في أربعينيات القرن الماضي، قيل أن إحداهن قد بلغ بها الحقد على الرجال مبلغه، وغص حلقها بذكورية المجتمع وتسلط الرجل، و ضاق صدرها بمعالم التفريق بين الرجل المستبد والأنثى المظلومة، إذ كانت "فيمنيست" حتى نخاعها الشوكي، ومتعصبة لبنات جنسها من صميم بصلتها السيسائية، فألحت وأصرت على حذف نون النسوة من اللغة العربية، بحجّة أن تلك النون "اللعينة" ليست سوى قوقعة سُجنت فيها المرأة العربية وأُسرت في وعائها روحها وكيانها!
عجبا! أي حقد وأيّ غيظ هذا الذي يمس حميمية اللغة ويحاول اغتيال أجمل مافيها؟! وهل ثمة أجمل من أنوثة اللغة؟!
الفصحى أنثى بطبعها، تتبدى إنحناءاتها في تحدّب حروفها، وتنبعث نعومتها من رقة أصواتها، وكلماتها حين تُنطق تنطلق كشلال أسود ينسدل على أكتاف المعنى ويتبعثر برصانة حول جيد الصّوت، وفي أهداب حروفها عطر مجلجل غريب يُرى ويُسمع، وفي خبايا معانيها سواد مِسفع، تظهر منه جلالة الدلالة ولا تظهر ، ويطيب لغُرّة الإيحاء فيها أن تطلّ بارتباك طفيف، تتخللها خصلة مجاز طائشة حطّت خلسة على سحنة نصّ من نصوص وجهها اللطيف، تتحلّى بحليّ الصّرف وجواهره، تتخيّر منه الأجمل من الحروف وترتديها كعقد أو قرط أو سوار..
وهي اللغة الخصبة الولود، تُنجب من رحم اشتقاقها مئات الكلمات الناشئة ، تهدهدها في سرير دهرها وتشذبها بحرف أو حرفين أو ثلاث، وترسلها كلمات ناضجة قوية الدلالة و دقيقة المعنى، تعني وتقول وتعبّر، غزيرة بمعجمها ، كالهطل تمطر وتأبى الجفاف، وهي الفاتنة بسحرها حين تُنطق وحين تُقرأ، ترتمي على مدّ الورق تتشظى وتنتثر في سكرة شاعر، وتتلملم في حضرة كاتب، تتسلّل إلى السّمع بخفّة الهمس، ثم تعود لتلثمه بجبروت الجهر، تمرّ كالقطا بين بحة وغُنة، وترقص بعنفوان قلقلة رجت القاف أو الجيم، تتهادى على الألسن بسلاسة ظبية تَضُم وتنصب وتكسر القلوب حبا، وتسكن كملاك بليغ..
هي ذي لغةٌ أنثى من ألفها إلى يائها فعلامَ الغضب يا "إحداهن"؟!
تريدين رأس نون النسوة؟ مهلا! وكيف تعيش أنثى بلا رنين؟ أليست النون ذاتها خلخال ساحر الرنين؟! هنّ وأنتن وياء المخاطَبة ، كلّهن لحن يرنّ مع كلّ حركة ومع كلّ مدّ، يرنّ رقيقا كالحنين، فإن كانت الفصحى تتحلى بحلي الصرف، فمعالم التأنيث تاجها الذي يزيد سحرها وحسنها ، والتاء المربوطة طويلة الظفائر، تلعب أمام الراء تارة ، أو تتعلق بحضن الباء كالجنين.. والألف المقصورة تنحني كقديسة في معبد، وكسرة الخجل التي تتملك المضارع من حين إلى حين..كلّها يا سيّدتي أنوثة لغة ..فبأي عقل تفقهين؟
-
فاطمة بولعناناليوم حرف وغدا حتف
التعليقات
النون خلخال ساحر الرنين ، والتانيث لحن اللغة الذي يرنّ رقيقا كالحنين، ومعالمه تاجها وسحرها . من اين تاتي بالفصاحة كلها؟ .....شكرا لك استاذة فاطمة على هذا اللحن الجميل