الأسس الفلسفية لنظرية التربية الطبيعية عند جان جاك روسو - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الأسس الفلسفية لنظرية التربية الطبيعية عند جان جاك روسو

بقلم أ.نجوان ناجي ابراهيم الضبة

  نشر في 22 ديسمبر 2022 .


الملخّص

تنبني منظومة التربية لدى روسو على قاعدة أساسية مفادها أن الطبيعة الإنسانية خيّرة وأن فطرة الإنسان أصل كلّ خيّر. وهذا الموقف يتعارض مع الموقف الذي تبناه الفيلسوف الإنجليزي هوبز وأغلب رجال القرن الثامن عشر ورجال الدين والكنيسة. والتقليد التربوي السائد حينها الذي كان يؤكد على أهمية اقتلاع الشر من النفس الإنسانية بما توفره التربية من أدوات التسلّط والقوّة والقهر. وعلى خلاف هذه الرؤية البائسة المتشائمة للطبيعة الإنسانية، كان روسو يؤمن بخيّرية الطبيعة ويدعو إلى ضرورة توجيه التربية وأفعالها بحسب ما تستوجبه الميولات الطبيعية للطفل ضمانا لنموّ وفق مقصد الطبيعة الذي تجسده التربية الحرة. في ظل هذا الاختلاف ذي الأصل الفلسفي، يحاول هذا العمل تسليط الضوء على بعض الأسس الفلسفية للنظرية التربية الطبيعية عند جان جاك روسو.

المفاهيم المفاتيح: التربية الطبيعية، التربية الحرة، الخيّرية الطبيعية، مقصد الطبيعة، الطبيعة الإنسانية.

مقدمة:

يوصف روسو بكونه زعيما للنزعة الطبيعة في الفلسفة والتربية دون منازع. وقد أودع أفكاره الطبيعية في مختلف أعماله ومؤلفاته بدءا من كتابه الأول: رسالة في العلوم والفنون مرورا بكتابه خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر[1]، ومؤلفه الذي يعرف بإنجيل التربية الحديثة: إميل أو في التربية. وهذه المؤلفات جميعها تشكل نسقا متكاملا من الأفكار. فهي تهم المجتمع والتربية والسياسة والفلسفة وتلعب فيها فكرة الطبيعة الدور المنظّم والموحد. ويعدّ كتاباه: إميل والعقد الاجتماعي أروع ما أهداه روسو لبني البشر[2]. فمن منظور بورجولان Burgellin يشكل كتاب جان جاك روسو إميل أحد مفاتيح حضارتنا الحديثة[3].

الفلسفة التربوية في فكر روسو

يتضمن كتاب روسو إميل منظومة من الأفكار التربوية التي تشكل نظرية متكاملة في التربية حسب الطبيعية وبمقتضاها. ويستهله بقوله: “يخرج كل شيء من يد الخالق صالحا، وكل شيء في أيدي البشر يلحقه الاضمحلال”[4]. وهو بذلك يرسم معالم نظريته الطبيعية في التربية. والتي تلخصها العبارة التالية: الطبيعة خيّرة والإنسان يفسدها. وعلينا أن نؤمن بأن الحركات الأولى للطبيعة هي دوما رشيقة. وما من فساد أصيل في النفس الإنسانية أو في القلب البشري. فالمجتمع عين الشر وينبوعه وعلينا أن نحصن الطفل ضد الشر المستطير الذي يطال الحياة الاجتماعية.

تأسيسا على هذا الحذر الكبير من شرور المجتمع وآثامه يرى روسو أنّ الطبيعة هي أصل الخيّر، منها ننطلق إلى بناء الخيّر في النفوس، فهي وسيلة وغاية في معادلة البناء الإنساني الخيّر. وفي كنفها يجب أن ينمو الأطفال بمنأى عن كل ضروب الإثم والشر. فإميل ابن الطبيعة، وعلى تربيته أن تتمّ وفق قواعد مستمدة من روح الطبيعة، وهذه هي سنة الطبيعة. فلماذا نخرج عليها؟[5] وهذا ما يفسر تمرد روسو على المجتمع منبع الشرور والآثام.

يعتقد روسو أن الطبيعة قادرة بذاتها على تنمية ملكات الطفل[6]. لها أوكلت مهمة التربية. فهي تريد للطفل أن ينمو نموّا حرّا يحترم تكوينه الطبيعي. ويدعونا روسو لمراقبة الطبيعة والنّظر إلى الكيفيّة التي تبيّن لنا النهج الذي ينبغي للتربية اتّباعه مع أطفالنا[7].

إن هدف التربية الطبيعية يتمثل في بناء الإنسان على صورة الطبيعة، أي كما خلقته الطبيعة. وكما تريد له أن يكون. فـالطبيعة تندبه قبل كل شيء للحياة الإنسانية. والحياة هي المهنة التي أريد أن ألقنه إياها. وحين يتخرج من يديّ لن يكون قاضيا أو جنديا أو قسيسا، بل سيكون إنسانا قبل كلّ شيء، بكل ما ينبغي أن يكونه الإنسان، وسيعرف كيف يكونه على الوجه الصحيح ومهما غيرت صروف الأيام من وضعه، فسيكون دائما في موضع الحق[8].

وكثيرا ما وجدنا روسو، وهو يرفع راية أقوال له المأثورة من قبيل: دعوا الطفولة تنمو في الأطفال، دعوا الطبيعة تعمل وحدها زمنا أطول قبل أن تتدخلوا بالعمل مكانها خشية أن تعرقلوا عملها، احترموا الطفولة ولا تتسرعوا أبدا بالحكم عليها خيّرا كان أم شرا. ويستفاد من هذه الدعاوى أن الإيقاع البطيء لزمن النمو ليس شرا نحتمله، بل وظيفة ضرورية للنمو. فـالطبيعة لا تحتاج إلى تربية، والغريزة خيّرة طالما تعمل وحدها. وتصبح مشبوهة عندما تتدخل المؤسسات الإنسانية. وينبغي علينا أن ننظمها لا أن نقضي عليها. وقد يكون تنظيمها أصعب من تدميرها.

تتضمن التربية الطبيعة عند روسو فيضا متدفقا بالحب والحنان على الطفولة والأطفال. وفي حنانه هذا دعوة للانتباه إلى الطفولة المقهورة، وصرخة إنسانية تدعو إلى محبة الأطفال والعناية بهم. يقول روسو قولا يتدفق بأعظم معاني الحنان والحبّ للطفولة والأطفال، وهو: “أحبوا الطفولة، وارعوا في مودة لهوها وملذّاتها وطبيعتها اللّطيفة… من منكم لم يتحسر أحيانا على تلك المرحلة من العمر حينما كانت الشفاه لا تعرف إلاّ الضّحكات، والنفوس لا تعرف إلا الطمأنينة والأمن والسلام؟ لماذا إذن تريدون أن تنزعوا من هؤلاء الصغار الأبرياء استمتاعهم بفترة قصيرة من العمر سرعان ما تنقضي كأنّها سنة من وسن؟ ولماذا تريدون أن تحرموهم من خيّر ليس له نظير ولا يمكن أن يسيئوا التمتع به؟ لماذا تريدون أن تحشدوا في تلك السنوات القلائل في بكرة العمر عصارة الآلام والمرارة وأنتم تعلمون أنهم لن يستطيعوا تعويض ما فات بدليل أنكم لا تستطيعون الارتداد إلى طفولتكم؟ أتعلمون أيها الآباء اللحظة التي يتربص فيها الموت بأولادكم؟ لا تمهدوا إذن ولا تزرعوا حسراتكم بأيديكم وأنتم تحرمونهم من اللحظات السعيدة الضئيلة التي تمنحهم الطبيعة إياها. يجب عليكم متى استطاع أبناؤكم أن يشعروا بذواتهم، أن تجعلوهم يستمتعون بحياتهم حتى إذا شاءت إرادة الله أن يدعوهم إليه، لا يموتون من غير أن يتذوقوا لذة الحياة”[9].

ويمكن تحديد أهم المبادئ الأساسية لطبيعة الطفولة التي تنبّه إليها التربية عند روسو كالتالي:

 طبيعة الطفل خيّرة.

 التأكيد على تجربة الطفل الخاصة في اكتساب المعرفة واستبعاد دور المعلم ما أمكن ذلك.

 تقسيم التربية إلى مراحل تتناسب مع عمر الأطفال.

 طبيعة الطفل هي التي توجه التربية وأفعالها.

 العمل على فهم طبيعة الطفل ودراستها ورصد مكوناتها لكي تستقيم العملية التربوية.

 يجب احترام ميول الطفل الطبيعية وتنميتها وفقا لمبدأ التربية السلبية.

التربية السلبية أو التربية الحرة:

ينطوي مفهوم التربية السلبية عند روسو على شحنة ثورية هائلة ويقين ثابت بمبدأ الحرية الإنسانية. وتتجلى هذه التربية السلبية في رفض كل أشكال الإكراه والتسلط والقهر والعبودية التي تنبث في عادات الناس وتتجذّر في تصوراتهم وممارساتهم الإنسانية والتربوية.

يعتقد روسو أن الحكمة البشرية ذاتها لا تنطوي إلا على تحكمات استعبادية، فعاداتنا لا تعدو أن تكون إذلالا واستعبادا، وكبتا وألما فالرجل المتمدن يولد ويعيش ويموت في رق العبودية، حين يولد يوثقونه بقماط، وحين يموت يسمرون عليه تابوتا، ومادام على وجه الدنيا، فهو مكبل بشتى النظم[10]. ولما كان الأمر كذلك وجب على التربية أن تكون وسيلة لتخليص الإنسان من هذه القيود. فالتربية الأولى التي تقدم للطفل يجب أن تكون سلبية وهي لا تكون بالتلقين لمبادئ الفضيلة، ولكن قوامها المحافظة على القلب من الرذيلة والعقل من الزلل. فالتربية الحقّ هي التي تسعف الطفل على تحقيق نمو حرّ طليق لطبيعته وقواه الداخلية وميولاته الفطرية.

إن التربية المنشودة ليست نفيا لضرورة التربية، بل هي رفض للأساليب والأشكال التربوية التقليدية السائدة التي تزكي العبودية والإكراه. فالتربية السلبية هي التربية الحرة التي تترك للطفل فرصة النمو بمقتضى فطرته وطبيعته الخيّرة. إنها التربية التي تتيح نموا روحيا وعقليا ونفسيا، نموا حرا أصيلا خارج دوائر الاكراه والتسلط والقهر التي تنتفي بإقدار الأطفال على أن يتعلموا العمل بأنفسهم، لا أن يحملوا الآخرين على العمل لهم. وهكذا يتعودون منذ البداية أن تكون رغباتهم على قدر قواهم ويشعرون شعورا لا مبالغة فيه بأن الحرمان ممّا ليس في متناول اليد أمر طبيعي لا يتسم بسمات الفجيعة والتحسر[11]. وهذا التوجّه لدى روسو فيه إقرار برفض التربية السائدة التي تفقد الإنسان براءته وأصالته لأنّها تستأصل قدرته على المبادهة وعلى العيش وفق قانون الطبيعة.

يقر روسو في معرض وصفه للتربية الإيجابية، بأن هذه الأخيّرة تساعد على تكوين العقل قبل الأوان كما تلقن الطفل[12] واجبات الرجال تلقينا وتضحي بحاضر الطفل لصالح مستقبل المجتمع. وهي التربية التي يصفها روسو بالتربية الهمجية حين يقول: “فما القول إذن في تلك التربية الهمجية التي تضحي بالحاضر القائم في سبيل مستقبل مجهول غير مضمون، وهي تربية تكبل الطفل بالأغلال من جميع الأنواع والأشكال. وتبدأ بأن تجعله شقيا في طفولته لكي تعده لمستقبل بعيد تزعم أنه سيكون سعيدا. مع أنه ربّما لن يصل إليه مطلقا”[13]. ولا ينبغي أن نفهم أن التربية السلبية هي حالة من السكون والكسل والخمول، بل هي نوع من التربية الحرة التي لا تسبب الفضيلة، ولكنها تحمي القلب من الرذيلة، أي أنها تحفظ الطبيعة في الطفل. وعلى خلاف ما هو معهود وسائد في عصره، يؤكد روسو على أن التربية الحقّ هي التربية التي تنصت لصوت الطبيعة وتساير نبض إيقاعها الداخلي وتترك الفرصة للطفولة لكي تمارس الحرية الطبيعية، تلك الحرية التي تبعد الأطفال ولو إلى حين عن الرذائل التي نصاب بها تحت نير العبودية[14].

التربية السلبية تعني باختصار أن نحقق للطفل نموا طبيعيا بعيدا عن تدخل الراشدين وعبثهم. وكأن روسو بهذا التوجّه يميل إلى الاستغناء عن المربّي كليا، ويوكل مهمة تربية الطفل إلى الطبيعة ذاتها، ويضع الطفل في صدام مستمر مع الحياة بتجاربها وعبثها ومفارقاتها. فوظيفة المربي لا تكاد تتجاوز حدود الإشراف على إميل عن بعد، وهو ليس مطالبا بالتدخل إلاّ حينما تقتضي الضرورة القصوى ذلك. وليس على المربي أن يحتسب الزمن والوقت في عملية نموّ الطفل وتربيته، بل يجب عليه أن يبدّد الزمن ليفسح المجال لإميل لكي يختمر ويتكون. فكلّما كان نضجه يتم وفق إيقاعه الخاص، كلّما كان ذلك في مصلحة البناء والتكوين والإعداد التربوي. والقاعدة التي يعلنها روسو في هذا الصدد هي أنه ليس المهم في التربية أن نربح الوقت بل أن نضيعه.

وانطلاقا من مقولة روسو بأن الطبيعة خيّرة وأن المجتمع يفسدها فإن مفهوم التربية السلبية يرتكز على أمرين أساسيين:

 حماية إميل من الفساد الاجتماعي وإبعاده تربويا عن سطوة الراشدين وتدخلهم المباشر في التربية.

 مجاراة التطور الطبيعي في الطفل، لأنه يمتلك شرط نموه طبيعيا وهو ينمو وفقا لمبدأ القانونية الطبيعية.

وتنطوي التربية السلبية على ثلاثة جوانب لمفهوم الحرية الطبيعة:

أولا: الحرية الجسدية التي توفر للطفل كل ما يحتاجه من إيقاعات النمو الجسدي الحر، والذي يأخذ مساره عبر النشاطات والفعاليات والألعاب وترك الحرية للجسد. فالأطفال يحتاجون إلى أن يقفزوا ويجروا ويصيحوا كلما راق لهم ذلك وجميع حركاتهم هذه إنما هي في الواقع احتياجات بدنهم وتكوينهم الذي يريد أن يتقوى بالنشاط والرياضة[15]. وهنا يجب رفض كلّ ما من شأنه أن يقيد حرية الطفل الجسدية. وهو الأمر الذي يفسر رفض روسو للقماط وهجومه العنيف على الأساليب التربوية التي تمنع الطفل من إمكانيات الحركة والقفز والانطلاق واللعب، وغير ذلك من هذه الحريات الجسدية الضرورية لنمو الطفل. كان روسو يعتقد بأنه لا يمكن للمرء أن يكون حرا بجسد مهزوم محاصر، لأن الحرية معطى طبيعي لا يقبل التجزئة والانشطار. ولا يمكن لإنسان ما أن يكون حرّا في المستوى العقلي أو العاطفي بجسد مهزوم ومحاصر.

ثانيا: الحرية العاطفية والانفعالية: إذ يتوجب إبعاد إميل عن كل ما من شأنه أن يفرض على الطفل من مشاعر مقننة وعواطف جاهزة. فالتطور الطبيعي الانفعالي للطفل ينبغي أن يتم بإطلاق العنان لمشاعره الداخلية، لتنمو نموّا يتوافق والاندفاعات النابعة من أحاسيس الطفل وتجربته ومشاعره، وتلك هي الخصوصية التي يجب ألا تتعرض لعدوان الراشدين وتسلطهم.

إن التدخل في توجيه النمو العاطفي والانفعالي هو قمع للروح الداخلية للطفل، وهو إكراه يتجاوز كلّ إكراه، لأن الروح، وهي أعمق وأقدس ما في الإنسان، يجب أن تُترك حرة أصيلة رشيقة كما أرادتها الطبيعة. فالأطفال ينبغي لهم أن يتذوقوا العالم عبر إحساسهم الإنساني بعيدا عن كل أشكال التسلط والإكراه. فللطفل الحقُّ في أن يشعر بالحرية وأن يمارسها، وأن يحب ويكره، ويغضب ويتسامح بحكم مشاعره الداخلية وعلى منوال ما تفرضه روحه الداخلية.

ثالثا: الحرية العقلية: ليس لنا أو علينا أن نفرض على عقل الطفل ما لا يحتمل وما لا يستسيغ. فالطفل يعيش حالة من الاغتراب الحقيقي عندما نفرض على عالمه الصغير رؤانا ومعتقداتنا. ونعلمهم وبصورة مبكرة ما نرغب فيه من العلوم والمعارف. وهو ما يتنافى وغاية الطبيعة التي شاءت أن يكون الأطفال أطفالا قبل أن يصبحوا رجالا. فإن كنا نريد أن نقلب هذا الوضع. فسوف ننتج ثمارا قبل أوانها، ليس فيها نضوج ولا نكهة، ولا تلبث هذه الثمار الفجّة أن يدبّ إليها الفساد، فنحصل مثلا على علماء شبان هم في الواقع أطفال مسنون[16].

إن التعليم المبكر يقضّ مضاجع الأطفال ويحرمهم من عطاء الطبيعة بوصفهم أطفالا. والتربية الطبيعية وفقا لمفهوم روسو لا تعير قيمة لعامل الوقت، فهي ترى في تجاهل ربحه عملية استثمار عظيمة، لأنّ كل لحظة تبدّد في سبيل التربية، تجد مردودها العظيم في التكوين الخلقي والإنساني للطفل. فعقله يكون في مرحلة التكوين الأوّلي، وهو الملكة الإنسانية التي تنضج متأخرة. وفي النموذج التربوي لروسو يراد للطفل أن يكون قادرا على تشكيل رؤاه الخاصة للعالم، وألاّ يقبل إلا ما يراه صحيحا بمقتضى طبيعته.

ينادي روسو بألاّ نهتم بالإعداد العقلي للطّفل حتّى بعد سنّ الثانية عشرة، لأنّ فترة الطفولة هي فترة الركود العقلي وهي مرحلة كمون لا نستطيع أن نتصوّر مدى أهميتها، ولذلك يجب ألا ندفع الطفل الى التفكير ولا إلى القراءة أو إلى بذل أيّ مجهود عقلي في هذه المرحلة.

تعتمد التربية السّلبية على قانون الجزاء الطبيعي، بحيث ندع الطفل يتحمّل النتائج الطبيعية المترتبة عن أعماله دون تدخل أيّ إنسان. ويرى روسو في ذلك أنّ المربي يمكنه أن يقوّم أخلاق الطفل بأنْ يبيّن له أنّ العقوبة كانت طبيعية. والمثال على ذلك: إذا أبطأ الطفل في ارتداء ملابسه للخروج للنزهة فاتركه في المنزل. وإذا أفرط في الأكل أتركه يعاني ألم التّخمة. وباختصار دعه يتحمّل النتائج الطبيعية لعدم خضوعه لقوانين الطبيعة.

وباختصار، التربية السلبية لا تعني نفيا للتربية، بل هي تربية حرة تتوافق مع الطبيعة وقانونها. وإذا كانت التربية الإيجابية تسعى إلى تكوين النفس قبل الأوان، فإن التربية السلبية تسعى إلى تعبيد طريق المعرفة وجعل أدواتها جاهزة قبل إعطاء المعرفة. إنها التربية التي تسعى إلى تحقيق التوازن بين نمو العضوية والوجدان والعقل عند الأطفال. وهي تنطلق من مبدأ النمو الذاتي الحر لطبيعة الطفل.

على سبيل الختم:

لقد أحدث روسو انقلابا فكريا في عصره وفي العصور التي تتابعت بعده. ولا غرابة في ذلك، فهو مؤسس التربية الحديثة وصاحب أكثر النظريات التربوية عبقرية وغرابة. وممّا يثير الدهشة هو أنّ علم النفس الحديث والنظريات التربوية الحديثة قد استجابت لاندفاعات روسو العبقرية الجامحة المتمرّدة. ولم تستطع الانتقادات التي وجهها العلماء والمفكرون والكتاب لنظريته التربوية والاجتماعية أن تنال من قيمتها. صحيح أنّ مظاهر النظرية قد تبدو غريبة مستغربة، ولكن جوهرها الإنساني ما زال يحلق في الأجواء الشامخة.

لقد وضع روسو حجر الزاوية لانقلاب فكري تربوي ثوري أتى على كل التراث القديم في مجال التربية، وأحدث انقلابا كوبرنيكيا في المفاهيم والرؤى والتصوّرات. وستبقى نظريته في التربية شاهدة على عمقها الإنساني. فجان جاك روسو ظهر إذن، كزعيم لحركة تربوية استلهمت روحها من الحركة الطبيعية التي تدعو إلى أخذ الطفل بما يوافق ميوله وطبائعه، وتشجيع وتنمية قدراته وإفساح المجال لنموها وفق المرتكزات التالية:

 الإيمان ببراءة الطفل: وهو تأكيد لاعتقاده بخيرية الطبيعة البشرية، إنه يذكر أن الإنسان ابن الخطيئة بمعنى الإيمان بأن طبيعة الطفل الأصلية طبيعة خيّرة، فهو ينفي وجود الخطيئة الأصلية التي هي إحدى العقائد المسيحية. ويرى أن ما يلحق الطفل من فساد إنما يأتيه من البيئة الفاسدة وليس من فطرته الأصلية.

 الإعلاء من شأن الطبيعة: فالطبيعة يتعلم منها الإنسان ما يحتاج، والتربية الصحيحة هي السير وفق قوانينها بمعنى احترام دور الطبيعة في تربية النشء، حيث يرى روسو أن تربية الطفل حصيلة عوامل ثلاثة:

 العامل الأول: الطبيعة ويعني بها هنا النمو الداخلي لأعضاء الطفل وخاصة بدنه وحواسه.

 العامل الثاني: هم الناس أو ما يفعله الطفل مع الآخرين.

 العامل الثالث: هي الأشياء أو ما يكتسبه الطفل من اختباره للأشياء التي حوله.

وتقتضي التربية الطبيعية بأن نجعل من العاملين الثاني والثالث مكمّلين للعامل الأول. ويتحقق ذلك باحترام دوافع الطفل الفطرية، أو بالعمل على تحرير قواه بدلا من تعطيلها وتحريفها بإخضاعها للنظم الاجتماعية، ثم بأن نتيح له أكبر قدر ممكن من الاحتكاك بمظاهر الطبيعة المادية لكي يجد فيها الأجوبة على تساؤلاته.

 مبدأ الحرية: ترك الطفل يتدبر أمره بنفسه، وهو ما سيحمله على التفكير واكتشاف المفاهيم والحقائق، وعلى المربي أن يخلق مأزقا للطفل، ثم يترك له الحرية للخروج من المأزق، وبهذا تتمّ عملية التعلم التلقائي الرّاسخ.

 مبدأ التربية السلبية: أي ألاّ نعلم الطفل شيئا لا يطلب تعلمه، فنترك له الحرية في الحركة والاحتكاك واكتشاف الخبرة العملية والابتعاد عن الدروس اللفظية.

 الإيمان بميول الطفل وحاجاته: الطفل هو محور التربية فمن حق الطفل أن يعيش طفولته، وليس من حق الكبار أن يفرضوا عليه نمط الحياة الذي يريدونه لأنّ في ذلك تشويها لنموه الطبيعي.

 إنّ الهدف الأسمى للتربية هو تحقيق النزعات الطيبة وتعميقها في الطبيعة البشرية من خلال المؤسسات الاجتماعية.

 يولد الإنسان كائنا طيّبا ولكنّ فساد المجتمع هو الذي يفسد طبيعته البشرية.

 الطبيعة البشرية مثل النبات الذي لا بد أن نرعاه ونهتم به. وهذه هي مهمّة المربي.

 لنا ثلاثة معلمين، هم: الطبيعة والإنسان والأشياء. الطبيعة تعلّمنا عن طريق النمو الداخلي وعن طريق الألم والمعاناة. والرجل يعلمنا أو يجب أن يعلمنا كيف نستفيد ممّا نتعلمه من الطبيعة. بينما الأشياء تزيدنا خبرة.

 يجب أن تكون الدروس التي نتعلمها من هذه الجهات الثلاث متناغمة وغير متصارعة أو متنافرة فيما بينها.

 لا سيطرة لنا على ما تعطينا إياه الطبيعة. فغرضنا هو الغرض الذي تحدّده لنا الطبيعة.

 يجب أن تنسجم مشاعرنا وخيالنا وقدراتنا الذهنية مع ميولنا الطبيعية.

 يجب أن نحترم براءة الأطفال. ويجب أن نسمح لهم بأن يستمتعوا بطفولتهم وأن يعيشوها.

 يجب أن يتعلم الأطفال الاعتماد على النفس، وكلما ازدادت قدرتهم للاعتماد على أنفسهم قلّ اعتمادهم على الآخرين.

 يجب أن يختبر الأطفال المعاناة بشكل يمهّد لهم السبيل أن يعيشوا الحياة بشكل كامل.

 لا ينبغي توبيخ الأطفال أكثر مما يجب، فهذا يجعلهم كالعبيد. ولا التّسامح معهم أكثر مما يجب، فهذا يجعلهم مستبدّين.

 لا تستعمل مشاعر دنيئة في تربية الأطفال، مثل الخوف والحسد والجشع والغيرة كوسائل لتربية الأطفال.

 ينبغي تشجيع الأطفال على التعلم عن طريق الخبرة، وتجنب الدروس المباشرة.

إن النتائج المتوصل إليها آنفا تسمح لنا باستنباط نتيجة مهمّة مفادها أنّ الانخراط الفعال للفرد في الحياة بمختلف مجالاتها الاجتماعية والسياسية والمعرفية والأخلاقية… مشروط بطبيعة التربية التي تلقّاها في مختلف مراحل نموه، إذ لا يمكن في نظر روسو أن تبدأ التربية بما تطلبه في رسم غاياتها: الانخراط الفعال في المجتمع، بل إنّ تحصيل هذه الغاية يفرض البدء بتنمية الطفل وطبيعته على نحو يوافق غايات الطبيعة فيه، والتي يراها روسو الضمانة الوحيدة لهذا الانخراط. وعليه تصير كلّ تربية موجهة ومحكومة بغايات المجتمع غير صالحة لإعداد الطفل للحياة. فالحاضر سابق على المستقبل، والفرد سابق على المجتمع. وكلما أذكينا الطبيعة في الفرد كلما كان قادرا على التكيف مع المجتمع ومتطلباته بفعل التوازن الداخلي الذي يتمتّع به.

إذا كان روسو ينتقد التربية التقليدية وأساليبها لكونها تتّخذ من المجتمع وغاياته منطلقا لها في تغييب صريح للطفل (الفرد) وطبيعته، فإنه في نظريته التربوية قد قلب المعادلة، وجعل من الطفل (الفرد) وطبيعته الخيّرة منطلقا لكلّ تربية.

هذا القلب يضع المنظومة التربوية لدى روسو أمام تساؤلات مشروعة، نورد ما يهمنا منها على النحو الآتي:

 إذا كان الاجتماع غير طبيعي في الإنسان، فكيف لتربية تذكّي الطبيعة في الفرد أن تضمن لنا الانخراط في الحياة الاجتماعية، بمعنى آخر ألا تبعد التربية الطبيعية الفرد عن كل اجتماع؟

 إذا كانت الطبائع في الناس مختلفة فهذا يعني أن التربية تزكّي هذا الاختلاف وتغذّيه لتتوسّع دائرته، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف لتربية كهذه أن تحفّز الأفراد على العيش المشترك.

إن طرح هذه الأسئلة لا يعبّر عن رغبة أو عن دعوة لتبيان جوانب القصور والتناقض في أطروحة روسو أو البحث عن أجوبة لها، بقدر ما نبتغي من ذلك التنبيه عليها لتحييدها وإخراجها من دائرة اهتمامات هذا العمل. وهو الذي أردنا له الوقوف على جوانب من نظرية روسو التربوية التي اهتمت بطبيعة الطفل، وجعل التربية آلية لخدمة غاية الطبيعة ومقصدها. فحاضر الطفل أسبق من مستقبله ومصير المجتمع مادامت الطبيعة تطلب أن يكونوا أطفالا قبل أن يصبحوا رجالا. بهذا يكون روسو مكتشف قارة الطفولة قد ترك آثارا لا تمحى في حقل التربية ونظرياتها.

الملخّص

تنبني منظومة التربية لدى روسو على قاعدة أساسية مفادها أن الطبيعة الإنسانية خيّرة وأن فطرة الإنسان أصل كلّ خيّر. وهذا الموقف يتعارض مع الموقف الذي تبناه الفيلسوف الإنجليزي هوبز وأغلب رجال القرن الثامن عشر ورجال الدين والكنيسة. والتقليد التربوي السائد حينها الذي كان يؤكد على أهمية اقتلاع الشر من النفس الإنسانية بما توفره التربية من أدوات التسلّط والقوّة والقهر. وعلى خلاف هذه الرؤية البائسة المتشائمة للطبيعة الإنسانية، كان روسو يؤمن بخيّرية الطبيعة ويدعو إلى ضرورة توجيه التربية وأفعالها بحسب ما تستوجبه الميولات الطبيعية للطفل ضمانا لنموّ وفق مقصد الطبيعة الذي تجسده التربية الحرة. في ظل هذا الاختلاف ذي الأصل الفلسفي، يحاول هذا العمل تسليط الضوء على بعض الأسس الفلسفية للنظرية التربية الطبيعية عند جان جاك روسو.

المفاهيم المفاتيح: التربية الطبيعية، التربية الحرة، الخيّرية الطبيعية، مقصد الطبيعة، الطبيعة الإنسانية.

مقدمة:

يوصف روسو بكونه زعيما للنزعة الطبيعة في الفلسفة والتربية دون منازع. وقد أودع أفكاره الطبيعية في مختلف أعماله ومؤلفاته بدءا من كتابه الأول: رسالة في العلوم والفنون مرورا بكتابه خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر[1]، ومؤلفه الذي يعرف بإنجيل التربية الحديثة: إميل أو في التربية. وهذه المؤلفات جميعها تشكل نسقا متكاملا من الأفكار. فهي تهم المجتمع والتربية والسياسة والفلسفة وتلعب فيها فكرة الطبيعة الدور المنظّم والموحد. ويعدّ كتاباه: إميل والعقد الاجتماعي أروع ما أهداه روسو لبني البشر[2]. فمن منظور بورجولان Burgellin يشكل كتاب جان جاك روسو إميل أحد مفاتيح حضارتنا الحديثة[3].

الفلسفة التربوية في فكر روسو

يتضمن كتاب روسو إميل منظومة من الأفكار التربوية التي تشكل نظرية متكاملة في التربية حسب الطبيعية وبمقتضاها. ويستهله بقوله: “يخرج كل شيء من يد الخالق صالحا، وكل شيء في أيدي البشر يلحقه الاضمحلال”[4]. وهو بذلك يرسم معالم نظريته الطبيعية في التربية. والتي تلخصها العبارة التالية: الطبيعة خيّرة والإنسان يفسدها. وعلينا أن نؤمن بأن الحركات الأولى للطبيعة هي دوما رشيقة. وما من فساد أصيل في النفس الإنسانية أو في القلب البشري. فالمجتمع عين الشر وينبوعه وعلينا أن نحصن الطفل ضد الشر المستطير الذي يطال الحياة الاجتماعية.

تأسيسا على هذا الحذر الكبير من شرور المجتمع وآثامه يرى روسو أنّ الطبيعة هي أصل الخيّر، منها ننطلق إلى بناء الخيّر في النفوس، فهي وسيلة وغاية في معادلة البناء الإنساني الخيّر. وفي كنفها يجب أن ينمو الأطفال بمنأى عن كل ضروب الإثم والشر. فإميل ابن الطبيعة، وعلى تربيته أن تتمّ وفق قواعد مستمدة من روح الطبيعة، وهذه هي سنة الطبيعة. فلماذا نخرج عليها؟[5] وهذا ما يفسر تمرد روسو على المجتمع منبع الشرور والآثام.

يعتقد روسو أن الطبيعة قادرة بذاتها على تنمية ملكات الطفل[6]. لها أوكلت مهمة التربية. فهي تريد للطفل أن ينمو نموّا حرّا يحترم تكوينه الطبيعي. ويدعونا روسو لمراقبة الطبيعة والنّظر إلى الكيفيّة التي تبيّن لنا النهج الذي ينبغي للتربية اتّباعه مع أطفالنا[7].

إن هدف التربية الطبيعية يتمثل في بناء الإنسان على صورة الطبيعة، أي كما خلقته الطبيعة. وكما تريد له أن يكون. فـالطبيعة تندبه قبل كل شيء للحياة الإنسانية. والحياة هي المهنة التي أريد أن ألقنه إياها. وحين يتخرج من يديّ لن يكون قاضيا أو جنديا أو قسيسا، بل سيكون إنسانا قبل كلّ شيء، بكل ما ينبغي أن يكونه الإنسان، وسيعرف كيف يكونه على الوجه الصحيح ومهما غيرت صروف الأيام من وضعه، فسيكون دائما في موضع الحق[8].

وكثيرا ما وجدنا روسو، وهو يرفع راية أقوال له المأثورة من قبيل: دعوا الطفولة تنمو في الأطفال، دعوا الطبيعة تعمل وحدها زمنا أطول قبل أن تتدخلوا بالعمل مكانها خشية أن تعرقلوا عملها، احترموا الطفولة ولا تتسرعوا أبدا بالحكم عليها خيّرا كان أم شرا. ويستفاد من هذه الدعاوى أن الإيقاع البطيء لزمن النمو ليس شرا نحتمله، بل وظيفة ضرورية للنمو. فـالطبيعة لا تحتاج إلى تربية، والغريزة خيّرة طالما تعمل وحدها. وتصبح مشبوهة عندما تتدخل المؤسسات الإنسانية. وينبغي علينا أن ننظمها لا أن نقضي عليها. وقد يكون تنظيمها أصعب من تدميرها.

تتضمن التربية الطبيعة عند روسو فيضا متدفقا بالحب والحنان على الطفولة والأطفال. وفي حنانه هذا دعوة للانتباه إلى الطفولة المقهورة، وصرخة إنسانية تدعو إلى محبة الأطفال والعناية بهم. يقول روسو قولا يتدفق بأعظم معاني الحنان والحبّ للطفولة والأطفال، وهو: “أحبوا الطفولة، وارعوا في مودة لهوها وملذّاتها وطبيعتها اللّطيفة… من منكم لم يتحسر أحيانا على تلك المرحلة من العمر حينما كانت الشفاه لا تعرف إلاّ الضّحكات، والنفوس لا تعرف إلا الطمأنينة والأمن والسلام؟ لماذا إذن تريدون أن تنزعوا من هؤلاء الصغار الأبرياء استمتاعهم بفترة قصيرة من العمر سرعان ما تنقضي كأنّها سنة من وسن؟ ولماذا تريدون أن تحرموهم من خيّر ليس له نظير ولا يمكن أن يسيئوا التمتع به؟ لماذا تريدون أن تحشدوا في تلك السنوات القلائل في بكرة العمر عصارة الآلام والمرارة وأنتم تعلمون أنهم لن يستطيعوا تعويض ما فات بدليل أنكم لا تستطيعون الارتداد إلى طفولتكم؟ أتعلمون أيها الآباء اللحظة التي يتربص فيها الموت بأولادكم؟ لا تمهدوا إذن ولا تزرعوا حسراتكم بأيديكم وأنتم تحرمونهم من اللحظات السعيدة الضئيلة التي تمنحهم الطبيعة إياها. يجب عليكم متى استطاع أبناؤكم أن يشعروا بذواتهم، أن تجعلوهم يستمتعون بحياتهم حتى إذا شاءت إرادة الله أن يدعوهم إليه، لا يموتون من غير أن يتذوقوا لذة الحياة”[9].

ويمكن تحديد أهم المبادئ الأساسية لطبيعة الطفولة التي تنبّه إليها التربية عند روسو كالتالي:

 طبيعة الطفل خيّرة.

 التأكيد على تجربة الطفل الخاصة في اكتساب المعرفة واستبعاد دور المعلم ما أمكن ذلك.

 تقسيم التربية إلى مراحل تتناسب مع عمر الأطفال.

 طبيعة الطفل هي التي توجه التربية وأفعالها.

 العمل على فهم طبيعة الطفل ودراستها ورصد مكوناتها لكي تستقيم العملية التربوية.

 يجب احترام ميول الطفل الطبيعية وتنميتها وفقا لمبدأ التربية السلبية.

التربية السلبية أو التربية الحرة:

ينطوي مفهوم التربية السلبية عند روسو على شحنة ثورية هائلة ويقين ثابت بمبدأ الحرية الإنسانية. وتتجلى هذه التربية السلبية في رفض كل أشكال الإكراه والتسلط والقهر والعبودية التي تنبث في عادات الناس وتتجذّر في تصوراتهم وممارساتهم الإنسانية والتربوية.

يعتقد روسو أن الحكمة البشرية ذاتها لا تنطوي إلا على تحكمات استعبادية، فعاداتنا لا تعدو أن تكون إذلالا واستعبادا، وكبتا وألما فالرجل المتمدن يولد ويعيش ويموت في رق العبودية، حين يولد يوثقونه بقماط، وحين يموت يسمرون عليه تابوتا، ومادام على وجه الدنيا، فهو مكبل بشتى النظم[10]. ولما كان الأمر كذلك وجب على التربية أن تكون وسيلة لتخليص الإنسان من هذه القيود. فالتربية الأولى التي تقدم للطفل يجب أن تكون سلبية وهي لا تكون بالتلقين لمبادئ الفضيلة، ولكن قوامها المحافظة على القلب من الرذيلة والعقل من الزلل. فالتربية الحقّ هي التي تسعف الطفل على تحقيق نمو حرّ طليق لطبيعته وقواه الداخلية وميولاته الفطرية.

إن التربية المنشودة ليست نفيا لضرورة التربية، بل هي رفض للأساليب والأشكال التربوية التقليدية السائدة التي تزكي العبودية والإكراه. فالتربية السلبية هي التربية الحرة التي تترك للطفل فرصة النمو بمقتضى فطرته وطبيعته الخيّرة. إنها التربية التي تتيح نموا روحيا وعقليا ونفسيا، نموا حرا أصيلا خارج دوائر الاكراه والتسلط والقهر التي تنتفي بإقدار الأطفال على أن يتعلموا العمل بأنفسهم، لا أن يحملوا الآخرين على العمل لهم. وهكذا يتعودون منذ البداية أن تكون رغباتهم على قدر قواهم ويشعرون شعورا لا مبالغة فيه بأن الحرمان ممّا ليس في متناول اليد أمر طبيعي لا يتسم بسمات الفجيعة والتحسر[11]. وهذا التوجّه لدى روسو فيه إقرار برفض التربية السائدة التي تفقد الإنسان براءته وأصالته لأنّها تستأصل قدرته على المبادهة وعلى العيش وفق قانون الطبيعة.

يقر روسو في معرض وصفه للتربية الإيجابية، بأن هذه الأخيّرة تساعد على تكوين العقل قبل الأوان كما تلقن الطفل[12] واجبات الرجال تلقينا وتضحي بحاضر الطفل لصالح مستقبل المجتمع. وهي التربية التي يصفها روسو بالتربية الهمجية حين يقول: “فما القول إذن في تلك التربية الهمجية التي تضحي بالحاضر القائم في سبيل مستقبل مجهول غير مضمون، وهي تربية تكبل الطفل بالأغلال من جميع الأنواع والأشكال. وتبدأ بأن تجعله شقيا في طفولته لكي تعده لمستقبل بعيد تزعم أنه سيكون سعيدا. مع أنه ربّما لن يصل إليه مطلقا”[13]. ولا ينبغي أن نفهم أن التربية السلبية هي حالة من السكون والكسل والخمول، بل هي نوع من التربية الحرة التي لا تسبب الفضيلة، ولكنها تحمي القلب من الرذيلة، أي أنها تحفظ الطبيعة في الطفل. وعلى خلاف ما هو معهود وسائد في عصره، يؤكد روسو على أن التربية الحقّ هي التربية التي تنصت لصوت الطبيعة وتساير نبض إيقاعها الداخلي وتترك الفرصة للطفولة لكي تمارس الحرية الطبيعية، تلك الحرية التي تبعد الأطفال ولو إلى حين عن الرذائل التي نصاب بها تحت نير العبودية[14].

التربية السلبية تعني باختصار أن نحقق للطفل نموا طبيعيا بعيدا عن تدخل الراشدين وعبثهم. وكأن روسو بهذا التوجّه يميل إلى الاستغناء عن المربّي كليا، ويوكل مهمة تربية الطفل إلى الطبيعة ذاتها، ويضع الطفل في صدام مستمر مع الحياة بتجاربها وعبثها ومفارقاتها. فوظيفة المربي لا تكاد تتجاوز حدود الإشراف على إميل عن بعد، وهو ليس مطالبا بالتدخل إلاّ حينما تقتضي الضرورة القصوى ذلك. وليس على المربي أن يحتسب الزمن والوقت في عملية نموّ الطفل وتربيته، بل يجب عليه أن يبدّد الزمن ليفسح المجال لإميل لكي يختمر ويتكون. فكلّما كان نضجه يتم وفق إيقاعه الخاص، كلّما كان ذلك في مصلحة البناء والتكوين والإعداد التربوي. والقاعدة التي يعلنها روسو في هذا الصدد هي أنه ليس المهم في التربية أن نربح الوقت بل أن نضيعه.

وانطلاقا من مقولة روسو بأن الطبيعة خيّرة وأن المجتمع يفسدها فإن مفهوم التربية السلبية يرتكز على أمرين أساسيين:

 حماية إميل من الفساد الاجتماعي وإبعاده تربويا عن سطوة الراشدين وتدخلهم المباشر في التربية.

 مجاراة التطور الطبيعي في الطفل، لأنه يمتلك شرط نموه طبيعيا وهو ينمو وفقا لمبدأ القانونية الطبيعية.

وتنطوي التربية السلبية على ثلاثة جوانب لمفهوم الحرية الطبيعة:

أولا: الحرية الجسدية التي توفر للطفل كل ما يحتاجه من إيقاعات النمو الجسدي الحر، والذي يأخذ مساره عبر النشاطات والفعاليات والألعاب وترك الحرية للجسد. فالأطفال يحتاجون إلى أن يقفزوا ويجروا ويصيحوا كلما راق لهم ذلك وجميع حركاتهم هذه إنما هي في الواقع احتياجات بدنهم وتكوينهم الذي يريد أن يتقوى بالنشاط والرياضة[15]. وهنا يجب رفض كلّ ما من شأنه أن يقيد حرية الطفل الجسدية. وهو الأمر الذي يفسر رفض روسو للقماط وهجومه العنيف على الأساليب التربوية التي تمنع الطفل من إمكانيات الحركة والقفز والانطلاق واللعب، وغير ذلك من هذه الحريات الجسدية الضرورية لنمو الطفل. كان روسو يعتقد بأنه لا يمكن للمرء أن يكون حرا بجسد مهزوم محاصر، لأن الحرية معطى طبيعي لا يقبل التجزئة والانشطار. ولا يمكن لإنسان ما أن يكون حرّا في المستوى العقلي أو العاطفي بجسد مهزوم ومحاصر.

ثانيا: الحرية العاطفية والانفعالية: إذ يتوجب إبعاد إميل عن كل ما من شأنه أن يفرض على الطفل من مشاعر مقننة وعواطف جاهزة. فالتطور الطبيعي الانفعالي للطفل ينبغي أن يتم بإطلاق العنان لمشاعره الداخلية، لتنمو نموّا يتوافق والاندفاعات النابعة من أحاسيس الطفل وتجربته ومشاعره، وتلك هي الخصوصية التي يجب ألا تتعرض لعدوان الراشدين وتسلطهم.

إن التدخل في توجيه النمو العاطفي والانفعالي هو قمع للروح الداخلية للطفل، وهو إكراه يتجاوز كلّ إكراه، لأن الروح، وهي أعمق وأقدس ما في الإنسان، يجب أن تُترك حرة أصيلة رشيقة كما أرادتها الطبيعة. فالأطفال ينبغي لهم أن يتذوقوا العالم عبر إحساسهم الإنساني بعيدا عن كل أشكال التسلط والإكراه. فللطفل الحقُّ في أن يشعر بالحرية وأن يمارسها، وأن يحب ويكره، ويغضب ويتسامح بحكم مشاعره الداخلية وعلى منوال ما تفرضه روحه الداخلية.

ثالثا: الحرية العقلية: ليس لنا أو علينا أن نفرض على عقل الطفل ما لا يحتمل وما لا يستسيغ. فالطفل يعيش حالة من الاغتراب الحقيقي عندما نفرض على عالمه الصغير رؤانا ومعتقداتنا. ونعلمهم وبصورة مبكرة ما نرغب فيه من العلوم والمعارف. وهو ما يتنافى وغاية الطبيعة التي شاءت أن يكون الأطفال أطفالا قبل أن يصبحوا رجالا. فإن كنا نريد أن نقلب هذا الوضع. فسوف ننتج ثمارا قبل أوانها، ليس فيها نضوج ولا نكهة، ولا تلبث هذه الثمار الفجّة أن يدبّ إليها الفساد، فنحصل مثلا على علماء شبان هم في الواقع أطفال مسنون[16].

إن التعليم المبكر يقضّ مضاجع الأطفال ويحرمهم من عطاء الطبيعة بوصفهم أطفالا. والتربية الطبيعية وفقا لمفهوم روسو لا تعير قيمة لعامل الوقت، فهي ترى في تجاهل ربحه عملية استثمار عظيمة، لأنّ كل لحظة تبدّد في سبيل التربية، تجد مردودها العظيم في التكوين الخلقي والإنساني للطفل. فعقله يكون في مرحلة التكوين الأوّلي، وهو الملكة الإنسانية التي تنضج متأخرة. وفي النموذج التربوي لروسو يراد للطفل أن يكون قادرا على تشكيل رؤاه الخاصة للعالم، وألاّ يقبل إلا ما يراه صحيحا بمقتضى طبيعته.

ينادي روسو بألاّ نهتم بالإعداد العقلي للطّفل حتّى بعد سنّ الثانية عشرة، لأنّ فترة الطفولة هي فترة الركود العقلي وهي مرحلة كمون لا نستطيع أن نتصوّر مدى أهميتها، ولذلك يجب ألا ندفع الطفل الى التفكير ولا إلى القراءة أو إلى بذل أيّ مجهود عقلي في هذه المرحلة.

تعتمد التربية السّلبية على قانون الجزاء الطبيعي، بحيث ندع الطفل يتحمّل النتائج الطبيعية المترتبة عن أعماله دون تدخل أيّ إنسان. ويرى روسو في ذلك أنّ المربي يمكنه أن يقوّم أخلاق الطفل بأنْ يبيّن له أنّ العقوبة كانت طبيعية. والمثال على ذلك: إذا أبطأ الطفل في ارتداء ملابسه للخروج للنزهة فاتركه في المنزل. وإذا أفرط في الأكل أتركه يعاني ألم التّخمة. وباختصار دعه يتحمّل النتائج الطبيعية لعدم خضوعه لقوانين الطبيعة.

وباختصار، التربية السلبية لا تعني نفيا للتربية، بل هي تربية حرة تتوافق مع الطبيعة وقانونها. وإذا كانت التربية الإيجابية تسعى إلى تكوين النفس قبل الأوان، فإن التربية السلبية تسعى إلى تعبيد طريق المعرفة وجعل أدواتها جاهزة قبل إعطاء المعرفة. إنها التربية التي تسعى إلى تحقيق التوازن بين نمو العضوية والوجدان والعقل عند الأطفال. وهي تنطلق من مبدأ النمو الذاتي الحر لطبيعة الطفل.

على سبيل الختم:

لقد أحدث روسو انقلابا فكريا في عصره وفي العصور التي تتابعت بعده. ولا غرابة في ذلك، فهو مؤسس التربية الحديثة وصاحب أكثر النظريات التربوية عبقرية وغرابة. وممّا يثير الدهشة هو أنّ علم النفس الحديث والنظريات التربوية الحديثة قد استجابت لاندفاعات روسو العبقرية الجامحة المتمرّدة. ولم تستطع الانتقادات التي وجهها العلماء والمفكرون والكتاب لنظريته التربوية والاجتماعية أن تنال من قيمتها. صحيح أنّ مظاهر النظرية قد تبدو غريبة مستغربة، ولكن جوهرها الإنساني ما زال يحلق في الأجواء الشامخة.

لقد وضع روسو حجر الزاوية لانقلاب فكري تربوي ثوري أتى على كل التراث القديم في مجال التربية، وأحدث انقلابا كوبرنيكيا في المفاهيم والرؤى والتصوّرات. وستبقى نظريته في التربية شاهدة على عمقها الإنساني. فجان جاك روسو ظهر إذن، كزعيم لحركة تربوية استلهمت روحها من الحركة الطبيعية التي تدعو إلى أخذ الطفل بما يوافق ميوله وطبائعه، وتشجيع وتنمية قدراته وإفساح المجال لنموها وفق المرتكزات التالية:

 الإيمان ببراءة الطفل: وهو تأكيد لاعتقاده بخيرية الطبيعة البشرية، إنه يذكر أن الإنسان ابن الخطيئة بمعنى الإيمان بأن طبيعة الطفل الأصلية طبيعة خيّرة، فهو ينفي وجود الخطيئة الأصلية التي هي إحدى العقائد المسيحية. ويرى أن ما يلحق الطفل من فساد إنما يأتيه من البيئة الفاسدة وليس من فطرته الأصلية.

 الإعلاء من شأن الطبيعة: فالطبيعة يتعلم منها الإنسان ما يحتاج، والتربية الصحيحة هي السير وفق قوانينها بمعنى احترام دور الطبيعة في تربية النشء، حيث يرى روسو أن تربية الطفل حصيلة عوامل ثلاثة:

 العامل الأول: الطبيعة ويعني بها هنا النمو الداخلي لأعضاء الطفل وخاصة بدنه وحواسه.

 العامل الثاني: هم الناس أو ما يفعله الطفل مع الآخرين.

 العامل الثالث: هي الأشياء أو ما يكتسبه الطفل من اختباره للأشياء التي حوله.

وتقتضي التربية الطبيعية بأن نجعل من العاملين الثاني والثالث مكمّلين للعامل الأول. ويتحقق ذلك باحترام دوافع الطفل الفطرية، أو بالعمل على تحرير قواه بدلا من تعطيلها وتحريفها بإخضاعها للنظم الاجتماعية، ثم بأن نتيح له أكبر قدر ممكن من الاحتكاك بمظاهر الطبيعة المادية لكي يجد فيها الأجوبة على تساؤلاته.

 مبدأ الحرية: ترك الطفل يتدبر أمره بنفسه، وهو ما سيحمله على التفكير واكتشاف المفاهيم والحقائق، وعلى المربي أن يخلق مأزقا للطفل، ثم يترك له الحرية للخروج من المأزق، وبهذا تتمّ عملية التعلم التلقائي الرّاسخ.

 مبدأ التربية السلبية: أي ألاّ نعلم الطفل شيئا لا يطلب تعلمه، فنترك له الحرية في الحركة والاحتكاك واكتشاف الخبرة العملية والابتعاد عن الدروس اللفظية.

 الإيمان بميول الطفل وحاجاته: الطفل هو محور التربية فمن حق الطفل أن يعيش طفولته، وليس من حق الكبار أن يفرضوا عليه نمط الحياة الذي يريدونه لأنّ في ذلك تشويها لنموه الطبيعي.

 إنّ الهدف الأسمى للتربية هو تحقيق النزعات الطيبة وتعميقها في الطبيعة البشرية من خلال المؤسسات الاجتماعية.

 يولد الإنسان كائنا طيّبا ولكنّ فساد المجتمع هو الذي يفسد طبيعته البشرية.

 الطبيعة البشرية مثل النبات الذي لا بد أن نرعاه ونهتم به. وهذه هي مهمّة المربي.

 لنا ثلاثة معلمين، هم: الطبيعة والإنسان والأشياء. الطبيعة تعلّمنا عن طريق النمو الداخلي وعن طريق الألم والمعاناة. والرجل يعلمنا أو يجب أن يعلمنا كيف نستفيد ممّا نتعلمه من الطبيعة. بينما الأشياء تزيدنا خبرة.

 يجب أن تكون الدروس التي نتعلمها من هذه الجهات الثلاث متناغمة وغير متصارعة أو متنافرة فيما بينها.

 لا سيطرة لنا على ما تعطينا إياه الطبيعة. فغرضنا هو الغرض الذي تحدّده لنا الطبيعة.

 يجب أن تنسجم مشاعرنا وخيالنا وقدراتنا الذهنية مع ميولنا الطبيعية.

 يجب أن نحترم براءة الأطفال. ويجب أن نسمح لهم بأن يستمتعوا بطفولتهم وأن يعيشوها.

 يجب أن يتعلم الأطفال الاعتماد على النفس، وكلما ازدادت قدرتهم للاعتماد على أنفسهم قلّ اعتمادهم على الآخرين.

 يجب أن يختبر الأطفال المعاناة بشكل يمهّد لهم السبيل أن يعيشوا الحياة بشكل كامل.

 لا ينبغي توبيخ الأطفال أكثر مما يجب، فهذا يجعلهم كالعبيد. ولا التّسامح معهم أكثر مما يجب، فهذا يجعلهم مستبدّين.

 لا تستعمل مشاعر دنيئة في تربية الأطفال، مثل الخوف والحسد والجشع والغيرة كوسائل لتربية الأطفال.

 ينبغي تشجيع الأطفال على التعلم عن طريق الخبرة، وتجنب الدروس المباشرة.

إن النتائج المتوصل إليها آنفا تسمح لنا باستنباط نتيجة مهمّة مفادها أنّ الانخراط الفعال للفرد في الحياة بمختلف مجالاتها الاجتماعية والسياسية والمعرفية والأخلاقية… مشروط بطبيعة التربية التي تلقّاها في مختلف مراحل نموه، إذ لا يمكن في نظر روسو أن تبدأ التربية بما تطلبه في رسم غاياتها: الانخراط الفعال في المجتمع، بل إنّ تحصيل هذه الغاية يفرض البدء بتنمية الطفل وطبيعته على نحو يوافق غايات الطبيعة فيه، والتي يراها روسو الضمانة الوحيدة لهذا الانخراط. وعليه تصير كلّ تربية موجهة ومحكومة بغايات المجتمع غير صالحة لإعداد الطفل للحياة. فالحاضر سابق على المستقبل، والفرد سابق على المجتمع. وكلما أذكينا الطبيعة في الفرد كلما كان قادرا على التكيف مع المجتمع ومتطلباته بفعل التوازن الداخلي الذي يتمتّع به.

إذا كان روسو ينتقد التربية التقليدية وأساليبها لكونها تتّخذ من المجتمع وغاياته منطلقا لها في تغييب صريح للطفل (الفرد) وطبيعته، فإنه في نظريته التربوية قد قلب المعادلة، وجعل من الطفل (الفرد) وطبيعته الخيّرة منطلقا لكلّ تربية.

هذا القلب يضع المنظومة التربوية لدى روسو أمام تساؤلات مشروعة، نورد ما يهمنا منها على النحو الآتي:

 إذا كان الاجتماع غير طبيعي في الإنسان، فكيف لتربية تذكّي الطبيعة في الفرد أن تضمن لنا الانخراط في الحياة الاجتماعية، بمعنى آخر ألا تبعد التربية الطبيعية الفرد عن كل اجتماع؟

 إذا كانت الطبائع في الناس مختلفة فهذا يعني أن التربية تزكّي هذا الاختلاف وتغذّيه لتتوسّع دائرته، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف لتربية كهذه أن تحفّز الأفراد على العيش المشترك.

إن طرح هذه الأسئلة لا يعبّر عن رغبة أو عن دعوة لتبيان جوانب القصور والتناقض في أطروحة روسو أو البحث عن أجوبة لها، بقدر ما نبتغي من ذلك التنبيه عليها لتحييدها وإخراجها من دائرة اهتمامات هذا العمل. وهو الذي أردنا له الوقوف على جوانب من نظرية روسو التربوية التي اهتمت بطبيعة الطفل، وجعل التربية آلية لخدمة غاية الطبيعة ومقصدها. فحاضر الطفل أسبق من مستقبله ومصير المجتمع مادامت الطبيعة تطلب أن يكونوا أطفالا قبل أن يصبحوا رجالا. بهذا يكون روسو مكتشف قارة الطفولة قد ترك آثارا لا تمحى في حقل التربية ونظرياتها.

المراجع:

[1]– جان جاك روسو، خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر، ترجمة بولس غانم، تدقيق وتعليق وتقديم عبد العزيز لبيب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009.

[2]– KAHN P., Emile et les Lumières, dans L’éducation, approches philosophiques, PUF, Paris, 1990

[3] – P. BURGELIN, La Philosophie de l’existence de Jean-Jacques Rousseau, Paris, 1952, 2e éd. 1973, rééd. 1978.

[4]– جان جاك روسو، إميل أو تربية الطفل من المهد إلى الرشد، نقله إلى العربية نظمي لوقا، تقديم أحمد زكي محمد، الشركة العربية للطباعة والنشر، (د.ت)، ص24.

[5]– المصدر السابق، ص38.

[6]– يقول روسو:”إن دراستنا الحقّ هي دراسة البيئة الإنسانية. وبهذا تكون التربية الحقة بالممارسة أكثر ممّا هي بالتلقين. فالإنسان يبدأ التعلّم حين يبدأ الحياة. فتربيتنا تبدأ معنا، ومعلمنا الأوّل هو حاضنتنا.” المصدر السابق، ص32.

[7]– يقول روسو:” راقبوا الطبيعة وانظروا كيف تبيّن لكم السبيل” المصدر سابق، ص37.

[8]– المصدر السابق، صص32-33.

[9]– جان جاك روسو، إميل أو تربية الطفل من المهد إلى الرشد، مصدر سابق، ص80- 81.

[10]– المصدر السابق، ص34.

[11]– المصدر السابق، ص71.

[12]– يقول روسو:”لا ينبغي أن نلقن التلميذ دروسا لفظية. فالتجربة وحدها هي التي يجب أن تتولى تعليمه وتأديبه. فالتربية الأولى ينبغي إذن أن تكون تربية سلبية خالصة. ولا يجب أن يفوتنا أمر مراقبة طبيعة الطفل وسلوكه كي نكتشف بدقة عن المزاج الخاص للتلميذ”. المصدر السابق، ص98.

[13]– المصدر السابق، ص79.

[14]– المصدر السابق، ص91.

[15]– المصدر سابق، ص84.

[16]– المصدر السابق، ص 95.



   نشر في 22 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا