ما أبهى لحظات الخلوة والتأمل.. والصمت، حين تنوء النفس بأعباء الحياة.
ما أرقى أن يحررك الآخر، ويعترف بحقك في اختيار الخلوة لتعيد شحن بطاريتك.. ولا يعتبر لحظات تأملك غريما يأخذك منه.. فيحاربه ويؤذيك دون أن يدري...!
ملامسة الذات اعتناء.. التأمل ولحظات السكون رحمة وراحة.. التفكر احتياج.. السهو نافذة أفتحها في لحظة اشتياق إلى نفسي.. وعدم اعتراف الآخرين بحقي المشروع في معانقة ذاتي.. فأختار السهو وأنا بينهم.. وأغيب في عز الحضور.. دون قصد.. ولكنه الاحتياج...!
أدمنت التأمل مذ وعيت على العالم.. وولدت أولى قصاصاتي وخواطري من رحم التأمل وعمري 12 سنة.. وولد معها عشقي للكتابة.. عشق لازمني 7 سنوات بعد ذلك، عشته تمردا.. وغضبا.. وحلما، وتساؤلات جلبت على السخط.. وغضب عباد الأصنام..
احتواني عالم الكتاب والصحفيين في مراهقتي.. لكن-ولغرابتي- وجدته عالما مليئا بالسخف والغباء، وبعدما بدأت أولى قصاصاتي تجد طريقها للنشر.. طلقت عالمهم غير آسفة.. وطلقت الكتابة...!
أحرقت كل أوراقي –ساعتها-على طريقة الهنود.. أحرقتها دون أن أبكي أو يرف لي جفن...!
أجل لقد تلذذت ساعتها بحرقي...! أحرقت كل الكلمات والأحلام.. أحلامي بأن أعيش في عالم أنقى وأطهر.. وأعدل...! أحلامي بألا تنبذني عشيرتي، ولكن كيف السبيل وقد كنت أغرد خارج السرب؟ وأتيه عن المجموع...؟
حين ودعت الأحرف والكلمات .. تعلمت..
تعلمت كيف أقرأ عن العدل والمحبة ولا أرتعش.. كيف أصل إلى السطر الأخير ولا أحلم.. كيف أقرأ الشعر ولا أفنى..
تعلمت كيف أنصت إلى موسيقاي المفضلة ولا أغيب.. كيف أقرأ آهاتها في سياق آخر.. كيف أمنحها فقط نصف عذابي.
ولم أحرق الليالي بعد ذلك شعرا.. أحرقتها في الرياضيات.. وعلوم الصحة.. وتسيير المراكز الاستشفائية، ولم أنم بعد وسط الأحرف والكلمات..
في لحظة أحسست أن الكتابة خطيئتي فتطهرت منها.. وقررت التنفس بعيدا عن الأحرف.. لأعيش...!
وعشت..
استبدلت الكتابة بلحظات تأمل وخلوة.. ولكني ودون وعي مني كتبت...!
كتبت أحلاما.. وزينت حدائق. وأهديتني ورودا، وأقواس قزح.. كتبت دون قلم.. كتبت في كل لحظات عمري..
كتبت وأناخلف المقود، فلم أنتبه أبدا للازدحام ولا لطول المسافة.. كتبت وأنا أرى عيون أطفالي بعد ليالي الألم والمخاض الطويلة.. كتبت وأنا أغادر وطني في حب.. وأستقبل حياتي الجديدة في حب كذلك - وهل لحياتنا القصيرة معنى دون أن نعيش حالة حب مع الأشخاص والأشياء والأمكنة؟ - كتبت وأنا أعيش نجاحاتي وإصراري على الوصول وعلى كتابة تاريخ مشرف لي في هذا البلد.. أنا المرأة المسلمة!
كتبت دون قلم، ودون ورقة.. كتبت حروفا غير قابلة للتدوين.. عشت الكتابة داخل نفسي فقط.. لذلك لم تلوث أحرفي بالتأويلات ولا بسوء الظن، وظلت طاهرة كما أردت لها أن تكون.. لم أسكبها أبدا على الورق. لم أدونها.. فطالها النسيان...!
حكيت لأطفالي حكايات قبل النوم.. حكيتها من أحلامي وخيالاتي.. حكايات أمل وحب وحلم.. أبطالها يرون الفشل تعلما، والتعلم متعة، والتسامح قوة، والتغافل فن، والدين خلق والموت بداية حياة..
إعمال العقل واجب.. والسؤال ليس خطيئة.
أبطالي يخطؤون.. ويفشلون.. ويسقطون.. ويموتون!
ليسوا آلهة.. ولا ملائكة!
جل قصصي لأطفالي كتبتها في ذاكرتهم وأنا أحكيها.. وبدون قلم! كنت وأنا أحكي ألعب معهم لعبة حرية.. وتكسير للقوالب وكل الأصنام التي تربينا على عبادتها.
و..أحب أطفالي قصصي وأبطالي،فكنت كلما هممت أن أقرأ لهم قصة من كتاب في لحظات تعبي ,تبكي صغيرتي وترجوني الحكي بلا كتب..فأحكي..وأكتب في ذاكرتهم بلا أقلام..فأنسى ولا ينسون!
أبدأ ولا أدري إلى أين سيأخذني الحكي والكلام.. والضوء خافت.. والعيون مشدودة إلى تعابير وجهي ونبرات صوتي.. وحركاتي وأنا أتقمص أبطالي، فكتبت دون أن أكتب.. واكتشفت أني طلقت الورقة والقلم، ولم تطلقني الكتابة.. لقد عاشت بداخلي طيلة هاته السنوات...!
وفي ليلة من ليالي الشتاء هذا العام.. بدأت كتاباتي الداخلية ترهقني وتتوق إلى الميلاد.. وكنت في كل مرة أنكره عليها، لم أدر كيف ولكن قلمي استيقظ من رماده كطائرالفينق الذي ثار على الموت.. فانبثق من عظامه.. وكان من رماده.. وطار من عجزه...!
وأنا لا أدري لحد الآن.. أأتركه حرا طليقا.. أم أسجنه في القفص وأكرر على مسامعه:
ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد
دمتم.. ودام جمال أحرفكم رفقتي الطيبة
فوزية لهلال
التعليقات
تحية عطرة و بعد
قلت آنستي او سيدتي عبارة : حين تنوء النفس بأعباء الحياة...
هل فعلا هي لحظات باهية جميلة لديك مثل ما وصفت في بداية الجملة؟
أتمنى أن قلمك لم ينزلق أو ان فكري تاه للحظات..اعيديني من فضلك الى رشدي لو أنه فعلا أعباء الحياة لها رابط بالرضا.
شكرا جزيلا
اما بخصوص الكتابة فهي تعبير وتبصير ، تعبير عن ذواتنا وعن مواقنا وتجاربنا ، وتبصير لمن في نفسه ميل ايجابي او عجز او زيغ او ضلالة او غرور او جهل. أو ..
الكتابة كذلك هي داء ودواء مثل العشق دونه الكآبة الى حدود الهلاك ،وبه سعادة ونشوة تنبعث منها جمالية الحياة ، فلا يستطيع المرء الاستغناء عنها ، واكثر من ذلك ان الانسان يفنى لكن الكلمة منه تبقى ، ولا تبلى الا اذا كانت لا ترقى الى مستوى الخلود ..وهنا تستوقفني المواقف والافكار والاحاسيس التي هي اجدر بان تنشر وان تخلد ليستفيذ منها المقيم والعابر ،والحاضر والغائب .
كما ان الكتابة امانة ومسؤولية ، واعتقد ان يمسك قلما هو أخطر من حامل بندقية، لان صاحب القلم يصدر عن موقف وفكر وقد يكون هو من يصنع فكر وسلوك حامل تلك البندقبة، - وهو لا يشعر بجسامة مسؤوليته - كما انه يمتلك القدرة على ان يجعله يصوبها نحو الحق أو الباطل .
اكتبي وتفتحي وغردي ؛فالورق يشتاق اليك ، والخميلة تنتظر طلوع ريشتك الفاتنة ، والحديقة ترتاح لسماع صدحك .. والقارئ في شوق لهذا الجمال المتدفق .
وفقك الله وخفظك من مل سوء ، وجعل قلمك نديا سخيا .
الاستاذ محمد خلوقي
من مراكش
مقال جداً رائع .. أرجو أن تستمري في الكتابة .
كتاباتك الأنيقة تمتعنا وتعابيرك تأسرنا. أرجوك تابعي الكتابة ولا تحرمينا من حضورك.
كتير حبيت الخاطرة بالتوفيق .
. و ما اكثرما يحتاج المرء منا في مراحل من حياته الي تلك اللحظات التى يخلو بها بنفسه ويتأمل ..ويصمت حتى يتمكن من ملامسة ذاته ومن حق المرء منا ايضا ان يغضب وقد يلجأ الي التمرد على واقعه أحيانا..فبعض من الناس قد يلجأ الي ;لحظات تأمل وخلوة يصحبها نوع من العزلة عن المحيطين به وبعضهم يلجأ الي التنفيس عما بداخله من خلال الكتابة( كثيرون)
ويلا روعة ما تقومي به من (ان نحكى لأطفالنا عن حكايات .. أمل وحب وحلم.. أبطالها يرون الفشل تعلما، والتعلم متعة، والتسامح قوة، والتغافل فن، والدين )
من الافضل ان نترك أقلامنا تكتب وتبقى حرة طليقةولولا ذلك ما كان هذا الابداع الذي قرأناه
الذي تجسد فيما كتبته استاذة فوزية في مقالك الصادق المعبر عن حالة داخلية تحدث لكل منا ويحتاج عندها ان يفراغ تلك الطاقة ....
دمتى ودام جمال أحرفك و رفقتك الطيبة
استاذتنا المبدعة دوما ... فوزية
عادةً عندما يتحدّث أحدٌ عن مخاوفه أو ضعفه يأتيه الرد بأنه يجب أن يكون قوياً واثقاً . لكني أجد هذا الرد عنيفاً , فمن حق الإنسان أن يضعف و يخاف و يعبّر عن ذلك . لذلك فإني أقول لكِ سيدتي لا بأس أن تخافي الكتابة أو تشعري نحوها بهذه المشاعر المتضاربة , لا بأس أن تحرقي كتاباتك إن كان هذا سيريحك . فنحن نكتب كل ننفّس عما بداخلنا من مشاعر و أفكار لا كي نتظاهر بالعكس .
و صدقيني كلما كانت الكتابة موافقة لمشاعر الشخص كلما خرجت صادقة معبّرة . و هذا ما فعلتيه في مقالك هذا : عبّرتي عما بداخلك فخرجت الكلمات صادقة .
شكراً لوجودك بيننا بكتاباتك الرائعة و تعليقاتك الداعمة للجميع . أدامك الله علينا نعمةً كبيرةً .
و كل عام و أنتِ و العائلة الكريمة بخير بمناسبة عيد الفطر المبارك .
لا أعرف لما الدموع تنهمر...ليتنى اعرف.
انك يا سيدتى ..لا اجد ما يصفك..عذرا..لكنك جميلة.اراك جميلة القلب والروح والحس.أحببتك كثيرا من هذه الكلمات التى لامست اوتار قلبي.
لا تحرمينى من كتاباتك..فانا اشعر انها لى وحدى...تحكى عنى وانا التى يعجز قلمها عن البوح. وانا التى وعدت بان الا اكتب لسواه..رغم انه رحل.
شكرا لوجودك هنا.