألف و العصى ، و كما يقول المثل فاقد الشيء لا يعطيه ، يُنقل الآباء هذا الجهل إلى أبنائهم عن طريق التربية ، و بذلك إذا كان الأب يقرأ فقط الكتب المقدسة و لا يناقش أحداث الواقع إلا بمنطق ديني وليس بمنطق علمي أو فلسفي ، فإن إبنه يتشبه به باستمرار و تصير نظرته إلى الواقع و العالم مثل نظرة أبوه الجاهل ، و هكذا يستفحل الجهل من خلال التربية و بالتالي تتقوى جبهة الدفاع عن الأفكار الجَهَلُوتِيَّة ، و يتم استنكار و عدم الإعتراف بالحقائق العلمية أو التاريخية أو السياسية.
بالإضافة إلا ذلك ، يعتبر "الإعلام" أيضا من بين الأسباب المتعددة التي تدفع باتجاه انغلاق المجتمع ، إذ إن وظيفة الإعلام في هذه المجتمعات هي حراسة الضحالة الثقافية للمشاهدين ، عبر أفلام و مسلسلات فاقدة لأي رسالة سامية ، و عبر برامج تبليدية و إستحمارية ، حيث يفتقد الإعلام في المجتمعات المتعصبة إلى أي برنامج تثقيفي يرتقي بوعي المشاهد عبر استضافة مفكرين أو علماء أو فلاسفة يتحدثون في مواضيع بحيالها بأسلوب علمي ، بل لا يستضاف إلا الشطاحين و الرقاصين و المغنيين و التافهين ، بالإضافة إلى استضافة "رجال الدين" الذين لا يتركون أي فكرة من عالم الخرافة إلا و يعرضونها على الناس في ثوب متدثر بالقداسة . هكذا فأسلوب الإعلام أسلوب ناجح في تسطيح ثقافة الشعوب و تخذير وعيها ، و هو ما يجعل هذه الشعوب لا تقبل إلا ما ينتمي لعقلها الجمعي .
من جهة أخرى ، الإعلام سلاح ناجع في يد الأنظمة السياسية من أجل إلهاء الناس عن القضايا الأساسية لحياتهم الإجتماعية و السياسية ، فإذا كانت الدولة استبدادية لا تريد الناس أن يفكروا في سياساتها الإقتصادية و التدبيرية ، فإنها تطلق عليهم إعلاما رخيصا يلهيهم و يبعدهم عن مناقشة ميزانية الدولة و كيف تصرف و من يصرفها ؟ و كيف توزع الثروة ؟ و هل توزيعها عادل ؟ بدل ذلك يجعلهم هذا الإعلام يفكرون في هل بطل المسلسل سيُقبِّل البطلة ، و بماذا أحست البطلة بعد القبلة ، ثم من هو آخر شَطَّاح نزل آخر أغنية ... و غيرها من التساؤلات المغفلة ، التي تنبئ بمستوى ثقافي منحط للمشاهدين .
ثم يعتبر "الدين" إذا كان "شموليا" و يدعي إمتلاك الحقيقة النهائية ، أهم أسباب انغلاق المجتمع الذي يؤمن به ، فأي مجتمع يعتقد بحيازته للحقيقة النهائية هو مجتمع متخلف بالضرورة ، حيث تصير حقيقة الكون و الحياة و الماضي و الحاضر و المستقبل و الذات و الآخر مركونة في كتب مقدسة ، نزلت في زمن ما قبل التفكير العقلاني و ما قبل العلم و ما قبل المعرفة المنطقية و ما قبل الدولة الحديثة و ما قبل القانون الوضعي ، فيصبح مجتمع هذا الدين لا يقبل أي أفكار جديدة في موضوعات الكون و التاريخ و أصل الإنسان و نمط السياسة و طبيعة القوانين ، إذ إن عدم قبول الجديد و الركون للقديم فقط يحكم على صاحبه بالمؤبد في سجن التخلف .
هكذا فالمجتمعات التي تُنكر الحقائق العلمية تبرر ذلك بتفسيرات دينية تؤمن بها ، حيث يصبح البحث العلمي في موضوعات للدين فيها رأي ، مجرد عمل هُرطُوقِي و كُفْرِي ، لذلك فإن معظم الباحثين و الفلاسفة و العلماء تاريخيا منبوذون بتهمة الكفر بالأديان ، كما أن أفراد هذه المجتمعات لا يكون من بينهم علماء أو فلاسفة لهم إنتاجات و أبحاث أكاديمية تأثر في ثقافة المحلية أو العالمية ، بل معظهم متخرجون من الجوامع لا من الجامعات ، ما يجعل هذه المجتمعات متخلفة علميا و فكريا ، و هو ما يجعل أفرادها متعصبين لأفكارهم التي لا تعدوا كونها هراء من الناحية العلمية .
هكذا فإذا كان المجتمع فاشل تعليميا ، و مُتخلف عِلْمِيَّا و يعمل على إنتاج الجهل من خلال التربية ، و يؤمن إيمانا أعمى بحيازته للحقيقة النهائية ، و يُنَمِّي جهله الإعلام ، فلا يمكن له إلا أن يكون منكرا للحقائق الثابتة العلمية و التاريخية و السياسية ، و مستمسكا بالخرافات و الأساطير .