سوسيولوجيا المجتمع المنكر للحقائق الثابتة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

سوسيولوجيا المجتمع المنكر للحقائق الثابتة

  نشر في 02 مارس 2018 .

  

   بعد محاولة استجلاء بعض أهم السمات السيكولوجية للإنسان المنكر للحقائق الثابتة في مقال سابق ، نأتي الآن إلى محاولة تشخيص طبيعة علاقة التأثير و التأثر بين الإنسان و "المجتمع" المنكر للحقائق الثابتة ، فمن النافل القول بأن ثقافة الكثير من المجتمعات لا تعترف ببعض حقائق التاريخ ، و منها من لا يعترف ببعض حقائق العلوم كـ"نظرية التطور" ، و نظرية "الإنفجار العظيم" و "كروية الأرض" و غيرها ، حيث تضرب المجتمعات التي تنكر الحقائق صفحا عن الأفكار الفلسفية و النظريات العلمية و المذاهب السياسية الجديدة "كالعلمانية" و "الليبرالية" ، رافضة إياها بمبررات ثقافية و دينية و آيديولوجية في الغالب .

  يُلاحظ بأن أغلب المجتمعات التي لا تقبل الفكر الجديد و الحقائق المعاصرة الثابتة ، تكون مجتمعات أغلب أفرادها جهلة و أميين ، و ما عرف الجهل في مكان إلا و كان هذا المكان فاسدا متخلفا ، غير أن من يترك الجهل ليتفشى في المجتمع ؟ المدرسة .

  تعاني معظم هذه المجتمعات من "نظام تعليمي" فاشل ، حيث يُستغل قطاع التعليم من طرف النظام السياسي لخرفنة الأفراد و ليس لتعليمهم ، لأن التعليم الحقيقي يعلم التحرر ، و التحرر يتقاطع مع هدف السلطة في ضبط الأفراد عبر غرس قيم الطاعة فيهم ، خصوصا إذا كان النظام السياسي إستبداديا . لذلك فكل مجتمع يطفح بقيم الرضوخ و الطاعة ، فهو بالضرورة مجتمع لا نظام تربوي حقيقي فيه .

   يقول ألبيرت آينشتاين : "لا تُسَاق إلا الخراف ، إذا أردت أن تَسُوق لابد من أن تُخَرفِن أولا" ، هكذا بما أن معظم المجتمعات المنكرة للحقائق الثابثة في الأعم الأغلب لم تدخل بعد إلى "الحداثة السياسية" ، أي إلى مفهوم المواطن و ليس "المَرْعِي" ، لا تعرف مفهوم الديموقراطية و العدالة الإجتماعية و الحرية ، و الفردانية أو المبدأ الذي يقول "من حق الفرد أن ينفرد بنفسه ، و يختار مصيره بإرادته الحرة" ، بهذه الطريقة تنتفى الحرية ليحل محلها التسلط ، و ذلك ما يستدعي الخرفنة من أجل الضبط باستغلال وسائل كـ"المدرسة" .

  لماذا المدرسة ؟ لأنها هي أول مؤسسة إجتماعية تشتغل على الإنسان ، حيث تعلم الناشئة في مرحلة جد حساسة من عمر الإنسان ، فالمدرسة مصنع إما للإنسان أو للإنسان/الحيوان ، أي هي الناقل من طور الطبيعة إلى طور الثقافة ، لذلك تعمل المجتمعات المتحضرة على تطوير أنظمتها التعليمية ، لأن التحضر يصنعه إنسان متحضر ، إذا لم تصنع المدرسة إنسان من هذا النوع ، تُقفل أبواب الحضارة و تُفتح نوافذ التخلف و الجهل ، لذلك دائما ما يستغل الساسة في المجتمعات المُعاقة التعليم لخلق أجيال تتوافق مع استراتيجياتهم الإستبدادية ، و قد سبق و رصدنا في كتابنا "العصابات الإسلامية و الثورة" أن تنظيم "داعش" أول ما قام به حينها سيطر على مساحة جغرافية كبيرة ، هي "تغيير مناهج التعليم" ، فحدف الفلسفة و الموسيقى و التاريخ و عوضها بمواد تعلم قيم الجهاد و الصبر و الطاعة لله و خليفته ، الله الذي لم يُرى في الأرض وجه من وجوهه إلا و ارتبط بالسلطة و الحُكَّام .

  لو تفحصنا مناهج التعليم في المجتمعات المُنكرة للحقائق الثابتة ، سنجد أنها خارج التاريخ ، دروس لا تقدم معلومات تنتمي إلى عصرنا ، بل تقدم معرفة تنتمي للقرون الوسطى ، إذ لا تقدم أي معلومة جديدة تواكب المعرفة العلمية في تطورها ، حيث تجد المدرسة تعلم الناس كيفية الإغتسال من الجنابة ، تدرسهم تاريخ الغزوات ، تعرفهم عن الحيض و النفاس و منافع التداوي ببول البعير ، في ميدان العلوم تعلمهم نظرية الخلق حيث نشأت الحياة البيولوجية في السماء و ليس في الأرض ، و حيث خلق الإله الكون في ستة أيام ، تعلمهم المعجزات و الخوارق حيث يطير البشر إلى السماء و يمشون فوق الماء و يحيون الأموات و يتكلمون مع الجن ، من جانب آخر تحفر المدرسة في هذه المجتمعات في عقول الناشئة أحداث تاريخية لم تحدث أصلا ، و تخفي عن وعيهم أحداث تاريخية حصلت فعلا في الماضي ، و ذلك حسب معايير الآيديولوجية الدينية أو السياسة .

  إذا كان كذلك ، كيف تريد من مدرسة تعلم الناس التداوي ببول البعير و الوضعية الصحيحة للمضاجعة الشرعية ، و أن الكون خلق في ستة أيام ، أن تُخَرِّج جيل يؤمن بنظرية التطور و نظرية الإنفجار العظيم ، و يبحث في علم الطبيعة و الفيزياء و الفلك و الأنثروبولوجيا و علم النفس ، كيف تريد من مدرسة تعلم الناس أن النظام السياسي الأمثل و الأحسن ، هو الذي أسسه شخص مقدس ما في القرون الوسطى ، أن تُخَرِّج جيل يقبل و يطالب بنظام علماني مدني ، ترفع فيه حقوق الإنسان عوض حقوق الله .

  بإيزاء المدرسة ، تعتبر "التربية" التي يتلاقاها الفرد في المنزل من طرف أقرب ذويه كأمه و أبيه ، من أبرز الأسباب التي تهندس رُئَى الفرد لذاته و للعالم ، فمادام أن قطاع التعليم فاشل في المجتمعات المنكرة للحقائق الثابتة ، فإنه ينتج آباء و أمهات جهلة لا يعرفون الفرق بين الألف و العصى ، و كما يقول المثل فاقد الشيء لا يعطيه ، يُنقل الآباء هذا الجهل إلى أبنائهم عن طريق التربية ، و بذلك إذا كان الأب يقرأ فقط الكتب المقدسة و لا يناقش أحداث الواقع إلا بمنطق ديني وليس بمنطق علمي أو فلسفي ، فإن إبنه يتشبه به باستمرار و تصير نظرته إلى الواقع و العالم مثل نظرة أبوه الجاهل ، و هكذا يستفحل الجهل من خلال التربية و بالتالي تتقوى جبهة الدفاع عن الأفكار الجَهَلُوتِيَّة ، و يتم استنكار و عدم الإعتراف بالحقائق العلمية أو التاريخية أو السياسية. 

  بالإضافة إلا ذلك ، يعتبر "الإعلام" أيضا من بين الأسباب المتعددة التي تدفع باتجاه انغلاق المجتمع ، إذ إن وظيفة الإعلام في هذه المجتمعات هي حراسة الضحالة الثقافية للمشاهدين ، عبر أفلام و مسلسلات فاقدة لأي رسالة سامية ، و عبر برامج تبليدية و إستحمارية ، حيث يفتقد الإعلام في المجتمعات المتعصبة إلى أي برنامج تثقيفي يرتقي بوعي المشاهد عبر استضافة مفكرين أو علماء أو فلاسفة يتحدثون في مواضيع بحيالها بأسلوب علمي ، بل لا يستضاف إلا الشطاحين و الرقاصين و المغنيين و التافهين ، بالإضافة إلى استضافة "رجال الدين" الذين لا يتركون أي فكرة من عالم الخرافة إلا و يعرضونها على الناس في ثوب متدثر بالقداسة . هكذا فأسلوب الإعلام أسلوب ناجح في تسطيح ثقافة الشعوب و تخذير وعيها ، و هو ما يجعل هذه الشعوب لا تقبل إلا ما ينتمي لعقلها الجمعي .

  من جهة أخرى ، الإعلام سلاح ناجع في يد الأنظمة السياسية من أجل إلهاء الناس عن القضايا الأساسية لحياتهم الإجتماعية و السياسية ، فإذا كانت الدولة استبدادية لا تريد الناس أن يفكروا في سياساتها الإقتصادية و التدبيرية ، فإنها تطلق عليهم إعلاما رخيصا يلهيهم و يبعدهم عن مناقشة ميزانية الدولة و كيف تصرف و من يصرفها ؟ و كيف توزع الثروة ؟ و هل توزيعها عادل ؟ بدل ذلك يجعلهم هذا الإعلام يفكرون في هل بطل المسلسل سيُقبِّل البطلة ، و بماذا أحست البطلة بعد القبلة ، ثم من هو آخر شَطَّاح نزل آخر أغنية ... و غيرها من التساؤلات المغفلة ، التي تنبئ بمستوى  ثقافي منحط للمشاهدين .

  ثم يعتبر "الدين" إذا كان "شموليا" و يدعي إمتلاك الحقيقة النهائية ، أهم أسباب انغلاق المجتمع الذي يؤمن به ، فأي مجتمع يعتقد بحيازته للحقيقة النهائية هو مجتمع متخلف بالضرورة ، حيث تصير حقيقة الكون و الحياة و الماضي و الحاضر و المستقبل و الذات و الآخر مركونة في كتب مقدسة ، نزلت في زمن ما قبل التفكير العقلاني و ما قبل العلم و ما قبل المعرفة المنطقية و ما قبل الدولة الحديثة و ما قبل القانون الوضعي ، فيصبح مجتمع هذا الدين لا يقبل أي أفكار جديدة في موضوعات الكون و التاريخ و أصل الإنسان و نمط السياسة و طبيعة القوانين ، إذ إن عدم قبول الجديد و الركون للقديم فقط يحكم على صاحبه بالمؤبد في سجن التخلف .

  هكذا فالمجتمعات التي تُنكر الحقائق العلمية تبرر ذلك بتفسيرات دينية تؤمن بها ، حيث يصبح البحث العلمي في موضوعات للدين فيها رأي ، مجرد عمل هُرطُوقِي و كُفْرِي ، لذلك فإن معظم الباحثين و الفلاسفة و العلماء تاريخيا منبوذون بتهمة الكفر بالأديان ، كما أن أفراد هذه المجتمعات لا يكون من بينهم علماء أو فلاسفة لهم إنتاجات و أبحاث أكاديمية تأثر في ثقافة المحلية أو العالمية ، بل معظهم متخرجون من الجوامع لا من الجامعات ، ما يجعل هذه المجتمعات متخلفة علميا و فكريا ، و هو ما يجعل أفرادها متعصبين لأفكارهم التي لا تعدوا كونها هراء من الناحية العلمية .

  هكذا فإذا كان المجتمع فاشل تعليميا ، و مُتخلف عِلْمِيَّا و يعمل على إنتاج الجهل من خلال التربية ، و يؤمن إيمانا أعمى بحيازته للحقيقة النهائية ، و يُنَمِّي جهله الإعلام ، فلا يمكن له إلا أن يكون منكرا للحقائق الثابتة العلمية و التاريخية و السياسية ، و مستمسكا بالخرافات و الأساطير .




   نشر في 02 مارس 2018 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا