ظاهرة الإسلام السياسي النائم - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

ظاهرة الإسلام السياسي النائم

التصوف

  نشر في 02 أبريل 2019 .

كانت، وما تزال، الأنظمة الشمولية التي تتحكم في مصير الدول الإسلامية، ترنوا لتحصين نفسها مما تعتبره مدا للإسلام السياسي، الذي لا تستطيع لا السيطرة عليه ولا تدجينه، و هي تعتبرأن المعركة معه ترتقي إلى كونها معركة وجودية. فتسعى إلى صناعة نخب وتعبئتها لإسكات العامة و احتوائها. وقد تلجأ كذلك إلى حركات بعينها لتقوم بهذا العمل من أجل الإستقرار و ضمان خنوع وولاء العامة. يعتبر التصوف أحد تلك الحركات السياسية النائمة في الظاهر، لكنها في الباطن تلعب دورا مهما في الترويج لأفكار الأنظمة و الكيانات التي تدعمها. تسييس التصوف ليس وليد اللحظة الراهنة، فدائما ما كانت هناك علاقات قائمة بين المتصوفة والأنظمة السياسية على قاعدة المصالح المتبادلة، فتحصل الطرق الصوفية على المكانة والنفوذ والدعم المالي ومساحات واسعة لنشر الفكر، بينما تستفيد منها الأنظمة في شرعنة وجودها وسياساتها، إضافة إلى استخدام التصوف لصنع حالة من التوازن أمام التيار الإسلامي أوما يعرف بالإسلام السياسي.

I - نشأة التصوف:

1ـ التسمية: اختلف الناس في بدء ظهور هذه الكلمة واستعمالها كاختلافهم في أصله وتعريفه، فذكر ابن تيمية (الصوفية والفقراء) وسبقه ابن الجوزي (تلبيس إبليس) وابن خلدون، في مقدمته، في هذا أن لفظ الصوفية لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة الأولى، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك، وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام أحمد بن حنبل، وأبي سليمان الداراني وغيرهما، وقد روي عن سفيان الثوري أنه تكلم به، وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري. وقال السراج الطوسي في الباب الذي خصصه للرد على من قال: "لم نسمع بذكر الصوفية في القديم وهو إسم مستحدث" أن الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لها حرمة، وتخصيص من شمله ذلك، فلا يجوز أن يعلق عليه اسم على أنه أشرف من الصحبة، وذلك لشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرمته، إلا أنه قد رُوي عن الحسن البصري أنه قال: رأيت صوفيا في الطواف فأعطيته شيئا فلم يأخذه وقال: معي أربعة دوانيق يكفيني ما معي. وروي عن سفيان الثوري أنه قال: لولا أبو هاشم الصوفي ما عرفت دقيق الرياء، وقد ذكر الكتاب الذي جُمع فيه أخبار مكة عن محمد بن إسحاق بن يسار، وعن غيره يذكر فيه حديثاً: أنه قبل الإسلام قد خلت مكة في وقت من الأوقات، حتى كان لا يطوف بالبيت أحد، وكان يجيء من بلد بعيد رجل صوفي فيطوف بالبيت وينصرف، فإن صح ذلك فإنه يدل على أنه قبل الإسلام كان يعرف هذا الاسم، وكان يُنسب إليه أهل الفضل والصلاح. وأما الهجويري فلقد ذكر أن التصوف كان موجودا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وباسمه، واستدل بحديث موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سمع صوت أهل التصوف فلا يؤمن على دعائهم كتب عند الله مالغافلين)(1) وأما المستشرقون الذين كتبوا عن التصوف، ويعدون من موالي الصوفية وأنصارهم، فمنهم نيكلسون الذي يرى مثل ما يراه الجامي أن لفظة التصوف أطلقت أول ما أطلقت على أبي هاشم الكوفي المتوفى سنة 150 هـ. (2) ولكن المستشرق الفرنسي المشهور ما سينيون يرى غير ذلك، فيقول: ورد لفظ الصوفي لأول مرة في التاريخ في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي إذ نعت به جابر بن حيان، وهو صاحب كيمياء شيعي من أهل الكوفة، له في الزهد مذهب خاص، وأبو هاشم الكوفي الصوفي المشهور أما صيغة الجمع (الصوفية) التي ظهرت عام 189 هـ (814 م) في خبر فتنة قامت بالأسكندرية فكانت تدل قرابة ذلك العهد على مذهب من مذاهب التصوف الإسلامي يكاد يكون شيعيا نشأ في الكوفة، وكان عبدك الصوفي آخر أئمته، وهو من القائلين بأن الإمامة بالإرث والتعيين، وكان لا يأكل اللحم، وتوفى ببغداد حوالي عام 210 هـ .وإذن فكلمة صوفي كانت أول أمرها مقصورة على الكوفة (3) وقال أيضا: صاحب عزلة بغدادي، وهو أول من لقب بالصوفي، وكان هذا اللفظ يومئذ يدل على بعض زهاد الشيعة بالكوفة، وعلى رهط من الثائرين بالأسكندرية، وقد يعد من الزنادقة بسبب إمتناعه عن أكل اللحم، ويريد الأستاذ أول من لقب بالصوفي في بغداد كما يؤخذ مما نقله عن الهمذاني، ونصه: (ولم يكن السالكون لطرق الله في الأعصار السالفة والقرون الأولى يعرفون باسم المتصوفة، وإنما الصوفي لفظ أشتهر في القرن الثالث، وأول من سمي ببغداد بهذا الاسم عبدك الصوفي، وهو من كبار المشائخ وقدمائهم، وكان قبل بشر بن الحارث الحافي والسري بن المفلس السقطي). (4) والجدير بالذكر أن هؤلاء الثلاثة الذين يقال عنهم بأنهم أول من سمّو بهذا الاسم، وتلقبوا بهذا اللقب مطعونون في مذاهبهم وعقائدهم، ورمى كل واحد منهم بالفسق والفجور وحتى الزندقة، وخاصة جابر بن حيان، وعبدك.

2 ـ أول خانقاه بنيت للتعبد الصوفي: صرح عبد الرحمن الجامي: (أن أبا هاشم الكوفي أول من دعى بالصوفي، ولم يسم أحد قبله بهذا الاسم، كما أن أول خانقاه بني للصوفية هو ذلك الذي في رملة الشام، والسبب في ذلك أن الأمير النصراني كان قد ذهب للقنص، فشاهد شخصين من هذه الطائفة الصوفية سنح له لقاؤهما وقد احتضن أحدهما الآخر وجلسا هناك، وتناولا معا كل ما كان معهما من طعام، ثم سارا لشأنهما، فسرّ الأمير النصراني من معاملتهما وأخلاقهما، فاستدعى أحدهما، وقال له: من هو ذاك؟

قال: لا أعرفه، قال: وما صلتك به؟

قال: لا شيء قال: فمن كان؟

قال: لا أدري، فقال الأمير: فما هذه الألفة التي كانت بينكما؟

فقال الدرويش: إن هذه طريقتنا، قال: هل لكم من مكان تأوون إليه؟ قال: لا، قال: فإني أقيم لكما محلا تأويان إليه، فبنى لهما هذه الخانقاه في الرملة) (5)

II تطور الفكر الصوفي: 

1 - التعريف: اختلف الدراسون والباحثون القدامى والمحدثون على تحديد موحّد للمفهوم الإصطلاحي للتصوف، وهذا راجع إلى اختلافهم حول ماهيته، فبحسب رأيهم فإن التصوف يشتمل على أحوال ومقامات ويتضمن أخلاقا، ويهدف إلى سلوك الطريق الموصل إلى الله تعالى وفقا للاجتهادات الخاصة التي يتخذها كل منهم في هذا السبيل. وقد نجد مدرستين كبيرتين في تعريف التصوف بحسب التواجد في الطريق إلى الله، فمنهم من يعرفه بـــ”بدايات الطريق”،والبعض الآخر يعرفه انطلاقا من”الغاية والهدف” أو”نهاية الطريق”. ونجد أيضا من يتكلم فيه بلسان الحال الذي ينفعل به أو المقام الذي يستقر فيه في وقته “ (6) وهذا ما دعا العلامة ابن خلدون (ت808هـ) إلى القول بأن التصوف ليس بعلم يمكن التعبير عنه، إذ “العلم الذي يعبر عنه إنما هو العلوم الاصطلاحية الكسبية، وأما الوجدانية فلا” (7). ومن الذين اجتهدوا في تعريف الفكر الصوفي انطلاقا من بدايات الطريق محمد بن علي ، أستاذ الجنيد(ت200هـ) في التصوف، حيث قال:”التصوف أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم، من رجل كريم مع قوام كريم “(8) . وعرفه أيضا أبو القاسم الجنيد (ت200هـ) (9) معبرا عنه بأحوال النهاية فقال:”هو أن يميتك الحق عندك ويحييك به”(10)، وقال فيه أبو عثمان بن سعيد بن اسماعيل(ت298هـ) (11) “التصوف الصحبة مع الله بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة والصحبة مع رسول الله باتباع سنته ولزوم ظهور العلم” (12). أما القشيري(ت645هـ)، فقد تناول فيه الجانب الاصطلاحي، فقال: ”يقال له متصوف والجماعة متصوفة” قال:”وليس لهذا الاسم من جهة العربية قياس ولا اشتقاق والأظهر فيه أنه لقب”(13)، ثم تحدث فيه البغدادي ، فعبر عن التصوف بعلامة، قال فيها:”علامة الصوفي الصادق أن يفتقر بعد الغنى ويذل بعد العز ويخفى بعد الشهرة وعلامة الكاذب العكس” (14). وهذه التعاريف إن دلت على شئ فإنما تدل على جانب الغموض والتباين في المصطلحات التي استعملها هؤلاء ، فبين معرف له ببدايات الطريق أو بأحوال النهاية أو بعلامة أو ….. تظهر مصطلحات روحانية غير ملموسة لا يطّلع عليها إلا الملّم بالطريقة، الشئ الذي يعلل به الكثيرون هذا الغموض الإصطلاحي، فيقولون بأن “تعبيراتهم وجدانية ذوقية ولا يمكن التعبير عنها إلا لمن يشارك في وجدانها وذوقها”(15). وقد حاول د.عناية الله الأفغاني تبسيط التعريف فتناول الجانب الأخلاقي كهدف سام يصل إليه من سلك سبيل التصوف، فجاء تعريفه كالتالي: “التصوف هو الالتزام بالصفات الحميدة التي أوردتها الأديان في رسالتها أو هو الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق أو هو دوام العمل للوصول إلى الحق على حال لا يعلمها إلا الحق”(16). أما الشيخ زروق (899ه) فقد اعتمد في تعريف المصطلح على الجانبين الفكري والتربوي من حيث تمييزه عن غيره وبيان حكمته ومقصوده، وتوضيح غايته ومراميه، فقال: ”التصوف علم قصد لإصلاح القلوب، وإفرادها لله تعالى عما سواه. والفقه لإصلاح العمل، وحفظ النظام، وظهور الحكمة بالأحكام. والأصول”علم التوحيد” لتحقيق المقدمات بالبراهين، وتحلية الإيمان بالإيقان”(17) . وعموما فقد “حُدَّ التصوف ورسم وفسر بوجوه تبلغ نحو الألفين، مرجع كلها لصدق التوجه إلى الله تعالى، وإنما هي وجوه فيه”(18) كما قال الشيخ زروق. وقد ذكر القشيري في رسالته، أنه اختلف في نسبة التصوف هل إلى “الصفاء”، لصفاء قلوبهم أم إلى “الصفة”(19) لتجردهم من الحظوة الدنيوية فشابهوا حال أهل الصفة، أم إلى “الصفّ” لما حرصوا عليه من الفضل والأعمال المقربة وطلب التقدم إلى رضوان؟(20). وقد استبعد الأول من حيث اللغة لأن النسبة إلى الصفا صفوي، واستبعد الثاني (أهل الصفة) لأن النسبة إليها من (صفيّ لا صوفي ) ، واعترض على النسبة إلى “الصف” لنفس المعطى(21). وقيل إن النسبة إلى ”صوفانة” وهي بقلة تنبث بالصحراء ، فنسبوا إليها لأنهم اجتزأوا باليسير وبما لا يلتفت إليه ، قانعين ببقلة مجتزئين بها(22). وقيل اختصوا بهذا الاسم لاعتنائهم بلبس الصوف (23) لكن هذا لا يستقيم دليلا لما عرف عن كثير من أهل التصوف تركهم للباس الصوف، وقد رجح غير واحد النسبة إلى أهل الصف، منهم أبو نعيم الأصبهاني (ت430هـ) في حلية الأولياء(24) وأبو الفضل جعفر الأدنوي المصري (ت748هـ) في “الوفي بمعرفة التصوف والصوفي” (25) وأبو محمد عبد الرحمن بن الحسين السلمي ، يقول في كتابه “بيان أحوال الصوفية”: ” اعلم وفقك الله للخيرات، أن التصوف مأخوذ من أهل الصفة الذين ترتّلوا(26) على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا أضياف المسلمين وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقعد معهم ويأنس بهم وكانوا فقراء المهاجرين الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صعاليك المهاجرين، وكانوا في فقرهم كما وصفهم الله في كتابه بقوله: (( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم))الحشر8. فبيّن أنهم لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا معلوم ولكنهم قاعدون على ما يفتح لهم من غير سؤال …يبتغون فضل الله في دنياهم ورضوانه في عقباهم …لا يعرفهم ولا يعرف طريقهم إلا من هو في درجتهم وعلى طريقتهم ، يعرفون بسيم العبادة، وكان النبي يقعد معهم ويأنس بهم ، لا يلبسون المرقعة والملونة من الثياب ، لا يسألون الناس إلحافا ، لأن ألسنتهم غنية عن سؤال من يملك الملك رضى بما يجري عليهم ، فكيف تنطق ألسنتهم بسؤال العبد؟…فهذا هو طريق التصوف”(27). يتوضح جليا من خلال هذا النص أحوال الفكر الصوفي التي تتأسس على المنهج الابتغائي الدائم (فضل الله في الدنيا ورضوانه في الآخرة) ، والالتزام بوسائل العبادة التي تقرّب إلى الزهد والورع والتقوى وتبعد عن السؤال والطلب وكل الأخلاق الذميمة، وهذا ما يرجح كفة للقائلين بالنسبة إلى أهل الصفة. وهكذا يمكن الوصول إلى نتيجة مفادها أن أن حدية مصطلح التصوف لم تكن واضحة المعالم في القرون الأولى، وإنما كان الدارج هو التعريف المتصل بصفاء العبادات، لهذا ظهر الاختلاف في توضيح المراد من الفكر الصوفي، بين التعريف ببدايات الطريق، أو نهاية الطريق، أو الغايات والأهداف التي يبتغي التوصل إليها، وهي كمال الأخلاق.

2 - التأصيل: قد يكاد لا يختلف اثنين على أن بذور التصوف في مراحلها الأولى وجدت لها في سلوك النبي المصطفى (ص) و صحابته الكرام، في التجرد و العبادة و الزهد ومجاهدة النفس وعدم التعلق بالدنيا، تربة خصبة نمت فيها و ترعرعت في عصور التابعين، حتى غذت فكرا ناضجا مكتمل الأركان. يقول صاحب (منهاج العارفين): ” التصوف عبارة عن حالة وجدانية جذورها في القرآن وفي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم طائفة باسم “الصوفية” أو “المتصوفة” لأن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم كانت أعلى الرتب بعد النبوة، وقد فصّل القرآن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث طبقات، وهم: السابقون الأولون من المهاجرين، والسابقون الأولون من أهل المدينة -أي الأنصار- ثم الذين أسلموا بعد أولئك المسلمين الأوائل” (28). ويقول رواد الفكر الصوفي أن الصحابة رضوان الله تعالى عنهم جميعا، كانوا صوفية قولا وعملا وإن لم يكونوا كذلك اسما، ويعتمدون في ذلك على أمثلة من سيرهم في تدعيم زعمهم.¨

أ- أبو بكر الصديق: يقول أبو بكر الواسطي (ت320هـ)(29) الصوفي المشهور: ” إن أوّل لسان الصوفية ظهرت في هذه الأمة على لسان أبي بكر إشارة، فاستخرج منها أهل الفهم لطائف توسوس فيها العقلاء”(30). والسبب في أن الصديق الأول للرسول الكريم هو أول لسان الصوفية هو أنه حين خرج عن جميع ملكه وزهد في ماله، قال له النبي الأعظم :”ماذا خلفت لعيالك؟” قال أبو بكر:”الله ورسوله”، وهذه الإجابة القلبية النفسية الروحية الطاهرة إن دلّت على شيء، فإنما تدلّ على أنها إشارة جليلةلأهل التوحيد في حقائق التفريد”(31).

ب- عمر بن الخطاب: ظهر مصطلح العلم اللّدني والذوقي الذي هو أساس الزهد عند سيدنا عمر، كما أشار إلى ذلك صاحب اللمع: فقد “كان لعمر بن الخطاب مقام معلوم عند أهل التصوف، وقد احتلّت تلك الثورة الصافية عندهم مكانة حياة الرجل الزاهد حقا فاعتبروه صاحب المقام الثابت المأنوق، أعلى الله به دعوة الصادق المصدوق وفرّق به بين الفصل والهزل، كان للحق مائلا وبالحق صائلا وللأثقال حاملا ولم يخف دون الله طائلا”(32)، كما أن لعمر كرامات تعلق بها هؤلاء ، كقوله حين كان يخطب لأحد قادته”سارية” في المعركة: ”يا سارية الجبل الجبل” فظفر سارية بالمعركة بعد أن نزح إلى الجبل، وقال سمعت صوت أمير المؤمنين ينادي “يا سارية الجبل الجبل” مع بعد المسافة التي كانت تفصل بينهما”(33).                

ج- عثمان بن عفان: وعثمان بن عفان أيضا يوضع في صفوة المتصوفة الأوائل “فقد كان حظه من النهار الجود والصيام ومن الليل السجود والقيام …وكان لعثمان شيئا ليس لأبي بكر وعمر مثلهما صبره على نفسه حتّى قتل مظلوما وجمعه الناس على المصحف”(34)

د ـ علي بن أبي طالب: ومع سيّدنا علي ظهر مفهوم الرباني، فكان يعرف رضي الله تعالى عنه“برباني الأمة”، يقول في حقّه أبو نعيم الأصبهاني(ت430هـ): “سيّد القوم، محب المشهود، ومحبوب المعبود، باب مدينة العلم والعلوم، ورأس المخاطبات ومستنبط الإشارات، راية المهتدين ونور المطيعين ،ووليّ المتّقين وإمام العادلين، أقدمهم إجابة وإيمانا وأقومهم قضية وإيقانا، وأعظمهم حلما وأوفرهم علما”(35). فهذا النص من حلية الأولياء يحيلنا على المعنى المفهومي لرباني الأمة الذي عرف به سيدنا علي، من جمعه بين الورع والتقوى والحياء والعلم والإيمان والحلم والصبر والحكمة، فصار ملتصقا بهذا المعنى.

3 - التحول: سار الفكر الصوفي كما بدأ في طريقه الربّاني الذي رسمه له جيل الصحابة، وتبعهم في النهج ضرب من التابعين وتابعيهم وهكذا… وبدأ الناس يدخلون فيه أفواجا ويعملون بأفكاره ومبادئه، فبدأ “يتسرّب إليه أشخاص وهم يحملون جراثيم عالقة بهم عن غفوة أو عن قصد، فيلوثوا سمعة المذهب الجديد ، وينغصوا هدوء معتنقيه… ويعرضون أئمته للقدح والتشميت بالعلل المترتبة عن هذا التسرب الدخيل على أصالته”(36). وهكذا ظهرت مفاهيم جديدة لم تكن لها ابعاد في مرحلة النشأة أو التأصيل فابن خلدون(ت808هـ) يرى أن طريقة التصوف لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية…إلى أن دخل في طريقتهم بعض المتأخرين فصيّروا المدارك الوجدانية علمية نظرية وقالوا بأن الله تعالى متّحد بمخلوقاته في هويته ووجوده وصفاته إما بالحلول فيها أو بمعنى هو عينها(37)، يؤكّد هذه الحقيقة د.سامي النشار في كتابه”نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام” فيقول:” لقد نشأ التصوف أوّل الأمر في أحضان الكتاب والسنة في صورة الزهد واسترعى أنظار بعض الخاصّة من المسلمين “المعاني الرقيقة” في القرآن، ذات الطابع العميق ورأوا فيها حقائق خفّية أعمق ممّا يرى الناس وسادت نزعة القلق في صدور الخلص من هؤلاء الناس حين اندفع المسلمون وتزاحموا في غمار الحياة ، فلجأوا إلى هذه المعاني يعمقون فيها ويجدون فيها الملجأ…وكما حاول فلاسفة الإسلام أن يدخلوا عقائد اليونان الميتافيزيقية في عقول المسلمين، نرى بعض صوفية الإسلام يلجأون في التصوف إلى بحث ميتافيزيقي تأثّر بكل ما حوله من فلسلفات…أخذوا من الفيدا الهندي وأخذوا من الإشراقة الفارسية واستمدّوا من الفيض الأفلاطوني وتأثروا بأفلاطون وأريسطو ثم وجدوا مصدرا هامّا في المجموعات الهرمسية وانتهوا إلى عقائد مختلفة أهمها عقيدة”الحلول” وعقيدة “وحدة الوجود””(38).

أـ الفكر الصوفي الفلسفي أو الإشراقي : كان من نتيجة ترجمة كتب الفلسفة اليونانية بعد الفتوحات الإسلامية، انتقال هذه الفلسفة إلى العالم الإسلامي…فتابعها بلا شك بعض المسلمين، فظهر “الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم، وكان عملهم أقرب إلى الشرح والتعليق “(39). ونظرا لتباعد المنهج الفكري بين عقيدة الإسلام الصافية التي تقوم على أساس الوحي الإلاهي وعناصر الفلسفة اليونانية التي تقوم على آراء تفسيرية للوجود حيثما استطاعت ….اشتدّ الصراع بين مفكري الإسلام ( منهم من كان ينتمي إلى طائفة علماء الكلام) ومفكري الفلسفة “وبقي النزاع بين الاثنين أمدا طويلا لم تخمد جذوته “(40)، وقد حاول غير واحد من هؤلاء الفلاسفة أن يضيف شيئا لأفلاطونيته ولمذهبه الجديد … وبما أن عددا منهم قد راعى التصوف واستحسنه … فقد حاولوا كعادتهم أن يضيفوا له شيئا فيه جدة وطرافة، ويؤكد د.سامي النشار أن “أوّل من قام بمحاولة التصوف على ركائز فلسفية في المحيط الاسلامي هو أبو نصر الفارابي (ت339هـ)، وقد أخذها عنه تلميذه ابن سينا (ت428هـ)، فأعاد الصياغة وفصّل الغامض وشرح الناهد…” (41)، كما اعتبر أيضا ابن سينا ” أعظم متصوفة عصره، لقدرته على المناقشة والجدل والتفاهم مع المتصوفة…ناهجا لغة العقل والبصيرة”(42)، بينما اعتبر ذ.عبد المجيد الصغير “أبا يزيد البسطامي” من أوائل صوفية الحقائق والمؤسس للاتجاه الإشراقي أو الفلسفي(43). وقد قامت ركائز هذا التصوف الفلسفي على ما يسمّى “بالمعرفة العليا” أو “المعرفة الإلهية“ (44)، ويقصد بها أن المنهج الصوفي الحقيقي هو “الذي ينتهي بصاحبه إلى معرفة الله عزوجل “(45) ولكن هذه المعرفة لا يمكن أن تأتي صاحبها عن طريق الأقيسة العادية أو حتى المنطقية، بل تأتيه عن طريق النور (الإشراق) الذي ينعكس في مرآة النفس، وهذا النور صدر عن الموجود الأول – الله – الذي هو الكامل من كل وجه.

ب ـ الفكر الصوفي الكلامي: علم الكلام أو علم التوحيد أو علم أصول الدين، علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، وهذا العلم هو النتاج الخالص للمسلمين(46)، ونتيجة دخول عدد من المتكلمين للتصوف واهتمامهم بالفكر الصوفي ظهرت بعض الأفكار الدخيلة التي تسرّبت للنهج الصوفي بعد أن كان صافيا ، فبدأ الكلام عن “فكرة عدم التباين” و”عدم الاتصال” بين الله ومخلوقاته(47) وظهرت فكرة “الحلول والاتحاد”. ففكرة الحلول تعني : حلول الله في مخلوقاته. وفكرة الاتحاد تعني : اتحاد روحاني بين الله والانسان (حسب زعمهم) فيصير علم هذا الانسان علم الله وقدرته قدرة الله وهكذا(48). وقد تعرّض عدد من المتصوفة ممن التزم بهذه الأفكار للنقذ والذم ، مما حدا ببعض المتصوفة إلى الغوص في معاني التصوف قصد توضيح مراميه وأهدافه، وتبيينها بشكل واضح، وتحديد المفاهيم الأساسية، وهو النهج الذي سلكه الشيخ زروق، الذي ارتكز في مفهومه النقذي على توضيح وتحقيق المعنى المفهومي للتصوف وربطه بالفقه وأصول التوحيد تصحيحا للعقيدة والعمل، يقول :” التصوف علم قصد لإصلاح القلوب، وإفرادها لله تعالى عما سواه،والفقه لإصلاح العمل، وحفظ النظام، وظهور الحكمة بالأحكام والأصول“علم التوحيد” لتحقيق المقدمات بالبراهين، وتحلية الإيمان بالإيقان، كالطب لحفظ الأبدان، وكالنحو لإصلاح اللسان “(49).    

المراجع:

(1) كشف المحجوب للهويجري ص227 

 (2) التصوف الإسلامي وتاريخه ترجمة أبو العلاء العفيفي ص4 ط القاهرة

(3) دائرة المعارف الإسلامية ط العربية مادة التصوف ج5 ص 266

(4) التصوف لماسينيون و مصطفى عبد الرزاق ص 55، 56 دار الكتاب اللبناني 1984

(5) نفحات الأنس للجامي الطبعة الفارسية ص32،31

(6) كتاب أعمال القلوب بين الصوفية وعلماء أهل السنة.د.مصطفى حلمي.ص10.دار الدعوة للطباعة والنشر(د.ت.) 

 (7) شفاءالسائل لتهذيب المسائل.عبد الرحمن بن خلدون.ص204.الدار العربية للكتاب 1991 

 (8) الرسالة القشيرية في علم التصوف.أبو القاسم القشيري.2/552.طبعةبيروت.لبنان.(د.ت.) الجنيد بن محمد الخزاز القواريري أبو القاسم شيخ وقته، أصله من نهاوند، مولده ومنشأه ببغداد، درس الفقه على أبي ثور وكان يفتي وهو ابن عشرين سنة” 

 (9 ) طبقات الأولياء. ابن الملقن. تحقيق: شريبه.ص126.دار التأليف 1973 

 (10) الرسالة القشيرية في علم التصوف.أبو القاسم القشيري.2/552.طبعةبيروت.لبنان.(د.ت.) 

 (11) أبو عثمان سعيد بن عثمان بن سعيد بن منصور الحيري، أقام بنيسابور ونشر التصوف بخراسان”. طبقات الصوفية، محمد بن الحسين السلمي.1/170.ط.القاهرة1969 (12) الرسالة القشيرية.1/138ـ139 

 (13)ا لرسالة القشيرية. 2/550 

 (14) أعمال القلوب بين الصوفية وعلماء أهل السنة.ص11 

 (15) نفسه.ص10 

 (16) جلال الدين الرومي بين الصوفية وعلماءالكلام.د.عناية الله الأفغاني .ص37.الدار المصرية اللبنانية.ط1407/1987 

 (17) قواعد التصوف.أبو العباس أحمد بن محمد زروق قاعدة13..صححه محمد زهري النجار.مكتبة الكليات الأزهرية.ط2/1976م 

 (18) قواعد التصوف.قاعدة12 

 (19) أهل الصفة جماعة من الفقراء كانوا يقيمون في صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت لزهاد المسلمين. تاريخ التصوف الإسلامي.عبد الرحمن بدوي.ص127.ط.الكويت.1975. وشفاء السائل.ص182 

 (20) الرسالة القشيرية 2/551-552 

 (21) نفس المرجع السابق 

 (22) تلبيس إبليس . أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي.ص163.ط.بيروت.لبنان1368ه (23) التعرف لمذهب أهل التصوف، محمد بن ابراهيم الكلابذي.ص29-30.تحقيق:عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي.ط.القاهرة1960 

 (24) ط.القاهرة1932 

 (25) ص42. تحقيق وتعليق:د.محمد عيسى صالحية.دار العروبة للنشرو التوزيع.ط.الكويت.1408هـ-1988 

 (26) أي اتبعوا أوامر النبي صلى الله عليه وسلم أحسن اتباع

بيان أحوال الصوفية، ابو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي. ص365-366. تحقيق:د.سليمان ابراهيم آتش 

 (27) الناشر للطباعة والنشر والتوزيع.ط1.1414هـ

(28) منهاج العرافين.أبو عبد الرحمن السلمي.ص9-10.بتصرف .مقدمة المحقق

محمد بن موسى ، ابي بكر الواسطي، يعرف بابن الفرغاني، من قدماء أصحاب الجنيد(ت200هـ)، وهو من علماء مشايخ القوم، لم يتكلم أحد في أصول التصوف مثل ما تكلم هو ، كان عالما بالأصول وعلوم الظاهر. طبقات الصوفية، أبو عبد الرحمن السلمي. 

 (29) تحقيق: مصطفى عبد القادرعطا.ص232.دار الكتب العلمية.ط1.1419هـ 

 (30) اللمع في التصوف.ص168. وانظر دراسات في التصوف الإسلامي.ص56 

 (31) دراسات في التصوف الإسلامي.ص41 

 (32) حلية الأولياء .أبو نعيم1/38 

 (33) اللمع في التصوف. ص173

(34) حلية الأولياء 1/155 

 (35)حلية الأولياء1/61ـ62

(36) التصوف الإسلامي بين السنية والتطرف. محمد محمدبنيعيش. ص82. مركز الخدمات المتحدة.ط1.1993 

 (37) المقدمة ص611ـ616 بتصرف.مراجعةد.سهيلزكار .دار الفكر. ط1 1401هـ/1981 

 (38) نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام 1/37 

 (39) نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام1/30

(40) المرجع السابق

(41) التصوف في الميزان.ص.103

(42) المرجع السابق

(43) إشكالية إصلاح الفكر الصوفي في القرنين 18و19م.ط. دار الآفاق الجديدة بالمغرب يقول ابن خلدون(ت808هـ) وهو يرد على ابن سينا صاحب الفكرة:”…وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية، ولا دليل شرعي وإنما هو نوع من أنواع الخطابة” 

 (44) المقدمة .ص620

(45) المرجع السابق

(46) نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام .1/38

(47) مقدمة ابن خلدون .ص617. مرجع سابق

(48) كتاب التصوف بين السنية والتطرف .ص96 وما بعدها. ومجلة البحوث الفقهية المعاصرة ص 230. العدد 32. رمضان1417هـ.(مقال حكم التصوف في الشريعة)

(49) قواعد التصوف. قاعدة13..مرجع سابق.



  • عادل بن غزيل
    باحث مغربي بلجيكي في الجامعة النمساوية العربية للعلوم و التكنولوجيا بفيينا. صاحب كتاب "حركات الإسلام السياسي و الجذور العقدية للتطرف".
   نشر في 02 أبريل 2019 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا